فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله سبحانه وتعالى: {ولا تقفُ} أي ولا تتبع {ما ليس لك به علم} أي لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم.
وقيل: معناه لا ترم أحدًا بما ليس لك به علم وقيل لا يتبعه بالحدس والظن وقيل: هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور، ويتتبعها ويتعرفها والمراد أنه لا يتكلم في أحد بالظن {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولًا} معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده، وقيل يسأل السمع البصر والفؤاد، عما فعله المرء فعلى هذا ترجع الإشارة في أولئك إلى الأعضاء، وعلى القول الأول ترجع إلى أربابها.
عن شكل بن حميد قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله علمني تعويذًا أتعوذ به قال: فأخذ بيدي ثم قال: «قل أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر فؤادي وشر لساني وشر قلبي وشر منيي قال فحفظتها» أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي.
وقال حديث حسن غريب.
قوله: وشر منيي يعني ماءه وذكره.
قوله: {ولا تمش في الأرض مرحًا} أي بطرًا وكبرًا وخيلاء {إنك لن تخرق الأرض} أي لن تقطها بكبرك حتى تبلغ آخرها {ولن تبلغ الجبال طولًا} أي لا تقدر أن تطاول الجبال، وتساويها بكبرك والمعنى أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئًا كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال، لا يحصل على شيء.
وقيل: إن الذي يمشي مختالًا يمشي مرة على عقبيه، ومرة على صدور قدميه فقيل له: إنك لن تنقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولًا إن مشيت على صدور قدميك.
عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤًا كأنما ينحط من صبب.
أخرجه الترمذي في الشمائل.
قوله تكفؤًا: التكفوء التمايل في المشي إلى قدام، وقوله كأنما ينحط من صبب هو قريب من التكفوء أي كأنه ينحدر من موضع عال، عن أبي هريرة قال: ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدًا أسرع من مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا.
وإنه لغير مكترث. أخرجه الترمذي.
قوله: لغير مكترث أي شاق والاكتراث الأمر الذي يشق على الإنسان {كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهًا} أي ما ذكر من الأمور التي نهى الله عنها فيما تقدم.
فإن قلت: كيف قيل: سيئة مع قوله مكروهًا؟ قلت: قيل فيه تقديم وتأخير تقديره كل ذلك كان مكروهًا سيئة عند ربك وقوله: مكروهًا على التكرير لا على الصفة أي كل ذلك كان سيئة وكان مكروهًا وقيل إنه يرجع إلى المعنى دون اللفظ، لأن السيئة الذنب وهو مذكر.
قوله سبحانه وتعالى: {ذلك} إشارة إلى ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه الآيات {مما أوحى إليك ربك من الحكمة} أي إن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل لا تقبل النسخ والإبطال فكانت محكمة وحكمة بهذا الاعتبار.
وقيل: إن حاصل هذه الآيات يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع البر والطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة وذلك من الحكمة.
قيل: إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها: ولا تجعل مع الله إلهًا آخر.
قال الله سبحانه وتعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة، واعلم أن الله سبحانه وتعالى: افتتح هذه الآيات بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك وختمها به، والمقصود منه التنبيه على أن كل قول وعمل يجب أن يكرر في التوحيد لأنه رأس كل حكمة، وملاكها ومن عدمه لم ينفعه شيء ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يجب أن يكون صاحبه مذمومًا مخذولًا وقال في هذه الآية {ولا تجعل مع الله إلهًا آخر فتلقى في جهنم ملومًا مدحورًا} والفرق بين المذموم والملوم أما كونه مذمومًا فمعناه، أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر فهذا معنى كونه مذمومًا ثم يقال له: لم فعلت هذا الفعل القبيح وما الذي حملك عليه، وهذا هو اللوم والفرق بين المخذول والمدحور أن المخذول هو الضعيف الذي لا ناصر له، والمدحور هو المبعد المطرود عن كل خير.
قوله سبحانه وتعالى: {أفأصفاكم ربكم} يعني أفخصكم واختاركم فجعل لكم الصفوة ولنفسه ما ليس بصفوة {بالبنين} يعني اختصكم بأفضل الأولاد وهم البنون {واتخذ من الملائكة إناثًا} لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله مع علمهم بأن الله سبحانه وتعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له وهذا يدل على نهاية جعل القائلين بهذا القول {إنكم لتقولون قولًا عظيمًا} يخاطب مشركي مكة يعني بإضافتهم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام، ثم إنهم يفضلون عليه أنفسهم حيث يجعلون له ما يكرهون لأنفسهم يعني البنات.
