فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)}.
هذا يردّ على من قال من العرب: الملائكة بنات الله، وكان لهم بنات أيضًا مع البنين، ولكنه أراد: أفأخلص لكم البنين دونه وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه.
{إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} أي في الإثم عند الله عز وجل.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي بيّنا.
وقيل كررنا.
{فِي هذا القرآن} قيل {في} زائدة، والتقدير: ولقد صرفنا هذا القرآن؛ مثل: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي} [الأحقاف: 15] أي أصلح ذريتي.
والتصريف: صرف الشيء من جهة إلى جهة.
والمراد بهذا التصريف البيان والتكرير.
وقيل: المغايرة؛ أي غايرنا بين المواعظ ليذّكروا ويعتبروا ويتّعظوا.
وقراءة العامة {صَرّفنا} بالتشديد على التكثير حيث وقع.
وقرأ الحسن بالتخفيف.
وقوله: {في هذا القرآن} يعني الأمثال والعِبَر والحكَم والمواعظ والأحكام والإعلام.
قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحسين يقول بحضرة الإمام الشيخ أبي الطيب: لقوله تعالى: {صرفنا} معنيان؛ أحدهما لم يجعله نوعًا واحدًا بل وعدًا ووعيدًا ومُحْكَما ومتشابهًا ونهيًا وأمرًا وناسخًا ومنسوخًا وأخبارًا وأمثالًا؛ مثلُ تصريف الرياح من صَبًا ودَبُور وجنوب وشمال، وتصريف الأفعال من الماضي والمستقبل والأمر والنّهي والفعل والفاعل والمفعول ونحوها.
والثاني أنه لم ينزل مرة واحدة بل نجومًا؛ نحو قوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} [الإسراء: 106] ومعناه: أكثرنا صرف جبريل عليه السلام إليك.
{لِيَذَّكَّرُواْ} قراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي: {ليَذْكُروا} مخفّفًا، وكذلك في الفرقان {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ} [الفرقان: 50].
الباقون بالتشديد.
واختاره أبو عبيد؛ لأن معناه ليتذكروا وليتعظوا.
قال المَهْدَوِيّ: من شدّد {ليَذَّكّروا} أراد التدبر.
وكذلك من قرأ {لِيَذْكُروا} ونظير الأول {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 51] والثاني: {واذكروا مَا فِيهِ} [البقرة: 62].
{وَمَا يَزِيدُهُمْ} أي التصريف والتذكير.
{إِلاَّ نُفُورًا} أي تباعدا عن الحق وغفلة عن النظر والاعتبار؛ وذلك لأنهم اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر.
قوله تعالى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ}
هذا متصل بقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ} وهو ردّ على عُبّاد الأصنام.
{كَمَا يَقُولُونَ} قرأ ابن كَثير وحفص: {يقولون} بالياء.
الباقون: {تقولون} بالتاء على الخطاب.
{إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ} يعني الآلهة.
{إلى ذِي العرش سَبِيلًا} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لطلبوا مع الله منازعة وقتالًا كما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض.
وقال سعيد بن جُبير رضي الله تعالى عنه: المعنى إذًا لطلبوا طريقًا إلى الوصول إليه ليزيلوا ملكه، لأنهم شركاؤه.
وقال قَتادة: المعنى إذًا لابْتَغَتْ الآلهة القُرْبة إلى ذي العرش سبيلًا، والتمست الزُّلْفة عنده لأنهم دونه، والقوم اعتقدوا أن الأصنام تقرّبهم إلى الله زلفى، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى فقد بطل أنها آلهة.
{سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} نزّه سبحانه نفسه وقدّسه ومجده عما لا يليق به.
والتسبيح: التنزيه.
وقد تقدّم.
قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ}
أعاد على السموات والأرض ضمير من يعقل، لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح.
وقوله: {وَمَن فِيهِنَّ} يريد الملائكة والإنس والجن، ثم عمّ بعد ذلك الأشياء كلّها في قوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ}.
واختلف في هذا العموم، هل هو مخصّص أم لا؛ فقالت فرقة: ليس مخصوصًا والمراد به تسبيح الدلالة، وكل محدَث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر.
وقالت طائفة: هذا التسبيح حقيقة، وكلّ شيء على العموم يسبّح تسبيحًا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان ما قاله الأوّلون من أنه أثر الصنعة والدلالة لكان أمرًا مفهومًا، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يُفقه.
وأجيبوا بأن المراد بقوله: {لا تفقهون} الكفارُ الذين يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء.
وقالت فرقة: قوله: {مِنْ شَيْءٍ} عموم، ومعناه الخصوص في كل حَيٍّ ونامٍ، وليس ذلك في الجمادات.
ومن هذا قول عكرمة: الشجرة تسبح والأسطوان لا يسبّح.
وقال يزيد الرِّقَاشِيّ للحسن وهما في طعام وقد قُدِّم الخِوان: أيسبّح هذا الخِوان يا أبا سعيد؟ فقال: قد كان يسبح مرّة؛ يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبّح، وأما الآن فقد صار خِوانًا مدهونًا.
قلت: ويستدلّ لهذا القول من السُّنّة بما ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ على قبرين فقال: «إنهما لَيُعَذَّبان وما يُعَذَّبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنَّميمة وأما الآخر فكان لا يستبرىء من البول قال: فدعا بِعَسيب رَطْب فشقّه اثنين، ثم غرس على هذا واحدًا وعلى هذا واحدًا ثم قال: لعلّه يخفّف عنهما ما لم يَيْبَسَا» فقوله عليه الصلاة والسلام.
