فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن الأدلة الدالة على ذلك ما روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال له: «فبم تحكم؟» قال: بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد؟» قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: «فإن لم تجد» قال: أجتهد رأيي. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم».
قال ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره بعد أن ذكر هذا الحديث: قالوا هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص، والحارث والرجال مجهولون. قاله الترمذي. قلنا: قد رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ رضي الله عنه. انتهى.
ومراد ابن قدامه ظاهر. لأن رد الظاهرية لهذا الحديث بجهالة من رواه عن معاذ مردود بأنه رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عنه. وهذه الرواية ليست هي مراده ابن كثير بقوله: هذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد لأنها ليست في المسند ولا في السنن، ولعل مراده بجودة هذا الإسناد أن الحارث ابن أخي المغيرة بن شعبة وثقة ابن حبان، وان أصحاب معاذ يراهم عدولًا ليس فيهم مجروح ولا متهم، وسيأتي استقصاء البحث في طرق هذا الحديث في سورة الأنبياء. ومعلوم أن عبادة بن نسي ثقة فاضل كما قدمنا. وعبد الرحمن بن غنم قيل صحابي، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين، قاله في التقريب. وحديث معاذ هذا تلقته الأمة قديمًا وحديثًا بالقبول. وسيأتي إن شاء الله في سورة الأنبياء، وسورة الحشر ما استدل به أهل العلم على هذا من آيات القرآن العظيم.
ومن الأدلة الدالة على أن إلحاق النظير بنظيره في الشرع جائز: ما أخرجه الشيخان في صحيحها عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: «أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها؟» قالت: نعم. قال: «فصومي عن أمك» وفي رواية لهما عنه قال: جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: «لو كان على أمك يدن، أكنت قاضيه عنها؟» قال: نعم. قال: «فدين الله أحق أن يقضى» انتهى.
واختلاف الرواية في هذا الحديث لا يعد اضطرابًا، لأنها وقائع متعددة: سألته امرأة فأفتاها، وسأله رجل فأفتاه بمثل ما أفتى به المرأة، كما نبه عليه غير واحد.
وهذا نص صحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، صريح في مشروعية إلحاق النظير بنظيره المشارك له في علة الحكم. لأنه صلى الله عليه وسلم بين إلحاق دين الله تعالى بدين الآدمي، بجتمع أن الكل حق مطالب به تسقط المطالبة به بأدائه إلى مستحقه. وهو واضح في الدلالة على القياس كما ترى.
ومن الأدلة الدالة على ذلك ايضًا: ما رواه الشيخان في صحيحهما أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني قزارة إلى النَّبي صلى الله عليه فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود! فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك إبل؟ قال نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمر. قال: فهل يكون فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقًا. قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال: وهذا علسى أن يكون نزعه عرق» اهـ.
فهذا نص صحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم صريح في قياس النظير. وقد ترتب على هذا القياس حكم شرعي، وهو كون سواد الولد مع بياض أبيه وأمه، ليس موجبًا للعان. فلم فلم يجعل سواده قرينة على أنها زنت بإنسان اسود، لإمكان أن يكون في أجداده من هو أسود فنزعه إلى السواد سواد ذلك الجد. كما أن تلك الإبل الحمر فيها جمال ورق يمكن أن لها أجدادًا روقًا نزعت ألوانها إلى الورقة. وبهذا اقتنع السائل.
ومن الأدلة الدالة على إلحاق النظير بنظيره: ما رواه أبو داود، والإمام أحمد، والنسائي، عن عمر رضي الله عنه قال: هششت يومًا فقبلت وأنا صائم. فأتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمرًا عظيمًا! قبلت وأنا صائم!؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ فقلت: لا بأس بذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: فمه» اهـ.
فإن قيل: هذا الحديث قال فيه النسائي: مكر.
قلنا: صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم. قاله الشوكاني في نيل الأوطار.