قوله سبحانه وتعالى: {ولقد صرفنا في هذا القرآن} يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام والتشديد في صرفنا للتكثير والتكرير {ليذكروا} أي ليتعظوا ويعتبروا {وما يزيدهم} أي تصريفنا وتذكيرنا {إلا نفورًا} أي تباعدًا عن الحق {قل} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين {لو كان معه آلهة كما يقولون إذًا لابتغوا} أي لطلبوا يعني هؤلاء الآلهة {إلى ذي العرش سبيلًا} أي بالمبالغة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض.
وقيل: معناه لتقربوا إليه.
وقيل: معناه لتعرفوا إليه فضله فابتغوا ما يقربهم إليه والأول أصح، ثم نزه نفسه فقال {سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا} معنى وصفه بذلك المبالغة في البراءة والبعد عما يصفونه.
قوله: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن} يعني الملائكة والإنس والجن {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} قال ابن عباس: وإن من شيء حي إلا يسبح.
وقيل: جميع الحيوانات والنباتات.
قيل: إن الشجرة تسبح والاسطوانة لا تسبح.
وقيل: إن التراب يسبح ما لم يبتل، فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها، فإذا رفعت تركت التسبيح.
وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة، فإذا سقطت تركت التسبيح، وإن الماء يسبح ما دام جاريًا فإذا ركد ترك التسبيح وإن الثوب يسبح ما دام جديدًا فإذا اتسخ ترك التسبيح وإن الوحش والطير لتسبح إذا صاحت، فإذا سكتت تركت التسبيح وإن من شيء جماد أو حيّ إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف وقيل: كل الأشياء تسبح الله حيوانًا كان أو جمادًا وتسبيحها: سبحان الله وبحمده، ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود قال: كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفًا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال: «اطلبوا فضلة من ماء فجاؤوا بإناء فيه قليل، فأدخل يده صلى الله عليه وسلم في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك، والبركة من الله» فقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. أخرجه البخاري.
(م) عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بمكة حجرًا كان يسلم علي ليالي بعثت وإني لأعرفه الآن».
(خ) عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح بيده عليه» وفي رواية «فنزل فاحتضنه وسارَّه بشيء» ففي هذه الأحاديث دليل على أن الجماد يتكلم وأنه يسبح، وقال بعض أهل المعاني: تسبيح السموات والأرض، والجمادات والحيوانات سوى العقلاء بلسان الحال، بحيث تدل على الصانع وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك، ويصير لها بمنزلة التسبيح والقول الأولاد أصح كم دلت عليه الأحاديث، وأنه منقول عن السلف.
واعلم أن لله تعالى علمًا في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن نكل علمه إليه.
وقوله تعالى: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} أي لا تعلمون ولا تفهمون تسبيحهم، ما عدا من يسبح بلغتكم ولسانكم {إنه كان حليمًا غفورًا} أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وجهلكم بالتسبيح.
قوله: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا} أي يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به، وقيل: معناه مستورًا عن أعين الناس فلا يرونه كما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: لما نزلت تبت يدا أبي لهب جاءت امرأة أبي لهب معها حجر والنبي صلى لله عليه وسلم مع أبي بكر فلم تره فقالت لأبي بكر: أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني فقال لها أبو بكر والله ما ينطق بالشعر، ولا يقوله فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ رأسه فقال أبو بكر: ما رأتك يا رسول الله قال: «لا لم يزل ملك بين وبينها» {وجعلنا على قلوبهم أكنة} أي أغطية {أن يفقهوه} أي لئلا يفهموه {وفي آذانهم وقرًا} أي ثقلًا لئلا يسمعوه {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده} يعني إذا قلت لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن {ولَّوا على أدبارهم نفورًا} جمع نافر.
{نحن أعلم بما يستمعون به} أي من الهزء بك وبالقرآن وقيل: معناه نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو التكذيب {إذ يستمعون إليك} أي وأنت تقرآ القرآن {وإذا هم نجوى} أي بما يتناجون به في أمرك، وقيل: معناه ذوو نجوى بعضهم يقول: هو مجنون وبعضهم يقول هو كاهن وبعضهم يقول ساحر أو شاعر {إذ يقول الظالمون} يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه {إن تتبعون إلا رجلًا مسحورًا} أي مطبوبًا وقيل مخدوعًا وقيل: معناه أنه سحر فجن.
