فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الناطقَ بالتسبيح والتنزيهِ ودعوتَهم إلى العمل بما فيه من التوحيد ورفضِ الشرك وغيرِ ذلك من الشرائع {جَعَلْنَا} بقدرتنا ومشيئتنا المبنيةِ على دواعي الحِكَم الخفية {بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} أُوثر الموصولُ على الضمير ذمًّا لهم بما في حيز الصلة، وإنما خُصَّ بالذكر كفرُهم بالآخرة من بين سائرِ ما كفروا به من التوحيد ونحوِه دَلالةً على أنها مُعظمُ ما أُمروا بالإيمان به في القرآن، وتمهيدًا لما سينقل عنهم من إنكار البعثِ واستعجالِه ونحو ذلك {حِجَابًا} يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة ويفهموا قدرَك الجليلَ، ولذلك اجترأوا على تفوّه العظيمة التي هي قولُهم: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} وحَمْلُ الحجاب على ما روي عن أسماءَ بنت أبي بكر رضي الله عنه من أنه لما نزلت سورةُ تبّت أقبلت العوراءُ أمُّ جميل امرأةُ أبي لهبٍ وفي يدها فِهْرٌ والنبيُّ عليه الصلاة والسلام قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فلما رآها قال: يا رسول الله، لقد أقبلت هذه وأخاف أن تراك، قال عليه الصلاة والسلام: «إنها لن تراني» وقرأ قرآنًا فوقفت على أبي بكر رضي الله عنه ولم تَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مما لا يقبله الذوقُ السليم ولا يساعده النظمُ الكريم {مَّسْتُورًا} ذا سَتْرٍ كما في قولهم: سيلٌ مفعَمٌ، أو مستورًا عن الحس بمعنى غيرَ حسيَ أو مستورًا في نفسه بحجاب آخرَ أو مستورًا كونُه حجابًا حيث لا يدرون أنهم لا يدرون.
{وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطيةً كثيرة جمع كِنان {أَن يَفْقَهُوهُ} مفعولٌ لأجله أي كراهةَ أن يفقهوه، أو مفعولٌ لما دل عليه الكلامُ أي منعناهم أن يقِفوا على كُنهه ويعرِفوا أنه من عند الله تعالى: {وفي آذَانِهِمْ وَقْرًا} صمَمًا وثِقلًا مانعًا من سماعه اللائِق به، وهذه تمثيلاتٌ مُعرِبةٌ عن كمال جهلِهم بشؤون النبيِّ عليه الصلاة والسلام وفرطِ نُبوِّ قلوبهم عن فهم القرآنِ الكريم ومجّ أسماعِهم له، جيء بها بيانًا لعدم فقهِهم لتسبيح لسانِ المقالِ إثرَ بيانِ عدمِ فقههم لتسبيح لسانِ الحال، وإيذانًا بأن هذا التسبيحَ من الظهور بحيث لا يُتصوَّرُ عدمُ فهمِه إلا لمانع قويَ يعتري المشاعرَ فيُبطُلها، وتنبيهًا على أن حالَهم هذا أقبحُ من حالهم السابق لا حكايةٌ لما قالوا: {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} كيف لا وقصدُهم بذلك إنما هو الإخبارُ بما اعتقدوه في حق القرآنِ والنبيِّ عليه الصلاة والسلام جهلًا وكفرًا من اتصافهما بأوصاف مانعةٍ من التصديق والإيمانِ، ككون القرآنِ سحرًا وشِعرًا وأساطيرَ وقِسْ عليه حالَ النبي عليه الصلاة والسلام، لا الإخبارُ بأن هناك أمرًا وراء ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائلٌ من قِبلهم. ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام. {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ} واحدًا غيرَ مشفوعٍ به آلهتُهم، وهو مصدرٌ وقع موقعَ الحال، أصلُه يحد وحدَه {وَلَّوْاْ على أدبارهم} أي هربوا ونفروا {نُفُورًا} أو ولَّوا نافرين.
