فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والتصريح بإعادة فعل الجعل يؤذن بأن هذا جعل آخر فيرجّح أن يكون جعل الحجاب المستور جعل الصرفة عن الإضرار، ويكون هذا جعل عدم التدبر في القرآن خلقة في نفوسهم.
والقول في نظم هذه الآية ومعانيها تقدم في نظيرها في سورة الأنعام.
لما كان الإخبار عنهم قبل هذا يقتضي أنهم لا يفقهون معاني القرآن تبع ذلك بأنهم يُعرضون عن فهم ما فيه خير لهم، فإذا سمعوا ما يبطل إلهية أصنامهم فهموا ذلك فولوا على أدبارهم نفورًا، أي زادهم ذلك الفهم ضلالًا كما حرمهم عدمُ الفهم هديًا، فحالهم متناقض.
فهم لا يسمعون ما يحق أن يسمع، ويسمعون ما يَهْوَوْنَ أن يسمعوه ليزدادوا به كفرًا.
ومعنى ذكرت ربك وحده: ظاهره أنك ذكرته مقتصرًا على ذكره ولم تذكر آلهتهم لأن {وحده} حال من {ربك} الذي هو مفعول {ذكرت}.
ومعنى الحال الدلالة على وجود الوصف في الخارج ونفسسِ الأمر، أي كان ذكرك له، وهو موصوف بأنه وحده في وجود الذكر، فيكون تولي المشركين على أدبارهم حينئذٍ من أجل الغضب من السكوت عن آلهتهم وعدم الاكتراث بها بناءً على أنهم يعلمون أنه ما سكت عن ذكر آلهتهم إلا لعدم الاعتراف بها.
ولولا هذا التقدير لما كان لتوليهم على إدبارهم سبب، لأن ذكر شيء لا يدل على إنكار غيره فإنهم قد يذكرون العُزى أو اللاتَ مثلًا ولا يذكرون غيرها من الأصنام لا يظن أن الذاكر للعزى منكر منَاةَ، وفي هذا المعنى قوله تعالى: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} [الزمر: 45].
ويحتمل أن المعنى: إذا ذكرت ربك بتوحيده بالإلهية وهو المناسب لنفورهم وتوليهم، لأنهم إنما ينكرون انفراد الله تعالى بالإلهية، فتكون دلالة {وحده} على هذا المعنى بمعونة المقام وفِعل {ذكرت} ولعل الحال الجائية من معمول أفعال القول والذكر ونحوهما تحتمل أن يكون وجودُها في الخارج، وأن يكون في القول واللسان، فيكون معنى ذكرت ربك وحده: أنه موحد في ذِكرك وكلامك، أي ذكرتَه موصوفًا بالوحدانية.
وتخصيص الذكر بالكون في القرآن لمناسبته الكلام على أحوال المشركين في استماع القرآن، أو لأن القرآن مقصود منه التعليم والدعوة إلى الدين، فخلو آياته عن ذكر آلهتهم مع ذكر اسم الله يفهم منه التعريض بأنها ليست بآلهة فمن ثم يغضبون كلما ورد ذكر الله ولم تذكر آلهتهم، فكونه في القرآن هو القرينة على أنه أراد إنكار آلهتهم.
وقوله: {وحده} تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {أجئتنا لنعبد الله وحده} في [الأعراف: 70].
والتولية: الرجوع من حيث أتى.
وعلى أدبارهم تقدم القول فيه في قوله تعالى: {ولا ترتدوا على أدباركم} في سورة العقود [المائدة: 21].
و{نفورًا} يجوز أن يكون جمع نافر مثل سُجود وشُهود.
ووزن فُعول يطرد في جمع فاعل فيكون اسم الفاعل على صيغة المصدر فيكون نفورًا على هذا منصوبًا على الحال من ضمير {ولوا}، ويجوز جعله مصدرًا منصوبًا على المفعولية لأجله، أي ولوا بسبب نفورهم من القرآن.
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى}.
كان المشركون يحيطون بالنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام إذا قرأ القرآن يستمعون لما يقوله ليتلقفوا ما في القرآن مما ينكرونه، مثل توحيد الله، وإثبات البعث بعد الموت، فيعجب بعضُهم بعضًا من ذلك، فكان الإخبار عنهم بأنهم جُعلت في قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر وأنهم يولون على أدبارهم نفورًا إذا ذكر الله وحده، ويثير في نفس السامع سُؤالًا عن سبب تجمعهم لاستماع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام، فكانت هذه الآية جوابًا عن ذلك السؤال.
فالجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا.
وافتتاح الجملة بضمير الجلالة لإظهار العناية بمضمونها.
والمعنى: أنّ الله يعلم علمًا حقًا داعي استماعهم، فإن كثرت الظنون فيه فلا يعلم أحد ذلك السبب.
