فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَلاَ تَمْشِ في الأرض} التقييدُ لزيادة التقرير والإشعارِ بأن المشيَ عليها مما لا يليق بالمرح {مَرَحًا} تكبرًا وبطرًا واختيالًا وهو مصدرٌ وقع موقعَ الحال أي ذا مرحٍ أو تمرح مرحًا أو لأجل المرح، وقرئ بالكسر {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} تعليلٌ للنهي، وفيه تهكّم بالمختال وإيذانٌ بأن ذلك مفاخرةٌ مع الأرض وتكبرٌ عليها أي لن تخرِقَ الأرض بدَوْسك وشدة وطأتك، وقرى بضم الراء {وَلَن تَبْلُغَ الجبال} التي هي بعضُ أجزاء الأرض {طُولًا} حتى يمكن لك أن تتكبر عليها إذ التكبرُ إنما يكون بكثرة القوة وعِظَم الجثة وكلاهما مفقودٌ، وفيه تعريضٌ بما عليه المختالُ من رفع رأسه ومشيِه على صدور قدميه.
{كُلُّ ذلك} إشارةٌ إلى ما علم في تضاعيف ذكر الأوامرِ والنواهي من الخِصال الخمس والعشرين {كَانَ سَيّئُهُ} الذي نُهي عنه وهي اثنتا عشرة خَصلة {عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا} مبغَضًا غيرَ مَرْضيّ أو غيرَ مراد بالإرادة الأولية لا غيرَ مرادٍ مطلقًا لقيام الأدلةِ القاطعة على أن جميع الأشياء واقعةٌ بإرادته سبحانه وهو تتمةٌ لتعليل الأمور المنهيّ عنها جميعًا، ووصفُ ذلك بمطلق الكراهة مع أن البعضَ من الكبائر للإيذان بأن مجردَ الكراهة عنده تعالى كافيةٌ في وجوب الانتهاءِ عن ذلك، وتوجيهُ الإشارةِ إلى الكل ثم تعيينُ البعض دون توجيهها إليه ابتداءً لما أن البعض المذكورَ ليس بمذكور جملةً بل على وجه الاختلاطِ، وفيه إشعارٌ بكون ما عداه مرضيًا عنده تعالى وإنما لم يصرح بذلك إيذانًا بالغنى عنه، وقيل: الإضافةُ بيانيةٌ كما في آية الليل وآية النهار، وقرئ سيئةً على أنه خبرُ كان وذلك إشارةٌ إلى ما نُهي عنه من الأمور المذكورة ومكروهًا بدلٌ من سيئةً أو صفةٌ لها محمولةٌ على المعنى فإنه بمعنى سيئًا، وقد قرئ به أو مُجرى على موصوف مذكر أي أمرًا مكروهًا أو مُجرى مَجرى الأسماءِ زال عنه معنى الوصفية، ويجوز كونه حالًا من المستكنّ في كان أو في الظرف على أنه صفةُ سيئه، وقرئ سيئاته، وقرئ شأنُه.
{ذلك} أي الذي تقدم من التكاليف المفصلة {مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ} أي بعضٌ منه أو من جنسه {مِنَ الحكمة} التي هي علمُ الشرائعِ أو معرفةُ الحق لذاته والعملُ به، أو من الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخُ والفساد.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآياتِ الثمانيَ عشرةَ كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ} قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ في الالواح مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً} وهي عشرُ آيات في التوراة. ومِنْ إما متعلقةٌ بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائيةٌ، وإما بمحذوف وقع حالًا من الموصول أو من ضميره المحذوفِ في الصلة أي كائنًا من الحِكمة، وإما بدلٌ من الموصول بإعادة الجار.
{وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} الخطابُ للرسول عليه الصلاة والسلام والمراد غيرُه ممن يتصور منه صدورُ المنهيِّ عنه، وقد كُرر للتنبيه على أن التوحيد مبدأُ الأمرِ ومنتهاه وأنه رأسُ كل حكمةٍ وملاكُها، ومن عدمِه لم تنفعْه علومُه وحكمته وإن بذّ فيها أساطينَ الحكماء وحكّ بيافوخه عنان السماء، وقد رتب عليه ما هو عائدُ الإشراك أولًا حيث قيل: فتقعدَ مذمومًا مخذولًا ورُتّب عليه هاهنا نتيجتُه في العقبى فقيل: {فتلقى في جَهَنَّمَ مَلُومًا} من جهة نفسِك ومن جهة غيرك {مَّدْحُورًا} مبعَدًا من رحمة الله تعالى، وفي إيراد الإلقاءِ مبنيًا للمعفول جرْيٌ على سنن الكبرياء وازدراءٌ بالمشرك وجعلٌ له من قبيل خشبةٍ يأخذها آخذٌ بكفه فيطرحها في التنور. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلاَ تَمْشِ في الأرض مَرَحًا} أي فخرًا وكبرًا قاله قتادة، وقال الرغب: المرح شدة الفرح والتوسع فيه والأول أنسب، وهو مصدر وقع موقع الحال والكلام في مثله إذا وقع حالًا أو خبرًا أو صفة شائع، وجوز أن يكون منصوبًا على المصدرية لفعل محذوف أي تمرح مرحًا وأن يكون مفعولًا له أي لأجل المرح، وقرئ {مَرَحًا} بكسر الراء عن أنه صفة مسبهة ونصبه على الحالية لا غير، قيل وهذه القراءة باعتبار الحكم أبلغ من قراءة المصدر المفيد للمبالغة بجعله عين المرح نظير ما قيل في زيد عدل لأن الوصف واقع في حيز النهي الذي هو في معني النفي ونفي أصل الاتصاف أبلغ من نفي زيادته ومبالغته لأنه ربما يشعر ببقاء أصله في الجملة، وجعل المبالغة راجعة إلى النفي دون المنفى كما قيل في قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] بعيدهنا، والقول بأن الصفة المشبهة تدل على الثبوت فلا يقتضي نفي ذلك نفي أصله كما قيل في المصدر مغالطة نشأت من عدم معرفة معنى الثبوت في الصفة فإن المراد به أنه لا تدل على تجدد وحدوث لا أنها تدل على الدوام.
والأخفش فضل القراءة بالمصدر لما فيه من التأكيد ولم ينظر إلى أن ذلك في الإثبات لا في النفي وأما في حكمه.
وأورد على ما قيل أن فيه تفضيل القراءة الشاذة على المتواترة وهو كما ترى.
ولذا فضل بعضهم القراءة بالمصدر كالأخفش وجعل المبالغة المستفادة منه راجعة إلى النهي ومنع كون ذلك بعيدًا، وقيل إذا جعل التقدير في المتواترة ذا مرح تتحد مع الشاذة.
وتعقب بان ذا مرح أبلغ من مرحا صفة لما فيه من الدلالة على أنه صاحب مرح وملازم له كانه مالك إياه وفيه توقف كما لا يخفى، والتقييد بالأرض لا يصح أن يقال للاحتراز عن المشي في الهواء أو على الماء لأن هذا خارق ولا يحترز عنه بل للتذكير بالمبدأ والمعاد وهو أردع عن المشي مشية الفاخر المتكبر وادعى لقبول الموعظة كأنه قيل: لا تمش فيما هو عنصرك الغالب عليك الذي خلقت منه وإليه تعود والذي قد ضم من أمثالك كثيرًا مشية الفاخر المتكبر، وقيل للتنصيص على أن النهي عن المشي مرحًا في سائر البقع والأماكن لا يختص به أرض دون أرض، والأول ألطف.
{إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} تعليل للنهي وقيه تهكم بالمختال أي إنك لن تقدر أن تجعل فيها خرقًا بدوسك وشدة وطاتك {وَلَن تَبْلُغَ الجبال} التي عليها {طُولًا} بتعاظمك ومدقامتك فاين أنت والتكبر عليها إذا التكبر إنما يكون بكثرة القوم وعظم الجثة وكلاهما مفقود فيك أوانك لن تقدر على ذلك فانت أضعف من كل واحد من هذين الجمادين فكيف يليق بك التكبر، وقال بعض المحققين: مآل النهي والتعليل لا تفعل ذلك فإنه لا جدوى فيه وهو وجه حسن، ونصب {طُولًا} على أنه تمييز، وجوز أن يكون مفعولًا له، وقيل: يشير كلام بعضهم إلى أنه منصوب على نزع الخافض وهو بمعنى التطاول أي لن تبلغ الجبال بتطاولك ولا يخفى بعده، وإيثار الاظهار على الإضمار حيث لم يقل لن تخرقها لزيادة الإيقاظ والتقريع، ثم إن الاختيال في المشي كبيرة كاتدل عليه الأحاديث الصحيحة وهذا فيما عدا بين الصفين أما بينهما فهو مباح لخبر صح فيه، ويكفي ما في الآية من التهكم والتقريع زاجرًا لمن اعتاده حيث لا يباح ككثير من الناس اليوم.
وفي الانتصاف قد حفظ الله تعالى عوام زماننا من هذه المشية وتورط قراؤنا وفقهاؤنا بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين أو نال طرفا من رياسة الدنيا إذ هو يمشي خيلاء ولا يرى أنه يطاول الجبال ولكن يرى أنه يحك بيافوخه عنان السماء كأنهم على هذه الآية لا يمرون أو يمرون عليها وهم عنها معرضون اه.
وإذا كان هذا حال قراء زمانه وفقهائه فماذا أقول أنا في قراء زماني وفقهائهم سوى لا كثر الله تعالى أمثالهم ولا ابتلانا بشيء من أفعالهم وجعلها أفعى لهم.
{كُلُّ ذلك} المذكور في تضاعيف الأوامر والنواهي السابقة من الخصال المنحلة إلى نيف وعشرين {كَانَ سَيّئُهُ} وهو ما نهى عنه منها من الجعل مع الله سبحانه إلهًا آخر وعبادة غيره تعالى والتأفيف والنهر والتبذير وجعل اليد مغلولة إلى العنق وبسطها كل البسط وقتل الأولاد خشية إملاق وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وإسراف الولي في القتل وقفو ما ليس بمعلوم والمشي في الأرض مرحًا فالإضافة لامية من إضافة البعض إلى الكل {عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا} أي مبغضًا وإن كان مرادًا له تعالى بالإرادة التكوينية وإلا لما وقع كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ يكن» وغير ذلك، وليست هذه الإرادة مرادفة أو ملازمة للرضا ليلزم اجتماع الضدين الإرادة المذكورة والكراهة كما يزعمه المعتزلة، وهذا تتميم لتعليل الأمور المنهى عنها جميعًا، ووصف ذلك بمطلق الكراهة مع أن أكثره من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الكف عن ذلك، وتوجيه الإشارة إلى الكل ثم تعيين البعض دون توجيهها إليه ابتداء لما قيل: من أن البعض المذكور ليس بمذكور حملة بل على وجه الاختلاط لنكتة اقتضته، وفيه إشعار بكون ما عداه مرضيًا عنده سبحانه وإنما لم يصرح بذلك إيذانًا بالغني عنه، وقيل اهتمامًا بشأن التنفير عن النواهي لما قالوا من أن التخلية أولى من التحلية ودرء المفاسد أهم من جلب الصالح، وجوز أن تكون الإضافة بيانية و{ذلك} إما إشارة إلى جميع ما تقدم ويؤخذ من المامورات أضدادها وهي منهى عنها كما في قوله تعالى: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وبالوالدين إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] بعد قوله سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] وإما إشارة إلى ما نهى عنه صريحًا فقط.
وقرأ الحجازيان والبصريان {سَيّئَةٌ} بفتح الهمزة وهاء التأنيث والنصب على أنه خبر كان، والإشارة إلى ما نهى عنه صريحًا وضمنا أو صريحًا فقط، و{مَكْرُوهًا} قيل بدل من {سَيّئَةٌ} والمطابقة بين البدل منه غير معتبرة.
