فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)}.
الهمزة في قوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين} للإنكار ومعنى الآية. أفخصكم ربكم على وجه الخصوص والصفاء بافضب الأولاد وهم البنون، لم يجعل فيها نصيبًا لنفسه، واتخذ أدونهم وهي البنات! وهذا خلاف المعقول والعادة. فإن السادة لا يؤثرون عبيدهم بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب، ويتخذون لأنفسهم أردأها وأدونها. فلو كان جل وعلا متخذًا ولدًا {سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا} لاتخذ أجود النصيبين ولم يتخذ أردأهما! ولم يصطفكم دون نفسه بأفضلهما.
وهذا الأنكار متوجه على الكفار في قولهم: الملائكة بنات الله. سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا. فقد جعلوا له الأولاد! ومع ذلك جعلوا له أضعفها وأردأها وهو الإناث! وهم لا يرضونها لأنفسهم.
وقد بين الله هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 21-22]، وقوله: {أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} [الطور: 39]، وقوله: {لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} [الزمر: 4] ولآيات يمثل هذا كثيرة جدًا. وقد بينا ذلك بإيضاح في سورة النحل. وقوله في هذه الآية الكريمة {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} بين فيه أن ادعاء الأولاد ببه سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا- أمر عظيم جدًا. وقد بين شدة عظمع بقوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْدًا لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْدًا} [مريم: 88-95] فالمشركون قبحهم الله جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا، ثم ادعوا أنهم بنات الله، ثم عبدوهم. فاقترفوا الجريمة العظمى في المقامات الثلاث، والهمزة والفاء في نحو قوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ} قد بينا حكمها بإيضاح في سورة النحل أيضًا.
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)}.
قرأ جمهور القراء: {كما تقولون} بتاء الخطاب. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم: {كما يقولون} بياء الغيبة. وفي معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير، كلاهما ق ويشهد له قرآن. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الاية قد يكون فيها وجهان كلاهما حق، وكلاهما يشهد له قرآن فنذكر الجميع لأنه كله حق.
الأول من الوجهين المذكورين- أن معنى الآية الكريمن: لو كان مع الله آلهة أخرى كما يزعم الكفار لابتغوا- أي الآلهة المزعومة- أي لطلبوا إلى ذي العرش- أي إلى الله سبيلًا- أي إلى مغالبته وإزالة ملكه، لأنهم إذًا يكونون شركاءه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض. سبحان الله وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا!
وهذا القول في معنى الاية هو الظاهر عندي، وهو المتبادر من معنى الآية الكريمة. ومن الآيات الشاهدة لهذا المعنى قوله تعالى: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُون عَالِمِ الغيب والشهادة فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91-92]، وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22] وهذا المعنى في الآية مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبي على الفارسي، والنقاش، وأبي منصور، وغيره من المتكلمين.
الوجه الثاني في معنى الآية الكريمة:
أن المعنى {لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلًا} أي طريقًا ووسيلة تقربهم إليه لاعترافهم بفضله. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] الآية. ويروى هذا القول عن قتادة. واقتصر عليه ابن كثير في تفسيره.
ولا شك أن المعنى الظاهر المتبادر من الآية بحسب اللغة العربية هو القول الأول، لأن في الآية فرض المحال، والمحال المفروض الذي هو وجود آلهة مع الله مشاركة له لا يظهر معه أنها تتقرب إليه، بل تنازعه لو كانت موجودة، ولكنها معدومة مستحيلة الوجود. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)}.
لما جعل بعض المشركين لله ولدًا، فمنهم مَنْ قالوا: المسيح ابن الله، ومنهم مَنْ قالوا: عزير ابن الله، ومنهم مَنْ قالوا: الملائكة بنات الله، فوبَّخهم الله تعالى: كيف تجعلون للخالق سبحانه البنات ولكم البنين، إنها قسمة جائرة، كما قال الحق سبحانه في آية أخرى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 21-22]
أي: قسمة جائرة ظالمة.
قوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ..} [الإسراء: 40] أي: اصطفاكم واختار لكم البنين، وأخذ لنفسه البنات؟
ويقول في آية أخرى: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا..} [الزخرف: 15]
لذلك قال تعالى بعدها: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء: 40] فوصف قولهم بأنه عظيم في القُبْح والافتراء على الله، كما قال في آية أخرى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرحمن وَلَدًا * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم: 88-89]
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا}.
{صَرَّفْنَا} أي: حَوَّلْنا الشيء من حال إلى حال، ومنها قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ..} [البقرة: 164]
يعني تغييرها من حال إلى حال، فمرة: تراها سَكْسكًَا عليلة هادئة، ومرّة تجدها رُخَاءً أي: قوية، ومرة: تجدها إعصارًا مدمرًا. والرياح قد تكون لواقح تأتي بالخير والنماء، وقد تكون عقيمًا لا خير فيها. هذا هو المراد بالتصريف.