وقيل: هو من السحر وهو الرئة، ومعناه أنه بشر مثلكم يأكل ويشرب قال الشاعر:
أرانا موضعين لأمر غيب ** ونسخر بالطعام وبالشراب

أي يغذى بهما {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} أي الأشباه فقالوا: ساحر شاعر كاهن مجنون {فضلّوا} أي في جميع ذلك وحاروا {فلا يستطيعون سبيلًا} أي إلى طريق الحق {وقالوا أئذا كنا عظامًا} أي عبد الموت {ورفاتًا} أي ترابًا وقيل: الرفات هي الأجزاء المتفتتة من كل شيء تكسر {أئنا لمبعوثون خلقًا جديدًا} فيه أنهم اسعبدوا الإعادة بعد الموت والبلى.
فقال سبحانه وتعالى ردًا عليهم.
{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)}. اهـ.

.قال النسفي:

{وقضى رَبُّكَ} وأمر أمرًا مقطوعًا به {أَلاَّ تَعْبُدُوآ إِلاَّ إِيَّاهُ} أن مفسرة و{لا تعبدوا} نهي أو بأن لا تعبدوا {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وأحسنوا بالوالدين إحسانًا أو بأن تحسنوا بالوالدين إحسانًا {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} إما هي أن الشرطية زيد عليها ما تأكيدًا لها ولذا دخلت النون المؤكدة في الفعل ولو أفردت إن لم يصح دخولها لا تقول: إن تكرمن زيدًا يكرمك ولكن إما تكرمنه {أَحَدُهُمَآ} فاعل {يبلغن} وهو في قراءة حمزة وعليّ {يبلغان} بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين {أَوْ كِلاهُمَا} عطف على {أحدهما} فاعلًا وبدلًا {فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} مدني وحفص.
{أفّ} مكي وشامي.
{أفّ} غيرهم.
وهو صوت يدل على تضجر فالكسر على أصل التقاء الساكنين والفتح للتخفيف، والتنوين لإرادة التنكير أي أتضجر تضجرًا، وتركه لقصد التعريف أي أتضجر التضجر المعلوم {وَلا تَنْهَرْهُمَا} ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك والنهي والنهر أخوان {وَقُل لَّهُمَا} بدل التأفيف والنهر {قَوْلًا كَرِيمًا} جميلًا لينًا كما يقتضيه حسنِ الأدب أو هو أن يقول: يا أبتاه يا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء ولا بأس به في غير وجهه، كما قالت عائشة رضي الله عنها: نحلني أبو بكر كذا، وفائدة {عندك} إنهما إذا صارا كلًا على ولدهما ولا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه وذلك أشق عليه، فهو مأمور بأن يستعمل معهما لين الخلق حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما {أف} فضلًا عما يزيد عليه، ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها.
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} أي اخفض لهما جناحك كما قال {واخفض جناحك للمؤمنين} [الحجر: 88] فأضافه إلى الذل كما أضيف حاتم إلى الجود والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل {مِنَ الرَّحْمَةِ} من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس.
وقال الزجاج: وألن جانبك متذللًا لهما من مبالغتك في الرحمة لهما {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء، لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك.
والمراد بالخطاب غيره عليه السلام، والدعاء مختص بالأبوين المسلمين، وقيل: إذا كانا كافرين له أن يسترحم لهما بشرط الإيمان وأن يدعو الله لهما بالهداية.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» وروي «يفعل البار ما شاء أن يفعل فلن يدخل النار ويفعل العاق ما شاء أن يفعل فلن يدخل الجنة» وعنه عليه السلام: «إياكم وعقوق الوالدين فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام ولا يجد عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء إن الكبرياء لله رب العالمين» {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفِوسِكُمْ} بما في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين ومن النشاط والكرامة في خدمتهما {إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ} قاصدين الصلاح والبر ثم فرطت منكم في حال الغضب وعند حرج الصدر هنة تؤدي إلى أذاهما ثم أبتم إلى الله واستغفرتم منها {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا} الأواب الذي إذا أذنب بادر إلى التوبة فجاز أن يكون هذا عامًا لكل من فرطت منه جناية، ثم تاب منها ويندرج تحت الجاني على أبويه التائب من جنايته لوروده على أثره.