فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وأوفوا بالعهد} عام فيما عقده الإنساب بينه وبين ربه، أو بينه وبين ربه، أو بينه وبين آدمي في طاعة {إن العهد كان مسؤولًا} ظاهره أن العهد هو المسؤول من المعاهد أن يفى به ولا يضيعه أو يكون من باب التخييل، كأنه يقال للعهد: لم نكثت، فمثل كأنه ذات من الذوات تسأل لم نكثت دلالة على المطاوعة بنكثه وإلزام ما يترتب على نكثه، كما جاء {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت} فيمن قرأ بسكون اللام وكسر التاء التي للخطاب.
وقيل: هو على حذف مضاف أي إن ذا العهد كان مسؤولًا عنه إن لم يف به.
ثم أمر تعالى بإيفاء الكيل وبالوزن المستقيم، وذلك مما يرجع إلى المعاملة بالأموال.
وفي قوله: {وأوفوا الكيل} دلالة على أن الكيل هو على البائع لأنه لا يقال ذلك للمشتري.
وقال الحسن: {القسطاس} القبان وهو القلسطون ويقال القرسطون.
وقال مجاهد: {القسطاس} العدل لا أنه آلة.
وقرأ الإخوان وحفص بكسر القاف، وباقي السبعة بضمها وهما لغتان.
وقرأت فرقة بالإبدال من السين الأولى صادًا.
قال ابن عطية: واللفظية للمبالغة من القسط انتهى.
ولا يجوز أن يكون من القسط لاختلاف المادتين لأن القسط مادته ق س ط، وذلك مادته ق س ط س إلاّ إن اعتقد زيادة السين آخرًا كسين قدموس وضغيوس وعرفاس، فيمكن لكنه ليس من مواضع زيادة السين المقيسة والتقييد بقوله: {إذا كلتم} أي وقت كيلكم على سبيل التأكيد، وأن لا يتأخر الإيفاء بأن يكيل به بنقصان مّا ثم يوفيه بعد فلا يتأخر الإيفاء عن وقت الكيل.
{ذلك خير} أي الإيفاء والوزن لأن فيه تطييب النفوس بالاتسام بالعدل والإيصال للحق {وأحسن تأويلًا} أي عاقبة، إذ لا يبقى على الموفى والوازن تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو من المآل وهو المرجع كما قال: خير مردًا، خير عقبًا، خير أملًا وإنما كانت عاقبته أحسن لأنه اشتهر بالاحتراز عن التطفيف، فعوِّل عليه في المعاملات ومالت القلوب إليه.
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}.
لما أمر تعالى بثلاثة أشياء، الإيفاء بالعهد، والإيفاء بالكيل، والوزن بالقسطاس المستقيم أتبع ذلك بثلاثة أمّناه: {ولا تقف} {ولا تمش} {ولا تجعل}.
ومعنى {ولا تقف} لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، نهى أن نقول ما لا نعلم وأن نعمل بما لا نعلم، ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع بما لا يعلم صحته.
وقال ابن عباس: معناه لا ترم أحدًا بما لا تعلم.
وقال قتادة لا تقل رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه.
وقال محمد بن الحنيفة: لا تشهد بالزور.
وقال ابن عطية: ولا تقل لكنها كلمة تستعمل في القذف والعضة انتهى.
وفي الحديث: «من قفا مؤمنًا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتي يأتى بالمخرج» وقال في الحديث أيضًا: «نحن بنو النضر بن كنانة لا تقفو منا ولا ننتفي من أبينا» ومنه قول النابغة الجعدي:
ومثل الدمى شم العرانين ساكن ** بهنّ الحيا لا يتبعن التقافيا

وقال الكميت:
فلا أرمي البريء بغير ذنب ** ولا أقفو الحواضن إن قفينا

وحاصل هذا أنه نهى عن اتباع ما لا يكون معلومًا، وهذه قضية كلية تندرج تحتها أنواع.
فكل من القائلين حمل على واحد من تلك الأنواع.
قال الزمخشري: وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح لأن ذلك نوع من العلم، وقد أقام الشرع غالب الظنّ مقام العلم وأمر بالعمل به انتهى.
وقرأ الجمهور: {ولا تقف} بحذف الواو للجزم مضارع قفا.
وقرأ زيد بن عليّ: {ولا تقفو} بإثبات الواو.
كما قال الشاعر:
هجوت زبان ثم جئت معتذرًا ** من هجو زبان لم تهجو ولم تدع