«ما لم ييبسا» إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبّحان، فإذا يبسا صارا جمادًا.
والله أعلم.
وفي مسند أبي داود الطّيالسي: فوضع على أحدهما نصفا وعلى الآخر نصفًا وقال: «لعله أن يهوّن عليهما العذاب ما دام فيهما من بلولتهما شيء» قال علماؤنا: ويستفاد من هذا غرس الأشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا خُفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن.
وقد بينا هذا المعنى في كتاب التذكرة بيانًا شافيًا، وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يُهْدَى إليه.
والحمد لله على ذلك.
وعلى التأويل الثاني لا يحتاج إلى ذلك؛ فإن كل شيء من الجماد وغيره يسبح.
قلت: ويستدلّ لهذا التأويل وهذا القول من الكتاب بقوله سبحانه وتعالى: {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق} [ص: 17-18]، وقوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} [البقرة: 74] على قول مجاهد، وقوله: {وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا} [مريم: 90-91].
وذكر ابن المبارك في دقائقه أخبرنا مِسعر عن عبد الله بن واصل عن عوف بن عبد الله قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن الجبل يقول للجبل: يا فلان، هل مر بك اليوم ذاكرٌ لله عز وجل؟ فإن قال نعم سُرّ به.
ثم قرأ عبد الله {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا} الآية.
قال: أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير.
وفيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما من صباح ولا رواح إلا تنادي بقاع الأرض بعضها بعضًا: يا جاراه، هل مَرّ بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر اللَّهَ عليك؟ فمِن قائلة لا، ومن قائلة نعم، فإذا قالت نعم رأت لها بذلك فضلًا عليها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَسمع صوتَ المؤذن جِنٌّ ولا إنس ولا شجر ولا حَجَر ولا مَدَر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» رواه ابن ماجه في سننه، ومالك في موطّئه من حديث أبي سعيد الخُدْريّ رضي الله عنه.
وخرّج البخاريّ عن عبد الله رضي الله عنه قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.
في غير هذه الرواية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطعام ونحن نسمع تسبيحه.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن» قيل: إنه الحجر الأسود، والله أعلم.
والأخبار في هذا المعنى كثيرة؛ وقد أتينا على جملة منها في اللّمع اللؤلؤية في شرح العشرنيات النبوية للفاداري رحمه الله، وخبر الجذع أيضًا مشهور في هذا الباب خرّجه البخاري في مواضع من كتابه.
وإذا ثبت ذلك في جماد واحد جاز في جميع الجمادات، ولا استحالة في شيء من ذلك؛ فكل شيء يسبح للعموم.
وكذا قال النَّخَعِيّ وغيره: هو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فيه حتى صرِير الباب.
واحتجّوا بالأخبار التي ذكرنا.
وقيل: تسبيح الجمادات أنها تدعو الناظر إليها إلى أن يقول: سبحان الله! لعدم الإدراك منها.
وقال الشاعر:
تُلْقَى بتسبيحة من حيث ما انصرفت ** وتَستقر حَشَا الرائي بتَرْعَادِ

أي يقول من رآها: سبحانَ خالِقها.
فالصحيح أن الكل يسبّح للأخبار الدالة على ذلك ولو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأيّ تخصيص لداود، وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح كما ذكرنا.
وقد نصّت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء فالقول به أوْلى.
والله أعلم.
وقرأ الحسن وأبو عمرو ويعقوب وحفص وحمزة والكسائي وخلف: {تفقهون} بالتاء لتأنيث الفاعل.
الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد، قال: للحائل بين الفعل والتأنيث.
{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} عن ذنوب عباده في الدنيا.
{غَفُورًا} للمؤمنين في الآخرة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)}.
لما نبه تعالى على فساد من أثبت لله شريكًا ونظيرًا أتبعه بفساد طريقة من أثبت لله ولدًا، والاستفهام معناه الإنكار والتوبيخ والخطاب لمن اعتقد أن الملائكة بنات الله ومعنى {أفأصفاكم} آثركم وخصكم وهذا كما قال: أله البنات ولكم البنون {ألكم الذكر وله الأنثى} وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب ويكون أردؤها وأدونها للسادات.
ومعنى {عظيمًا} مبالغًا في المنكر والقبح حيث أضفتم إليه الأولاد ثم حيث فضلتم عليه تعالى أنفسكم فجعلتم له ما تكرهون، ثم نسبة الملائكة الذين هم من شريف ما خلق إلى الأنوثة.
ومعنى {صرّفنا} نوَّعنا من جهة إلى جهة ومن مثال إلى مثال، والتصريف لغة صرف الشيء من جهة إلى جهة ثم صار كناية عن التبيين.
وقرأ الجمهور: {وصرّفنا} بتشديد الراء.
فقال: لم نجعله نوعًا واحدًا بل وعدًا ووعيدًا، ومحكمًا ومتشابهًا، وأمرًا ونهيًا، وناسخًا ومنسوخًا، وأخبارًا وأمثالًا مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، ومفعول {صرّفنا} على هذا المعنى محذوف وهي هذه الأشياء أي: صرّفنا الأمثال والعبر والحكم والأحكام والأعلام.
وقيل: المعنى لم ننزله مرة واحدة بل نجومًا ومعناه أكثرنا صرف جبريل إليك والمفعول محذوف أي {صرّفنا} جبريل.