و{أعلَم} اسم تفضيل مستعمل في معنى قوة العلم وتفصيله.
وليس المراد أن الله أشد علمًا من غيره إذ لا يقتضيه المقام.
والباء في قوله: {بما يستمعون} لتعدية اسم التفضيل إلى متعلقه لأنّه قاصر عن التعدية إلى المفعول.
واسم التفضيل المشتق من العلم ومن الجهل يُعدى بالباء وفي سوى ذينك يعدى باللام.
يقال: هو أعظَى للدراهم.
والباء في {يستمعون به} للملابسة.
والضمير المجرور بالباء عائد إلى ما الموصولة، أي نحن أعلم بالشيء الذي يلابسهم حين يستمعون إليك، وهي ظرف مستقر في موضع الحال.
والتقدير: متلبسين به.
وبيان إبْهام ما حاصل بقوله: {إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى}.
و{إذ} ظرف ل {يستمعون به}.
والنجوى: اسم مصدر المناجاة، وهي المحادثة سِرًا.
وتقدم في قوله: {لا خير في كثير من نجواهم} في سورة [النساء: 114].
وأخبر عنهم بالمصدر للمبالغة في كثرة تناجيهم عند استماع القرآن تشاغُلًا عنه.
{وإذ هم نجوى} عطف على {إذ يستمعون إليك}، أي نحن أعلم بالّذي يستمعونه، ونحْن أعلم بنجواهم.
و{إذ يقول} بَدل من {إذ هم نجوى} بدل بعض من كل، لأن نجواهم غير منحصرة في هذا القوْل.
وإنما خص هذا القول بالذكر لأنه أشدّ غرابة من بقية آفاكهم للبون الواضح بين حال النبي صلى الله عليه وسلم وبين حال المسحور.
ووقع إظهار في مقام الإضمار في {إذ يقول الظالمون} دون: إذ يقولون، للدلالة على أن باعث قولهم ذلك هو الظلم، أي الشرك فإن الشرك ظلم، أي ولولا شركهم لما مثل عاقل حالة النبي الكاملة بحالة المسحور.
ويجوز أن يراد الظلم أيضًا الاعتداء، أي الاعتداء على النبي صلى الله عليه وسلم كذبًا.
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)}.
جملة مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا ونظائرها كثيرة في القرآن.
والتعبير بفعل النظر إشارة إلى أنه بلغ من الوضوح أن يكون منظورًا.
والاستفهام بـ {كيف} للتعجيب من حالة تمثيلهم للنبيء عليه الصلاة والسلام بالمسحور ونحوه.
وأصل ضرب وضع الشيء وتثبيته يقال: ضرب خيمة، ويطلق على صوغ الشيء على حجم مخصوص، يقال: ضرب دنانير، وهو هنا مستعار للإبراز والبيان تشبيهًا للشيء المبرز المبين بالشيء المثبت.
وتقدم عند قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا} في [البقرة: 26].
واللام في {لك} للتعليل والأجْل، أي ضربوا الأمثال لأجلك، أي لأجل تمثيلك، أي مثلوك.
يقال: ضربت لك مثلًا بكذا وأصله مثلتك بكذا، أي أجِد كذا مثلًا لك، قال تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال} [النحل: 74] وقال: {واضرب لهم مثلًا أصحاب القرية} [يس: 13] أي اجعلهم مثلًا لحالهم.
وجمع {الأمثال} هنا، وإن كان المحكي عنهم أنهم مثلوه بالمسحور، وهو مثل واحد، لأن المقصود التعجيب من هذا المثل ومن غيره فيما يصدر عنهم من قولهم: هو شاعر، هو كاهن، هو مجنون، هو ساحر، هو مسحور.
وسميت أمثالًا باعتبار حالهم لأنهم تحيروا فيما يصفونه به للناس لئلا يعتقدوه نبيئًا، فجعلوا يتطلبون أشبه الأحوال بحاله في خيالهم فيلحقونه به، كمن يدرج فردًا غريبًا في أشبه الأجناس به، كمن يقول في الزرافة: إنها مِن الأفراس أو من الإبل أو من البقر.
وفُرع ضَلالُهم على ضرب أمثالهم لأن ما ضربوه من الأمثال كله باطل وضلال وقوة في الكفر.
فالمراد تفريع ضلالهم الخاص ببطلان تلك الأمثال، أي فظهر ضلالهم في ذلك كقوله: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا} [القمر: 9].
ويجوز أن يراد بالضلال هنا أصل معناه، وهو الحيرة في الطريق وعدم الاهتداء، أي ضربوا لك أشباهًا كثيرة لأنهم تحيروا فيما يعتذرون به عن شأنك العظيم.