وإثبات الواو والياء والألف مع الجازم لغة لبعض العرب وضرورة لغيرهم.
وقرأ معاذ القارىء: {ولا تقف} مثل تقل، من قاف يقوف تقول العرب: قفت أثره وقفوت أثره وهما لغتان لوجود التصاريف فيهما كجبذ وجذب، وقاع الجمل الناقة وقعاها إذا ركبها، وليس قاف مقلوبًا من قفا كما جوّزه صاحب اللوامح.
وقرأ الجرّاح العقيلي: {والفؤاد} بفتح الفاء والواو قلبت الهمزة واوًا بعد الضمة في الفؤاد ثم استصحب القلب مع الفتح وهي لغة في {الفؤاد} وأنكرها أبو حاتم وغيره وبه لا تتعلق بعلم لأنه يتقدّم معموله عليه.
قال الحوفي: يتعلق بما تعلق به {لك} وهو الاستقرار وهو لا يظهر وفي قوله: {إن السمع والبصر والفؤاد} دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول، وجاء هذا على الترتيب القرآني في البداءة بالسمع، ثم يليه البصر، ثم يليه الفؤاد.
و{أولئك} إشارة إلى {السمع والبصر والفؤاد} وهو اسم إشارة للجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره.
وتخيل ابن عطية أنه يختص بالعاقل.
فقال: وعبر عن {السمع والبصر والفؤاد} بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل، ولذلك عبر عنها بأولئك.
وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى: {رأيتهم لي ساجدين} إنما قال: رأيتهم في نجوم لأنه إنما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل.
وحكى الزجّاج أن العرب تعبر عمن يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري:
ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيش بعد أولئك الأيام

وأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام انتهى.
وليس ما تخيله صحيحًا، والنحاة ينشدونه بعد أولئك الأيام ولم يكونوا لينشدوا إلاّ ما روي، وإطلاق أولاء وأولاك وأولئك وأولالك على ما لا يعقل لا نعلم خلافًا فيه، و{كل} مبتدأ والجملة خبره، واسم {كان} عائد على {كل} وكذا الضمير في {مسؤولًا}.
والضمير في {عنه} عائد على ما من قوله: {ما ليس لك به علم} فيكون المعنى أن كل واحد من {السمع والبصر والفؤاد} يسأل عما لا علم له به أي عن انتفاء ما لا علم له به.
وهذا الظاهر.
وقال الزجاج: يستشهد بها كما قال {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم} وقال القرطبي في أحكامه: يسأل الفؤاد عما اعتقده، والسمع عما سمع، والبصر عما رأى.
وقال ابن عطية: إن الله تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي.
وقيل: الضمير في {كان} و{مسؤولًا} عائدان على القائف ما ليس له به علم، والضمير في {عنه} عائد على {كل} فيكون ذلك من الالتفات إذ لو كان على الخطاب لكان التركيب كل أولئك كنت عنه مسؤولًا.
وقال الزمخشري: و{عنه} في موضع الرفع بالفاعلية، أي كل واحد منها كان مسؤولًا عنه، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله: {غير المغضوب عليهم} يقال للإنسان: لم سمعت ما لا يحل لك سماعه؟ ولم نظرت ما لم يحل لك النظر إليه؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ انتهى.
وهذا الذي ذهب إليه من أن {عنه} في موضع الرفع بالفاعلية، ويعني به أنه مفعول لم يسم فاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطهما جار مجرى الفاعل، فكما أن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه، فإذا قلت غضب على زيد فلا يجوز على زيد غضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت.
وقد حكي الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجار والمجرور الذي يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه، فليس {عنه مسؤولًا} كالمغضوب عليهم لتقدّم الجار والمجرور في {عنه مسؤولًا} وتأخيره في {المغضوب عليهم} وقول الزمخشري: ولم نظرت ما لم يحل لك أسقط إلى، وهو لا يجوز إلاّ إن جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدّى بإلى فكان التركيب، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك كما قال النظر إليه فعداه بإلى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} نهيٌ عن قربانه لما ذكر من المبالغة في النهي عن التعرض له ومن إفضاء ذلك إليه وللتوسل إلى الاستثناء بقوله تعالى: {إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} أي إلا بالخَصلة والطريقة التي هي أحسنُ الخِصال والطرائق وهي حفظُه واستثماره {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} غايةٌ لجواز التصرفِ على الوجه الأحسن المدلولِ عليه بالاستثناء لا للوجه المذكور فقط {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} سواءٌ جرى بينكم وبين ربِّكم أو بينكم وبين غيرِكم من الناس، والإيفاءُ بالعهد والوفاءُ به هو القيامُ بمقتضاه والمحافظةُ عليه ولا يكاد يُستعمل إلا بالباء فرقًا بينه وبين الإيفاء الحسيِّ كإيفاء الكيل والوزن {إِنَّ العهد} أُظهر في مقام الإضمارِ إظهارًا لكم والعنايةِ بشأنه، أو لأن المرادَ مطلقُ العهد المنتظمِ للعهد المعهود {كَانَ مَسْؤُولًا} أي مسؤولًا عنه على حذف الجارِّ وجعْلِ الضمير بعد انقلابه مرفوعًا مستكنًا في اسم المفعولِ كقوله تعالى: {وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي مشهودٌ فيه، ونظيرُه ما في قوله تعالى: {تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم} على أن أصلَه الحكيمُ قائلُه فحذف المضافُ وجُعل الضمير مستكنًا في الحكيم بعد انقلابه مرفوعًا، ويجوز أن يكون تخييلًا كأنه يقال للعهد: لم نكثتَ وهلاّ وفَّى بك تبكيتًا للناكث كما يقال للموؤدة: بأي ذنبٍ قُتلت.
{وَأَوْفُوا الكيل} أي أتموه ولا تُخسِروه {إِذا كِلْتُمْ} أي وقت كيلِكم للمشترين وتقييدُ الأمر بذلك لما أن التطفيفَ هناك يكون وأما وقت الاكتيالِ على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى: {إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ} الآية {وَزِنُواْ بالقسطاس} وهو القرسطون، وقيل: كلُّ ميزان صغيرًا كان أو كبيرًا، روميٌّ معرّب ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لانتظام المعرَّبات في سلك الكلمِ العربية وقرئ بضم القاف {المستقيم} أي العدْلِ السويّ ولعل الاكتفاءَ باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن لما أن عند استقامتِه لا يتصور الجَوْرُ غالبًا بخلاف الكيل فإنه كثيرًا ما يقع التطفيفُ مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاءَ بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءَه لا يُتصوَّر بدون تعديل المكيالِ وقد أُمر بتقويمه أيضًا في قوله تعالى: {أَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط} {ذلك} أي إيفاءُ الكيلِ والوزن بالميزان السوي {خَيْرٌ} في الدينا إذ هو أمانةٌ توجب الرغبةَ في معاملته والذكرَ الجميلَ بين الناس {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} عاقبةً، تفعيلٌ من آل إذا رجع والمرادُ ما يؤول إليه.
{وَلاَ تَقْفُ} ولا تتبعْ من قفا أثرَه إذا تبِعه، وقرئ ولا تقُفْ من قاف أثرَه أي قفاه، ومنه القافةُ في جمع القائف {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تكن في اتباع ما لا علمَ لك به من قول أو فعل كمن يتّبعُ مسلكًا لا يدري أنه يوصله إلى مقصِده، واحتج به من منع اتباعَ الظنِّ وجوابُه أن المرادَ بالعلم هو الاعتقادُ الراجحُ المستفادُ من سند قطعيًا كان أو ظنيًّا واستعمالُه بهذا المعنى مما لا يُنكَر شيوعُه، وقيل: إنه مخصوصٌ بالعقائد، وقيل: بالرمي وشهادةِ الزورِ ويؤيده قولُه عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قفا مؤمنًا بما ليس فيه حبَسه الله تعالى في رَدْغة الخَبال حتى يأتيَ بالمخرج» ومنه قول الكميت:
ولا أرمي البريءَ بغير ذنب ** ولا أقفو الحواصِنَ إن رُمينا