قال مقيده عا الله عنه: هذا الحديث ثابت وإسناده صحيح. قال: أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن يونس ثنا الليث (ح) وثنا عيس بن حماد، أخبرنا الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله، عن عبد الملك بن سعيد، عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب: هششت فقبلت.. إلى آخر الحديث بلفظه المذكةر آنفًا. ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح، فإن طبقته الأولى أحمد بن يونس وعيس بن حماد. أما أحمد فهو ابن عبد الله بن يونس الكوفي التميمي اليربوعي ثقة حافظ. وعيسى بن حماد بن مسلم التجيبي أبو موسى الأنصاري الملقب زغبة، ثقة. وطبقته الثانية الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري ثقة ثببت، فقيه إمام مشهور. وطبقته الثالثة بكير بن عبد الله بن الأشج مولى بني مخزوم أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدني نزيل مصر ثقة. وطبقته الرابعة عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري المدني ثقة. وطبقته الخامسة جابر ين عبد الله عن عمر بن الخطاب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. فهذا إسناد صحيح رجاله ثقات كما ترى. فهو نص صحيح صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قاس القبة على المضمضة. لأن المضمضة مقدمة الشرب، والقبلة مقدمة الجماع. فالجامع بينهما أن كلًا منهما مقدمة المفطر، وهي لا تفطر بالنظر لذاتها.
فهذه الأدلة التي ذكرنا فيه الدليل الواضح على أن إلحاق النظير بنظيره من الشرع لا مخالف له. لأنه صلى الله عليه وسلم فعله، والله يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وهو صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا لينبه الناس له.
فإن قيل: إنما فعله صلى الله عليه وسلم لأن الله أوحى إليه ذلك.
قلنا: فعله حجة في فعل مثل ذلك الذي فعل، ولو كان فعله بوحي كسائر أقواله وأفعاله وتقريراته، فكلها تثبت بها الحجة، وإن كانوهو صلى الله عليه وسلم فعل ما فعل من ذلك بوحي من الله تعالى.
مسألة:
قال بان خويز منداد من علماء المالكية: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة. لأنه لما قال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} دل على جواز ما لنا به علم. فكل ما علمه الإنسان او غلب على ظنه جاز أن يحكم به. وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص. لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يسمى علمًا اتساعًا. فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما، كما يلحق الفقيه الفرع بألصل عن طريق الشبه. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورًا تبرق أسارير وجهه فقال: «ألم ترى أن مجززًا المدلجي نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليها قطيفة، قد غطيا رؤوسهما وبدت اقدامهما فقال: إن بعض هذا الأقدام لمن بعض» وفي ديث ينس بن يزيد: وكان مجزز قائفًا. اهـ بواسطة نقل القرطبي في تفسيره.
قال مقيدخ عفا الله عنه: من المعلوم أن العلماء اختلفوا في اعتبار أقوال القافة. فذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها. واحتج من قال بعدم اعتبارها بقصة الأنصارية التي لاعنت زوجها وجاءت بولد شبيه جدًا بمن رميت به ولم يعتبر هذا الشبه النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلم يحكم بأن الولد من زنى ولم يجلد المرأة.
قالوا: فلو كان الشبه تثت به الأنساب لأثبت النَّبي صلى الله عليه وسلم به أن ذلك الولد من ذلك الرجل الذي رميت به. فيلزم على ذلك إقامة الحد عليها، والحكم بان الولد ابن زنى، ولم يفعل النَّبي صلى الله عليه وسلم شيئاَ من ذلك كما يأتي إيضاحه في سورة النور إن شاء الله تعالى.
وهذا القول بعدم اعتبار اقوال القافة مروي عن أبي حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم.
وذهب جمهور أهل العلم إلى اعتبار أقوال القافة عند التنازع في الولد، محتجين بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز بن الأعور المدلجي: إن بعض هذه الأقدام من بعض، حتى برقت أساوير وجهه من السرور.
قالوا: وما كان صلى الله عليه وسلم ليسر بالباطل ولا يعجبه، بل سروره بقول القائف دليل على أنه من الحق لا من الباطل، لأن تقديره وحده كاف في مشروعية ما قرر عليه، وأخرى من ذلك ما لو زاد السرور بالأمر على التقرير عليه، وهو واضح كما ترى.
واعلم أن الذين قالوا باعتبار أقوال القافة اختلفوا فمنهم من قال لا يقبل ذلك غلا في أولاد الإماء دون أولاد الحرائر. ومنهم من قال: يقبل ذلك في الجميع.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق باعتبار ذلك في أولاد الحرائر والإماء لأن سرور النَّبي صلى الله عليه وسلم وقع في ولد حرة، وصورة سبب النزول قطعية الدخول، وعقدة صاحب مراقي السعود بقوله:
واجزم بإدخال ذوات السبب ** وارو عن الإمام ظنًا تصب

