فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: لا تتصرفوا في ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن، وهي حفظه عليه وتثميره وإصلاحه. وقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} غاية جواز التصرف على الوجه الحسن، أي: حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل وتدبير ماله وصلاح حاله في دينه: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} أي: العقد الذي تعاقدون به الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام، وفيما بينكم أيضًا. والبيوع والأشربة والإجارات ونحوها: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} أي: مطلوبًا، يطلب من المعاهد الثبات عليه، وعدم إضاعته. أو: صاحبه مسؤول عن نقضه إياه. والمعنى: لا تنقضوا العهود الجائزة بينكم وبين من عاهدتموهم، فتخفروها وتغدروا بمن أعطيتموه إياها.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ} أي: أتموه إذا كلتم لغيركم ولا تبخسوه: {وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي: بالميزان السوي؛ بلا اعوجاج ولا خديعة: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي: لكم في معاشكم لانتظام أموركم بالعدل، وإيفاء الحقوق أربابها: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أي: عاقبة ومآلًا؛ إذ ليس معه مظلمة يطالب بها يوم القيامة. ثم أمر تعالى برعاية القسطاس المعنوي.
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي: لا تتبعه في قول أو فعل، تسنده إلى سمع أو بصر أو عقل. من: قفا أثره إذا تبعه.
قال الزمخشري: والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم. ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولًا ظاهرًا؛ لأنه إتباع لما لا يعلم صحته من فساده. انتهى.
ولا يخفى ما يندرج تحت هذه الآية من أنواع كثيرة. كمذاهب الجاهلية في الإلهيات والتحريم والتحليل، وكشهادة الزور، والقذف، ورمي المحصنات الغافلات، والكذب، وما شاكلها: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} أي: كان صاحبها مسؤولًا عما نسب إليها يوم القيامة. أو تُسأل نفس الأعضاء لتشهد على صاحبها.
قال المهايمي: قدم السمع؛ لأن أكثر ما ينسب الناس أقوالهم إليه. وأخر الفؤاد؛ لأنه منتهى الحواس. ولم يذكر بقيتها؛ لأنه لا يخالفها قول أو فعل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}.
هذا من أهم الوصايا التي أوصى الله بها في هذه الآيات، لأن العرب في الجاهلية كانوا يستحلون أموال اليتامى لضعفهم عن التفطن لمن يأكل أموالهم وقلة نصيرهم لإيصال حقوقهم، فحذر الله المسلمين من ذلك لإزالة ما عسى أن يبقى في نفوسهم من أثر من تلك الجاهلية.
وقد تقدم القول في نظير هذه الآية في سورة الأنعام.
وهذه الوصية العاشرة.
والقول في الإتيان بضمير الجماعة المخاطبين كالقول في سابِقيه لأن المنهي عنه من أحوال أهل الجاهلية.
أمروا بالوفاء بالعهد.
والتعريف في {العهد} للجنس المفيد للاستغراق يشمل العهد الذي عاهدوا عليه النبي، وهو البيعة على الإيمان والنصر.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {وإوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} في سورة النحل (91) وقوله: {وبعهد الله أوفوا} في سورة الأنعام (152) وهذا التشريع من أصول حرمة الأمة في نظر الأمم والثقةِ بها للانزواء تحت سلطانها.
وقد مضى القول فيه في سورة الأنعام.
والجملة معطوفة على التي قبلها.
وهي من عداد ما وقع بعد {أن} التفسيرية من قوله: {ألا تعبدوا} الآيات [الإسراء: 23].
وهي الوصية الحادية عشرة.
وجملة {إن العهد كان مسؤولا} تعليل للأمر، أي للإيجاب الذي اقتضاه، وإعادة لفظ {العهد} في مقام إضماره للاهتمام به، ولتكون هذه الجملة مستقلة فتسري مسرى المثل.
وحُذف متعلق {مسؤولا} لظهوره، أي مسؤولًا عنه، أي يسألكم الله عنه يوم القيامة.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)}.
هذان حكمان هما الثاني عشر والثالث عشر من الوصايا التي قضى الله بها.
وتقدم القول في نظيره في سورة الأنعام.