{إِنَّ السمع والبصر والفؤاد} وقرئ بفتح الفاءِ والواو المقلوبةِ من الهمزة عند ضم الفاء {كُلُّ أولئك} أي كلُّ واحد من تلك الأعضاءِ فأُجريت مُجرى العقلاءِ لما كانت مسؤولةً عن أحوالها شاهدةً على أصحابها. هذا وإن أولاء وإن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه اسمٌ لذا الذي يعُمّ القَبيلين جاء لغيرهم أيضًا قال:
ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنزِلَة اللِّوى ** والعيشَ بعدَ أولئِكَ الأيامِ

{كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} أي كان كلٌّ من تلك الأعضاء مسؤولًا عن نفسه، على أن اسمَ كان ضميرٌ يرجِعُ إلى كلُّ وكذا الضميرُ المجرورُ، وقد جُوّز أن يكون الاسمُ ضميرَ القافي بطريق الالتفات إذ الظاهرُ أن يقال: كنتَ عنه مسؤولًا، وقيل: الجارُّ والمجرور في محل الرفع قد أُسند إليه مسؤولًا معللًا بأن الجارَّ والمجرور لا يلتبس بالمبتدأ وهو السببُ في منع تقديمِ الفاعلِ وما يقوم مقامَه.
ولكن النحاسَ حكى الإجماعَ على عدم جواز تقديمِ القائم مقامَ الفاعل إذا كان جارًا ومجرورًا، ويجوز أن يكون من باب الحذفِ على شريطة التفسيرِ، ويحذف الجارّ من المفسر ويعود الضميرُ مستكنًا كما ذكرنا في قوله تعالى: {يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} وجُوّز أن يكون مسؤولًا مسندًا إلى المصدر المدلولِ عليه بالفعل وأن يكون فاعلُه المصدرَ وهو السؤالُ وعنه في محل النصب. وسأل ابن جني أبا علي عن قولهم: فيك يُرغب، وقال: لا يرتفع بما بعده، فأين المرفوع؟ فقال: المصدرُ أي فيك يُرغب الرغبةُ بمعنى تُفعل الرغبة، كما في قولهم: يُعطي ويمنع أي يفعل الإعطاء والمنع، وجُوز أن يكون اسمُ كان أو فاعله ضميرَ كلُّ بحذف المضافِ أي كان صاحبه عنه مسؤولًا أو مسؤولًا صاحبُه. اهـ.