تنبيهان:
الأول- لا تعتبر أقوال القافة في شبه مولود برجل إن كانتأمه فراشًا لرجل آخر. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم رأى شدة شبه الولد الذي اختصم فيه سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة بعتبة بن أبي وقاص ولم يؤثر عنده هذا الشبه في النسب لكون أو الولد فراشًا لزمعة. فقال صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ولكنه صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا الشبه من جهة أخرى غير النسب. فقال لسودة بنت زمعة رضي الله عنها «احتجبي عنه» مع أنه ألحقه بأبيها فلم ير سودة قط. وهذه المسألة أصل عند المالكية في مراعاة الخلاف كما هو معلوم عندهم.
التنبيه الثاني: قال بعض علماء العربية: أصل القفو البهت والقذف بالباطل. ومنه الحديث الي روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا» أخرج الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهاما من حديث الأشعث بن قيس. وساق طرق هذا الحديث ابن كثير في تاريخه. وقوله: «لا نقفوا أمنا» أي لا نقذف أمنا نسبها، ومنه قول الكيمت:
فلا أرمي البزيء يغير ذنب ** ولا أقفوا الواصن إن قفينا

وقول النابغة الجعدي:
ومثل الدمى شم العرانين ساكن ** بهن الحياء لا يشعن التقافيا

والذي يظهر لنا أن أصل القفو في لغة العرب: الاتباع كما هو معلوم من اللغة. ويدخل في اتباع المساوي كما ذكره من قال: إن أصله القذف والبهت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} فيه وجهان من التفسير:
الأول: أن معنى الآية أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن أفعال جوارحه فيقال له: لم سمعت ما لا يحل لك سماعهّ؟ ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر فيه!؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه!؟ ويدل لهذا المعنى آيات من كتاب الله تعالى، كقوله: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 93]، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92-93]، ونحو ذلك من الآيات.
والوجه الثاني:
أن الجوارح هي التي تسأل عن أفعال صاحبها، فتشهد عليه جوارحه بما فعل.
قال القرطبي في تفسيره: وهذا المعنى أبلغ في الحجة. فإنه يقع تكذيبه من جوارخهن وتلك غاية الخزي كما قال: {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، وقوله: {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20].
قال مقيده عفا الله عنه: والقول الأول أظهر عندي، وهو قول الجمهور.
وفي الآية الكريمة نكتة نبه عليه في مواضع أخر. لأن قوله تعالى: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} يفيد تعليل النهي في وقله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بالسؤال عن الجوارح المذكورة، لما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه: أن {إن} المكسورة من حروف التعليل. وإيضاحه: أن المعنى انته عما لا يحل لك لأن الله أنعم عليك بالسمع والبصر والعقل لتشكره، وهو مختبرك بذلك وسائلك عنه، فلا تستعمل نعمه في معصيته.
ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] ونحوها من الآيات. والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة بقوله: {أولئك} راجعة إلى {السمع والبصر والفؤاد} وهو دليل على الإشارة بأولئك لغير العقلاء وهو الصيحي. ومن شواهده في العربية قول الشاعر وهو العرجي:
يا ما أمليح عزلانا شدن لنا ** من هؤلياء كن الضال والسمر

وقول جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيش بعد أولئك الأيام

خلافًا لمن زعم أن بيت جرير لا شاهد فيه، وأن الرواية فيه: بعد أولئك الأقوام والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} وهنا أيضًا يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ..} [الإسراء: 34] ولم يقل: ولا تأكلوا مال اليتيم ليحذرنا من مجرد الاقتراب، أو التفكير في التعدِّي عليه؛ لأن اليُتْم مظهر من مظاهر الضعف لا صح أنْ تجترئَ عليه.