{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} متلبسين به من اللغو والاستخفافِ والهُزْء بك وبالقرآن، يروى أنه كان يقوم عن يمينه عليه الصلاة والسلام رجلان من بني عبد الدار وعن يساره رجلان فيصفّقون ويصفِرون ويخلِطون عليه بالأشعار {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} ظرفٌ لأعلمُ وفائدتُه تأكيدُ الوعيدِ بالإخبار بأنه كما يقع الاستماعُ المزبورُ منهم يتعلق به العلم، لا أن العلمَ يستفاد هناك من أحد وكذا قوله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نجوى} لكون لا من حيث تعلّقُه بما به الاستماعُ بل بما به التناجي المدلولُ عليه بسياق النظمِ، والمعنى نحن أعلمُ بالذي يستمعون ملتبسين به مما لا خيرَ فيه من الأمور المذكورةِ وبالذي يتناجَوْن به فيما بينهم، أو الأولُ ظرفٌ ليستمعون والثاني ليتناجَون والمعنى نحن أعلمُ بما به الاستماعُ وقت استماعِهم من غير تأخيرٍ وبما به التناجي وقت تناجيهم، ونجوى مرفوعٌ على الخبرية بتقدير المضافِ أي ذوو نجوى، أو هو جمعُ نَجيّ كقتلى جمع قتيل أي متناجُون {إِذْ يَقُولُ الظالمون} بدل من إذ هم، وفيه دليلٌ على أن ما يتناجَون به غيرُ ما يستمعون به وإنما وُضع الظالمون موضعَ المُضمر إشعارًا بأنهم في ذلك ظالمون مجاوزون للحدّ، أي يقول كلٌّ منهم للآخرين عند تناجيهم: {إِن تَتَّبِعُونَ} ما تتبعون إنْ وُجد منكم الاتباعُ فرضًا أو ما تتبعون باللغو والهزء {إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} أي سُحِر فجُنّ أو رجلًا ذا سَحْر أي رئةٍ يتنفس، أي بشرًا مثلَكم.
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} أي مثّلوك بالشاعر والساحر والمجنونِ {فُضّلُواْ} في جميع ذلك على منهاج المُحاجّة {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلًا} إلى طعن يمكن أن يقبله أحدٌ فيتهافتون ويخبِطون ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه أحد، أو إلى سبيل الحقِّ والرشاد، وفيه من الوعيد وتسليةِ الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.
{وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا} استفهامٌ إنكاريٌّ مفيدٌ لكمال الاستبعادِ والاستنكارِ للبعث بعد ما آل الحالُ إلى هذا المآل لِما بين غضاضةِ الحيِّ ويُبوسة الرميم من التنافي، كأن استحالةَ الأمر من الظهور بحيث لا يقدر المخاطبُ على التكلم به، والرفاتُ ما بولغ في دقِّه وتفتيته، وقال الفرَّاء: هو التراب، وهو قولُ مجاهدٍ، وقيل: هو الحُطامُ وإذا متمحّضةٌ للظرفية وهو الأظهرُ والعاملُ فيها ما دل عليه قوله تعالى: {أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لا نفسُه، لأن ما بعد إن والهمزةِ واللام لا يعمل فيما قبلها وهو نبعث أو نعاد وهو المرجِعُ للإنكار وتقييدُه بالوقت المذكور ليس لتخصيصه به فإنهم منكرِون للإحياء بعد الموت وإن كان البدنُ على حاله، بل لتقوية الإنكارِ للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافيةٍ له، وتكريرُ الهمزة في قولهم: {أئنا} لتأكيد النكيرِ، وتحليةُ الجملة بأن واللامِ لتأكيد الإنكارِ لا لإنكار التأكيد كما عسى يُتوَّهم من ظاهر النظمِ، فإن تقديمَ الهمزة لاقتضائها الصدارةَ كما في مثل قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ونظائرِه على رأي الجمهور فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيب كما هو المشهور، وليس مدارُ إنكارِهم كونَهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونِهم عظامًا ورفاتًا كما يتراءى من ظاهر الجملةِ الاسمية بل كونِهم بعَرَضية ذلك واستعدادِهم له، ومرجعُه إلى إنكار البعثِ بعد تلك الحالةِ وفيه من الدِلالة على غلوّهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا يزيد عليه {خَلْقًا جَدِيدًا} نصْبٌ على المصدر من غير لفظه، أو الحاليةِ على أن الخلق بمعنى المخلوق. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} الناطق بالتسبيح والتنزيه ودعوتهم إلى العمل بما فيه {جَعَلْنَا} بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على الحكم الخفية.
{بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} وهم المشركون المتقدم ذكرهم، وأوثر الموصول على الضمير ذمًا لهم بما في حيز الصلة ويتم به مع ما سبق الإشارة إلى كفرهم بالمبدأ والمعاد.