فمعنى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَاذَا الْقُرْآنِ} [الإسراء: 41]
أي: صرف مسألة ادعاء اتخاذ الله الأبناء في القرآن، وعالجها في كثير من المسائل؛ لأنه أمر مهم عالجه القرآن علاجاتٍ متعددة في مقامات مختلفة من سُوره، فتكرر ذِكْر هذه المسألة. والتكرار قد يكون في ذات الشيء، وقد يكون باللَّف بالشيء، كما في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ..} [الرحمن: 13]
وقوله: {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} [الإسراء: 41]
أي: بدلَ أنْ يذكروا ويعودوا إلى جَادّة الصواب ازدادوا إعراضًا ونفورًا. ولنا أن نسأل: لماذا الإعراض والنفور منهم؟
لأنهم أرادوا الاحتفاظ بالسلطة الزمنية التي كانت لهم قبل الإسلام، ولكي نوضح المقصود بالسلطة الزمنية نقول:
لو درسنا تواريخ القوانين في العالم نجد أن القانون الوضعيّ الذي وضعه البشر لم يَأْتِ أول الأمر، بل جاء نتيجة تسلُّط الكهنة، وكانوا هم أصحاب القانون يضعونَه باسم الدين، ويلزمون الناس به، ولكن لُوحِظ عليهم أنهم يحكمون في قضية ما بحكم، ثم بعد فترة يحكمون في نفس القضية بحكم مخالف للأول، فانصرف الناس عن أحكام الكهنة، ووضعوا لأنفسهم هذه القوانين الوضعية، وبذلك أصبح لهؤلاء ما يُسمَّى بالسلطة الزمنية.
وهذه السُّلْطة الزمنية هي التي منعتْ يهود المدينة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا على علم ومعرفة بأوصافه وبرسالته ومن زمن بعثته، وكانوا حينما يروْنَ عُبّاد الأصنام في مكة يقولون لهم: سيأتي زمان يُبعث فيه نبي في هذا البلد، وسوف نتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا.
وعن هذا يقول الحق سبحانه في حق يهود المدينة: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]
لقد تنكَّر اليهود لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنهم على يقين من صِدْقه؛ لأن هذه الرسالة ستحرمهم هذه السلطة الزمنية، وستقضي على السيادة العلمية والسيادة الاقتصادية والسيادة الحربية التي كانت لهم قبل الإسلام.
ثم يقول الحق سبحانه: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}.
أي: لو كان مع الله آلهة أخرى لَطلبتْ هذه الآلهةُ طريقًا إلى ذي العرش.
وقد عالج الحق تبارك وتعالى هذه القضية في قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18]
وهذه قضية: إما أنْ تكونَ صادقة، وإما أن تكون غير ذلك. فإنْ كانت صادقة فقد انتهتْ المسألة، وإنْ كانت غير صادقة، وهناك إله ثانٍ، فأين هو؟ لماذا لم نسمع به؟ فإنْ كان موجودًا، ولا يدري- أو كان يدري بهذه القضية- ولكنه تقاعس عن المواجهة ولم يعارض، ففي كل الأحوال لا يستحق أن يكون إلهًا.
إذن: ما دام أن الله تعالى شهد لنفسه بالوحدانية، ولم يَقُمْ له معارض فقد سَلِمتْ له هذه الدعوى.
وكلمة {ذِي الْعَرْشِ} لا تُقَال إلا لمَنْ استتبَّ له الأمر بعد عِرَاك وقتال، فيُصنع له كرسي أو سرير يجلس عليه.
ابتغاء الطريق إلى ذي العرش، إما ليواجهوه ويوقفوه عند حده ويبطلوا دعوته، فإن غلبوا فقد انتهت المسألة، وإن غُلبوا فعلى الأقل يذهب كل إله بما خلق كما قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]
أو: يبتغون إليه سبيلًا، ليكونوا من خَلْقه ومن عبيده؛ لذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ..} [النساء: 172]
ويقول: {أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]
فهؤلاء الذين أشركتموهم مع الله فقُلْتم: المسيح ابن الله، وعزيز ابن الله، والملائكة بنات الله، كُلُّ هؤلاء فقراء إلى الله يبتغون إليه الوسيلة، حتى أقربهم إلى الله وهم الملائكة يبتغون إلى الله الوسيلة فغيرهم- إذن- أَوْلَى.
وينزِّه الحق سبحانه نفسه، فيقول: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا}.
وقوله: {سُبْحَانَهُ} يعني تنزيهًا مطلقًا له تعالى في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، فلله تعالى ذات ليست كذاتك، وله صفات ليست كصفاتك، وله أفعال ليست كأفعالك؛ لأن الأشياء تختلف في الوجود بحَسْب المُوجِد لها.
فمثلًا: لو بني كُلٌّ من العمدة، ومأمور المركز، والمحافظ بيتًا، فسوف يتفاوت هذا البناء من واحد للآخر، بحسب قدرته ومكانته. وكذلك لابد من وجود هذا التفاوت بين إله ومألوه، وبين رَبٍّ ومربوب، وبين عابد ومعبود.
إذن: كُلُّ الأشياء في المتساوي تتفاوت بتفاوت الناس.
وقوله: {عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43] أي: تعالى الله وتنزَّه عَمَّا يقول هؤلاء علوًا كبيرًا؛ لأن الناس تتفاوت في العلو.
ونلاحظ أن الحق سبحانه اختار {كبيرًا} ولم يَقُلْ: أكبر. وهذا من قبيل استعمال اللفظ في موضعه المناسب؛ لأن كبيرًا تعني: أن كل ما سواه صغير، لكن أكبر تعني أن ما دونه كبير أي: مُشَارِك له في الكِبَر.