وضعف بأن بدل المشتق قليل، وقيل: صفة {سَيّئَةٌ} محمولة على المعنى فإنها بمعنى سيئًا وقد قرئ به أو أن السيئة قد زال عنها معنى الوصفية وأجريت مجرى الجوامد فإنها بمعنى الذنب أو تجري الصفة على موصوف مذكر أي أمرًا مكروهًا، وقيل: إنه خبر لكان أيضًا ويجوز تعدد خبرها على الصحيح، وقيل: حال من المستكن في {كَانَ} أو في الظرف بناء على جعله صفة {سَيّئَةٌ} لا متعلقًا بمكروهًا فيستتر فيه ضميرها، والحال على هذا مؤكدة.
وأنت تعلم أن ضمير السيئة المستتر مؤنث فجعل مكروهًا حالًا منه كجعله صفة {سَيّئَةٌ} في الاحتجاج إلى التأويل واضمار مذكرًا كما في قوله:
ولا أرض أبقل ابقالها

لا يخفى ما فيه، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قرأ {شأنه}.
{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)}.
يَفْعَلْ {ذلك} المتقدم في التكاليف المفصلة {مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ} أي بعض منه أو منه جنسه {مِنَ الحكمة} التي هي علم الشرائع أو معرفة الحق سبحانه لذاته والخير للعمل به أو الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد، وفي الكشاف عن ابن عباس هذه الثماني عشرة آية يعني من {لاَّ تَجْعَل} [الإسراء: 22] فيما مر إلى {مَلُومًا مَّدْحُورًا} بعد كانت في ألواح موسى عليه السلام وهي عشر آيات في التوراة، وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلا {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} وهذا أعظم مدحًا للقرآن الكريم ما في الكشاف، و{مِنْ} اما متعلقة بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائية وإما بمحذوف وقع حالا من الموصول أو عائده المحذوف أي من الذي أوحاه إليك ربك كائنًا من الحكمة، وجوز أن يكون الجار والمجرور بدلًا من ما {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} الخطاب نظير الخطاب السابق كرر للتنبيه على أن التوحيد مبدى الأمر ومنتهاه وأنه رأس كل حكمة وملاكها، ورتب عليه أولا ما هو عائدة الشرك في الدنيا حيث قال {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} [الإسراء: 22] ورتب عليه ههنا نتيجته في العقبى فقيل {فتلقى في جَهَنَّمَ مَلُومًا} من جهة نفسك ومن جهة غيرك {مَّدْحُورًا} مبعدا من رحمة الله تعالى.
وفي التفسير الكبير الفرق بين المذموم والملوم أن المذموم هو الذي يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر والملوم هو الذي يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت منه الإلحاق الضرر بنفسك.
ومن هذا يعلم أن الذم يكون أولًا واللوم آخرًا، والفرق بين المخذول والمدحور أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت، والمراد به من تركت اعانته وفوض إلى نفسه والمدحور المطرود والمراد به المهان والمستخف به انتهى.
وفي إيراد الالقاء مبنيًا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وازدراء بالمشرك وجعل له كخشبة يأخذها من كان فيلقيها في التنور، هذا وقد وحد الخطاب في بعض هذه الأوامر والنواهي وجمع في بعض آخر منها ولم يظهر لي سر اختار كل من التوحيد والجمع فيما اختير فيه على وجه يسلم من القيل والقال ويهش له كمل الرجال، وقد ذكرت ذلك لبعض أحبابي من اجلة المحققين ورؤساء المدرسين وطلبت منه أن يحرر ما يظهر له حيث إنه محقق كماله وفضله فكتب ما نصه أقول معترفًا بالقصور محترزًا عن الغرور معتذرًا بالقول المأثور المأمور معذور يخطر على خاطر الفقير لتغيير أسلوب الخطاب وجوه تسعة لا تدخل في الحساب.