وزيادة الظرف في هذه الآية وهو {إذا كلتم} دون ذكر نظيره في آية الأنعام لما في {إذا} من معنى الشرطية فتقتضي تجدد ما تضمنه الأمر في جميع أزمنة حصول مضمون شرط {إذا} الظرفية الشرطية للتنبيه على عدم التسامح في شيء من نقص الكيل عند كل مباشرة له.
ذلك أن هذا خطاب للمسلمين بخلاف آية الأنعام فإن مضمونها تعريض بالمشركين في سوء شرائعهم وكانت هنا أجدر بالمبالغة في التشريع.
وفعل كال يدل على أن فاعله مباشرُ الكيل، فهو الذي يدفع الشيء المكيل، وهو بمنزلة البائع، ويقال للذي يقبض الشيء المكيل: مكتال.
وهو من أخوات باع وابتاع، وشرى واشترى، ورهن وارتهن، قال تعالى: {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} [المطففين: 2، 3].
والقُسطاس بضم القاف في قراءة الجمهور. وقرأه بالكسر حفص، وحمزة، والكسائي، وخلف.
وها لغتان فيه، وهو اسم للميزان أي آلة الوزن، واسم للعدل، قيل: هو معرب من الرومية مركب من كلمتين قسط، أي عدل، وطاس وهوَ كفة الميزان، وفي صحيح البخاري: وقال مجاهد: القُسطاس: العدل بالرومية.
ولعل كلمة قسط اختصار لقسطاس لأن غالب الكلمات الرومية تنتهي بحرف السين.
وأصله في الرومية مضموم الحرف الأول وإنما غيَّره العرب بالكسر على وجه الجواز لأنهم لا يتحرون في ضبط الكلمات الأعجمية.
ومن أمثالهم: أعجمي فالعَب به ما شئت، ومعنى العدل والميزان صالحان هنا، لكن التي في الأنعام جاء فيها {بالقِسط} فهو العدل لأنها سيقت مساق التذكير للمشركين بما هم عليه من المفاسد فناسب أن يذكروا بالعدل ليعلموا أن ما يفعلونه ظلم. والباء هنالك للملابسة. وهذه الآية جاءت خطابًا للمسلمين فكانت أجدر باللفظ الصالح لمعنى آلة الوزن، لأن شأن التشريع بيان تحديد العمل مع كونه يومىء إلى معنى العدل على استعمال المشترك في معنييه فالباء هنا ظاهرة في معنى الاستعانة والآلة، ومفيدة للملابسة أيضًا والمستقيم: السوي، مشتق من القَوام بفتح القاف وهو اعتدال الذات يقال: قومته فاستقام ووصف الميزان به ظاهر.
وأما العدل فهو وصف له كاشف لأن العدل كله استقامة وجملة {ذلك خير} مستأنفة.
والإشارة إلى المذكور وهو الكيل والوزن المستفاد من فعلي {كلتم} و{زنوا}.
و{خير} تفضيل، أي خير من التطفيف، أي خير لكم.
فضل على التطفيف تفضيلًا لخير الآخرة الحاصل من ثواب الامتثال على خير الدنيا الحاصل من الاستفضال الذي يطففه المطفف، وهو أيضًا أفضل منه في الدنيا لأن انشراح النفس الحاصل للمرء من الإنصاف في الحق أفضل من الارتياح الحاصل له باستفضال شيء من المال.
والتأويل: تفعيل من الأول، وهو الرجوع يقال: أولَه إذا أرجعه، أي أحسن إرجاعًا، إذا أرجعه المتأمل إلى مراجعه وعواقبه، لأن الإنسان عند التأمل يكون كالمنتقل بماهية الشيء في مواقع الأحوال من الصلاح والفساد فإذا كانت الماهية صلاحًا استقر رأي المتأمل على ما فيها من الصلاح، فكأنه أرجعها بعد التطواف إلى مكانها الصالح بها وهو مقرها، فأطلق على استقرار الرأي بعد التأمل اسم التأويل على طريقة التمثيل، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة.
ومعنى كون ذلك أحسنَ تأويلًا: أن النظر إذا جال في منافع التطفيف في الكيل والوزن وفي مضار الإيفاء فيهما ثم عاد فجال في مضار التطفيف ومنافع الإيفاء استقر وآل إلى أن الإيفاء بهما خير من التطفيف، لأن التطفيف يعود على المطفف باقتناء جزء قليل من المال ويكسبه الكراهية والذم عند الناس وغضب الله والسحتَ في ماله مع احتقار نفسه في نفسه، والإيفاء بعكس ذلك يكسبه ميل الناس إليه ورضَى الله عنه ورضاه عن نفسه والبركة في ماله فهو أحسن تأويلًا.