وتفريع {فلا يستطيعون سبيلًا} على {فضلوا} تفريع لتوغلهم في الحيرة على ضلالهم في ضرب تلك الأمثال.
والسبيل: الطريق، واستطاعته استطاعة الظفر به، فيجوز أن يراد بالسبيل سبيل الهدى على الوجه الأول في تفسير الضلال، ويجوز أن يكون تمثيلًا لحال ضلالهم بحال الذي وقف في فيفاء لا يدري من أية جهة يسلك إلى المقصود، على الوجه الثاني في تفسير الضلال.
والمعنى على هذا: أنهم تحيروا كيف يصفون حالك للناس لتوقعهم أن الناس يكذبونهم، فلذلك جعلوا ينتقلون في وصفه من صفة إلى صفة لاستشعارهم أن ما يصفونه به باطل لا يطابقه الواقع.
{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)}.
يجوز أن يكون جملة {وقالوا} معطوفة على جملة {قل لو كان معه آلهة كما تقولون} [الإسراء: 42] باعتبار ما تشتمل عليه من قوله: كما تقولون لقصد استئصال ضلالة أخرى من ضلالاتهم بالحجّة الدامِغة، بعد استئصال الّتي قبلها بالحجة القاطعة بقوله قل لو كان معه آلهة كما تقولون الآية وما بينهما بمنزلة الاعتراض.
ويجوز أن تكون عطفًا على جملة {إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلًا مسحورًا} [الإسراء: 47] التي مضمونها مظروف للنجوى، فيكون هذا القول مما تَنَاجَوْا به بينهم، ثم يجهرون بإعلانه ويعُدونه حجتهم على التكذيب.
والاستفهام إنكاري.
وتقديم الظرف من قوله: {أئذا كنا عظامًا} للاهتمام به لأن مضمونه هو دليل الاستحالة في ظنهم، فالإنكار متسلط على جملة {أئنا لمبعوثون}.
وقوة إنكار ذلك مقيد بحالة الكون عظامًا ورفاتًا، وأصل تركيب الجملة: أإنا لمبعوثون إذا كنا عظامًا ورفاتًا.
وليس المقصود من الظرف التقييد، لأن الكون عظامًا ورفاتًا ثابت لكل من يموت فيبعث.
والبعث: الإرسال.
وأطلق هنا على إحياء الموتى، لأن الميت يشبه الماكث في عدم مبارحة مكانه.
والعظام: جمع عظم، وهوما منه تركيب الجسد للإنسان والدواب.
ومعنى {كنا عظامًا} أنهم عظام لا لحم عليها.
والرفات: الأشياء المرفوتة، أي المفتتة.
يقال: رفَت الشيء إذا كسره كِسرًا دقيقة.
ووزن فُعال يدل على مفعول أفعال التجزئة مثل الدقاق والحُطام والجُذاذ والفُتات.
و{خلقًا جديدًا} حال من ضمير {مبعوثون}.
وذكر الحال لتصوير استحالة البعث بعد الفناء لأن البعث هو الإحياء، فإحياء العظام والرفات محال عندهم، وكَوْنهم خلقًا جديدًا أدخل في الاستحالة.
والخلق: مصدر بمعنى المفعول، ولكونه مصدرًا لم يتبع موصوفه في الجمع. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)}.
في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير:
الأول: أن المعنى: وإذا قرأت القرآن جلعنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا. أي حائلًا وساترًا يمنعهم من تفهم القرآن وإدراكه لئلا يفقهوه فينتفعوا به. وعلى هذا القول- فالحجاب المستور هوما حجب الله به قلوبهم عن الانتفاع بكتابه. والآيات الشاهدة لهذا المعنى كثيرة. كقوله: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5]، وقوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} [البقرة: 7] الآية، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57] الآية. إلى غير ذلك من الآيات، وممن قال بهذا القول في معنى الآية: قتادة والزجاج وغيرهما.
الوجه الثاني في الآية
- أن المراد بالحجاب المستور أن الله يستره عن أعين الكفار فلايرونه. قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية. أخرج أبو يعلى وابن حاتم وصححه. وابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي معًا في الدلائل عن اسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لما نزلت {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول:
مذمما أبينا ** ودينه قلينا

وأمره عصينا

ورسول الله جالس، وأبو بكر رضي الله عنه إلى جنبه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك؟ فقال: «إنها لن تراني» وقرأ قرآنا اعتصم به. كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا}. قجاءت حتى قامت على أبي بكر رضي الله عنه فلم تر النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، بلغني أن صاحبك هجاني!؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا ورب هذا البيت ما هجاك. فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها. غلى غير ذلك من الرويات بهذا المعنى.