وفي إرشاد العقل السليم إنما خص بالذكر كفرهم بالآخرة من بين سائر ما كفروا به من التوحيد ونحوه دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن وتمهيدًا لما سينقل عنهم من إنكار البعث واستعجاله ونحو ذلك اه، وفي كون الآخرة معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن تردد وربما يدعى أن ذلك هو التوحيد فالأولى الاقتصار على أنه للتمهيد {حِجَابًا} يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة وجلالة القدر ولذلك اجترؤا على التفوه بالعظيمة وهي قولهم: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} [الإسراء: 47] وأصل الحجاب كالحجب المنع من الوصول فهو مصدر وقد أريد به الوصف أي حاجبًا {مَّسْتُورًا} أي ذا ستر فهو للنسب كرجل مرطوب ومكان مهول وجارية مغنوجة ومنه {وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61] وكذا سيل مفعم بفتح العين والأكثر مجىء فاعل لذلك كلابن وتامر، وجوز أن يكون الإسناد مجازيًا كما اشتهر في المثال الأخير، وعن الأخفش أن مفعول يرد بمعنى فاعل كميمون ومشؤم بمعنى يامن وشائم كما أن فاعل يرد بمعنى مفعول كماء دافق فمستور بمعنى ساتر أو مستورًا عن الحس فهو على ظاهره ويكون بيانًا لأنه حجاب معنوي لا حسي أو مستورًا في نفسه بحجاب آخر فيكون إيذانًا بتعدد الحجب أو مستورًا كونه حجابًا حيث لا يدرون أنهم لا يدرون، وقيل: إنه على الحذف والإيصال أي مستورًا به الرسول صلى الله عليه وسلم.
{وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية جمع كنان، والمراد بمعونة المقام التكثير أي أكنة كثيرة.
{أَن يَفْقَهُوهُ} مفعول له بتقدير مضاف أي كراهة أن يقفوا على كنهه ويعرفوا أنه من عند الله تعالى أو مفعول به لفعل مقدر مفهوم من الجملة أو من {أَكِنَّةً} لا أن {جَعَلْنَا} أو شيئًا مما ذكر قد ضمنه كما يتوهم أي منعناهم فقهه والوقوف على كنهه {وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا} صممًا وثقلًا عظيمًا مانعًا من سماعه اللائق به فإنهم كانوا يسمعونه من غير تدبر، وهذه كما قال بعض المحققين تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم له جىء بها بيانًا لعدم فقههم فصيح المقال إثر بيان عدم فقههم دلالة الحال وفيه إيذان بأن ما تضمنه القرآن من التسبيح في غاية الظهور بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها وتنبيه على أن حالهم هذه أقبح من حالهم السابقة، وحمل الآية على ما ذكر من لم يجعل التسبيح فيما سبق لفظيًا وعلى جعله لفظيًا لا يحسن حملها على ذلك كما لا يخفى، هذا وقال بعضهم: المراد بالحجاب ما يحجبهم عن فهم ما يقرؤه عليه الصلاة والسلام فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال: الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به وإلى ذلك ذهب الزجاج، وتعقب بأنه لا يلائم {بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين} [الإسراء: 45] إلخ إلا بتقدير مضافين أي جعلنا بين فهم قراءتك، وأيضًا يلزم عليه التكرار من غير فائدة جديدة، وأجيب بأن الظاهر أنه لا يقدر فيه وإنما يلزم لو كان حقيقة وهذا تمثيل لهم في عدم إسماع الحق بمن كان وراء جدار وحجاب كما أن الأكنة كذلك، وأما حديث التكرار من غير فائدة فمدفوع بأن قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا} إلخ تصريح بما اقتضاه نفي فصيح المقال بعد نفي فهم دلالة الحال من كونهم مطبوعين على الضلال ولا يخفى على المنصف أولوية ما تقدم.
وعن الجبائي أن المراد بالحجاب ما يحجبهم عن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وذلكم أنهم كانوا يقصدونه إذا قرأ ليؤذوه فآمنه الله تعالى وذكر له عليه الصلاة والسلام أنه جل شأنه جعل بينه وبينهم حجابًا عند القراءة فلا يمكنهم الوصول إليه، وهو عندي مما لا بأس به وأن ذكره في معرض التفصي عن استدلال أصحابنا بالآية على أن الله تعالى يمنع عن الإيمان من شاء كما يهدي إليه من شاء نعم هو دون الأول عند من يتأمل.