وتقدم ذكر التأويل بمعانيه في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير.
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}.
القفو: الاتباع، يقال: قَفاه يقفوه إذا اتبعه، وهو مشتق من اسم القفا، وهو ما وراء العنُق.
واستعير هذا الفعل هنا للعمل.
والمراد بـ {ما ليس لك به علم} الخاطر النفساني الذي لا دليل عليه ولا غلبة ظن به.
ويندرج تحت هذا أنواع كثيرة.
منها خلةٌ من خلال الجاهلية، وهي الطعن في أنساب الناس، فكانوا يرمون النساء برجال ليسوا بأزواجهن، ويليطون بعض الأولاد بغير آبائهم بهتانًا، أو سوءَ ظن إذا رأوا بعدًا في الشبه بين الابن وأبيه أو رأوا شَبَهه برجل آخر من الحي أو رأوا لونًا مخالفًا للون الأب أو الأم، تخرصًا وجهلًا بأسباب التشكل، فإن النسل ينزع في الشبه وفي اللون إلى أصول من سلسلة الآباء أو الأمهات الأدنَيْن أو الأبعدِين، وجهلا بالشبه الناشىء عن الوحَم.
وقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت ولدًا أسودَ يريد أن ينتفي منه فقال له النبي: «هل لك من إبل؟ قال: نعم قال: ما ألوانهن؟ قال: وُرْق قال: وهل فيها من جمل أسود؟ قال: نعم قال: فمن أين ذلك؟ قال: لعله عِرقٌ نزَعَه فقال النبي صلى الله عليه وسلم فلعل ابنك نزعه عِرق» ونهاه عن الانتفاء منه.
فهذا كان شائعًا في مجتمعات الجاهلية فنهى الله المسلمين عن ذلك.
ومنها القذف بالزنى وغيره من المساوي بدون مشاهدة، وربما رموا الجيرة من الرجال والنساء بذلك.
وكذلك كان عملهم إذا غاب زوج المرأة لم يلبثوا أن يلصقوا بها تهمة ببعض جيرتها، وكذلك يصنعون إذا تزوج منهم شيخ مُسِنٌّ امرأة شابة أو نصفًا فولدت له ألصقوا الولد ببعض الجيرة.
ولذلك لمّا قال النبي صلى الله عليه وسلم يومًا «سلوني» أكثر الحاضرون أن يسأل الرجل فيقول: مَن أبي؟ فيقول: أبوك فلان.
وكان العرب في الجاهلية يطعنون في نسب أسامة بن زيد من أبيه زيد بن حارثة لأن أسامة كان أسود اللون وكان زيد أبوه أبيض أزهر، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن أسامة بن زيد بن حارثة.
فهذا خلق باطل كان متفشيًا في الجاهلية نهى الله المسلمين عن سوء أثره.
ومنها تجنب الكذب.
قال قتادة: لا تقف: لا تقل: رأيتُ وأنتَ لم تر، ولا سمعتُ وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم.
ومنها شهادة الزور وشملها هذا النهي، وبذلك فسر محمد بن الحنفية وجماعة.
وما يشهد لإرادة جميع هذه المعاني تعليل النهي بجملة {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}.
فموقع الجملة موقع تعليل، أي أنك أيها الإنسان تُسأل عما تسنده إلى سمعك وبصرك وعقلك بأن مراجع القفو المنهي عنه إلى نسبة لسمع أو بصر أو عقل في المسموعات والمبصرات والمعتقدات.
وهذا أدب خُلقي عظيم، وهو أيضًا إصلاح عقلي جليل يعلم الأمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية بحيث لا يختلط عندها المعلوم والمظنون والموهوم.
ثم هو أيضًا إصلاح اجتماعي جليل يجنب الأمة من الوقوع والإيقاع في الأضرار والمهالك من جراء الاستناد إلى أدلة موهومة.
وقد صيغت جملة {كل أولئك كان عنه مسئولا} على هذا النظم بتقديم {كل} الدالة على الإحاطة من أول الأمر.
وأتي باسم الإشارة دون الضمير بأن يقال: كلها كان عنه مسؤولًا، لما في الإشارة من زيادة التمييز.