وقيل: المراد حجاب منعهم رؤية شخص النبي صلى الله عليه وسلم وذاته الكريمة.
فقد أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي معًا في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [المسد: 1] أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول:
مذمما أبينا

ودينه قلينا

وأمره عصينا

ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال: إنها لن تراني، وقرأ قرآنًا اعتصم به كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا} [الإسراء: 45] فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها.
وجاء في رواية أنها حين ولت ذاهبة قال أبو بكر: يا رسول الله إنها لم ترك فقال النبي صلى الله عليه وسلم حال بيني وبينها جبريل عليه السلام، وذكر الإمام أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات قوله تعالى: في سورة الكهف {إنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف: 57].
وقوله سبحانه في النحل: {أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} [النحل: 108] وقوله جل وعلا في سورة حم الجاثية {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الجاثية: 23] الآية فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وهو المراد من قوله سبحانه: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا} [الإسراء: 45] إلخ واحتج أصحابنا بذلك على أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضرًا مع أنه لا يرى بسبب أن الله تعالى يخلق في العين مانعًا يمنع من الرؤية قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان حاضرًا وحواس الكفار سليمة وكانوا لا يرونه وقد أخبر سبحانه أن ذلك لأجل أنه جعل بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم حجابًا مستورًا ولا معنى للحجاب المستور إلا المعنى الذي يخلقه في عيونهم ويكون مانعًا لهم من الرؤية انتهى، وقال بعض المحققين: إن حمل الحجاب على ما روي من حديث أسماء مما لا يقبله الذوق السليم ولا يساعده النظم الكريم، وكأنه أراد أن حمله في الآية على الحجاب المانع من الرؤية كذلك فهو وارد على ما نقل عن الإمام أيضًا ويعلم منه حال احتجاج الأصحاب مع ما يرد على قولهم فيه ولا معنى للحجاب إلخ من أنه مخالف لما في الرواية السابقة التي ذكر فيها حيلولة جبريل عليه السلام والخبر الذي أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: كان بيني وبينها ملك يسترني بجناحيه حتى ذهبت فإن كلا الخبرين ظاهر في أن المانع لم يكن في عيونهم بل هو إما جبريل عليه السلام أو ملك آخر حال بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم فلم يروه لكن يبقى الكلام في أن منع اللطيف الرؤية خلاف العادة أيضًا وهو بحث آخر فليتدبر، ثم إن ما روي عن أسماء ليس نصًا في أن الحجاب في الآية هو الحجاب المانع عن الرؤية كما لا يخفى على من أمعن النظر وهذا القول إنما يحتاج إليه أن اعتبر تصحيح الحاكم أو نص على صحته من اعتبر تصحيحه من المحدثين أما إذا لم يكن ذلك فأمره سهل، وجعل الزمخشري ما تقدم حكاية لما قالوا {قُلُوبَنَا في أكنَّةٍ مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقرٌ ومِنْ بيننا وبينك حجاب} [فصلت: 5] في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب على معنى جعلنا على زعمهم ولم يرتضه شيخ الإسلام لأن قصدهم بذلك إنما هو الإخبار بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم جهلًا وكفرًا من اتصافهما بأوصاف مانعة من التصديق والإيمان ككون القرآن سحرًا وشعرًا وأساطير وقس عليه حال النبي عليه الصلاة والسلام لا الإخبار بأن هناك أمرًا وراء ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائل من قبلهم، ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام انتهى، وقد يقال: حيث كان الكلام مسوقًا لتعداد قباحهم والإنكار عليهم فالملاءمة مما لا ريب فيها، نعم اختيار الزمخشري هذا الوجه مما لا يخلو عن دسيسة اعتزالية ولا أظنها تخفى عليك {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القرءان وَحْدَهُ} أي غير مقرون بذكره ذكر شيء من آلهتهم التي يزعمونها كما كانوا يقولون بالله تعالى واللات مثلًا ويصدق هذا بذكره سبحانه مع نفي الآلهة، و{وَحْدَهُ} عند الزمخشري مصدر الثلاثي يقال وحده يحده وحدًا وحدة كوعده يعده وعدًا وعدة وهو ساد مسد الحال بمعنى واحدًا، وقيل: هو مصدر أوحد على حذف الزوائد وأصله إيحاد، ومذهب سيبويه أنه ليس بمصدر بل هو اسم موضوع موضع المصدر وهو إيحاد الموضوع موضع الحال وهو موحد.