فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {قل كونوا حجارةً أو حديدًا}.
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: معناه إن عجبتم من إنشاء الله تعالى لكم عظامًا ولحمًا فكونوا أنتم حجارة أو حديدًا إن قدرتم، قاله أبو جعفر الطبري.
الثاني: معناه أنكم: لو كنتم حجارة أو حديدًا لم تفوتوا الله تعالى إذا أرادكم إلا أنه أخرجه مخرج الأمر لأنه أبلغ من الإلزام، قاله علي بن عيسى.
الثالث: معناه لو كنتم حجارة أو حديدًا لأماتكم الله ثم أحياكم. {أو خَلْقًا ممّا يكبر في صدوركم} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: أنه عنى بذلك السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس، قاله مجاهد.
الثاني: أنه أراد الموت لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه وقد قال أمية ابن أبي الصلت:
نادوا إلههمُ ليسرع خلقهم ** وللموت خلق للنفوس فظيعُ

وهذا قول ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص.
الثالث: أنه أراد البعث لأنه كان أكبر شيء في صدروهم قاله الكلبي.
الرابع: ما يكبر في صدوركم من جميع ما استعظمتموه من خلق الله تعالى، فإن الله يميتكم ثم يحييكم ثم يبعثكم، قاله قتادة. {... فسينغضون إليك رءُوسَهُم} قال ابن عباس وقتادة، أي يحركون رؤوسهم استهزاء وتكذيبًا، قال الشاعر:
قلت لها صلي فقالت مِضِّ ** وحركت لي رأسها بالنغضِ

قوله عز وجل: {يَوْمَ يدعوكم فتستجيبون بحمده} في قوله تعالى يدعوكم قولان:
أحدهما: أنه نداء كلام يسمعه جميع الناس يدعوهم الله بالخروج فيه إلى أرض المحشر.
الثاني: أنها الصيحة التي يسمعونها فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة.
وفي قوله: {فتستجيبون بحمده} أربعة أوجه:
أحدها: فتستجيبون حامدين لله تعالى بألسنتكم.
الثاني: فتستجيبون على ما يقتضي حمد الله من أفعالكم.
الثالث: معناه فستقومون من قبوركم بحمد الله لا بحمد أنفسكم.
الرابع: فتستجيبون بأمره، قاله سفيان وابن جريج.
{وتظنون إن لبثتم إلاّ قليلًا} فيه خمس أوجه:
أحدها: إن لبثتم إلا قليلًا في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة، قاله الحسن.
الثاني: معناه الاحتقار لأمر الدنيا حين عاينوا يوم القيامة، قاله قتادة.
الثالث: أنهم لما يرون من سرعة الرجوع يظنون قلة اللبث في القبور.
الرابع: أنهم بين النفختين يرفع عنهم العذاب فلا يعذبون، وبينهما أربعون سنة فيرونها لاستراحتهم قليقلة؛ قاله الكلبي.
الخامس: أنه لقرب الوقت، كما قال الحسن كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل.
قوله عز وجل: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به.
{إنّ الشيطان ينزغُ بينهم} في تكذيبه.
الثاني: أنه امتثال أوامر الله تعالى ونواهيه، قاله الحسن.
الثالث: أنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: أن يرد خيرًا على من شتمه.
وقيل إنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من بعض كفار قريش، فهم به عمر، فأنزل الله تعالى فيه {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}.
قوله عز وجل: {إن يشاء يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم}.
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: إن يشأ يرحمكم بالهداية أو يعذبكم بالإضلال.
الثاني: إن يشاء يرحمكم فينجيكم من أعدائكم أو يعذبكم بتسلطهم عليكم، قاله الكلبي.
الثالث: إن يشأ يرحمكم بالتوبة أو يعذبكم بالإقامة، قاله الحسن:
{وما أرسلناك عليهم وكيلًا} فيه وجهان:
أحدهما: ما وكلناك أن تمنعهم من الكفر بالله سبحانه، وتجبرهم على الإيمان به.
الثاني: ما جعلناك كفيلًا لهم تؤخذ بهم، قاله الكلبي، قاله الشاعر:
ذكرت أبا أرْوَى فَبِتُّ كأنني ** بِرَدِّ الأمور الماضيات وكيلُ

وكيل: أي كفيل. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديدًا} الآية، المعنى: قل لهم يا محمد كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي، لابد من بعثكم، وقوله: {كونوا} هو الذي يسميه المتكلمون التعجيز من أنواع لفظة افعل، وبهذه الآية مثل بعضهم، وفي هذا عندي نظر: وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب، كقوله تعالى: {فادرؤوا عن أنفسكم الموت} [آل عمران: 168]، ونحوه، وأما هذه الآية، فمعناها: كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا، الذي فطركم كذلك، هو يعيدكم، وقال مجاهد أراد بالخلق، الذي يكبر في الصدور: السماوات والأرض والجبال، وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو والحسن وابن جبير والضحاك: أراد الموت، وقال قتادة ومجاهد: بل أحال على فكرتهم عمومًا، ورجحه الطبري، وهذا هو الأصح، لأنه بدأ بشيء صلب، ثم تدرج القول إلى أقوى منه، ثم أحال على فكرهم، إن شاؤوا في أشد من الحديد، فلا وجه لتخصيص شيء دون شيء، ثم احتج عليهم عز وجل في الإعادة بالفطرة الأولى، من حيث خلقهم، واخترعهم من تراب، فكذلك يعيدهم إذا شاء، لا رب غيره، وقوله: {فسينغضون} معناه: يرفعون ويخفضون يريد على جهة التكذيب، قال ابن عباس: والاستهزاء.
قال الزجاج: تحريك من يبطل الشيء ويستبطئه، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
أنغض نحوي رأسه وأقنعا ** كأنما أبصر شيئًا أطمعا

ويقال نغضت السنّ إذا تحركت وقال ذو الرمة: [الطويل]
ظعائن لم يسكن أكناف قرية ** بسيف ولم تنغض بهن القناطر

قال الطبري وابن سلام و{عسى} من الله واجبة والمعنى: وهو قريب.
قال القاضي أبو محمد: وهذه إنما هي من النبي عليه السلام، ولكنها بأمر الله، فيقربها ذلك من الوجوب، وكذلك قال عليه السلام: «بعثت أنا والساعة كهاتين»، وفي ضمن اللفظ توعد لهم.
{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}.
{يوم}: بدل من قوله: {قريبًا} [الإسراء: 51]، ويظهر أن يكون المعنى: هو يوم، جوابًا لقولهم: {متى هو} [ذاته] ويريد: يدعوكم من قبوركم بالنفخ في الصور، لقيام الساعة، وقوله: {فتستجيبون} أي بالقيام والعودة والنهوض نحو الدعوة، وقوله: {بحمده}، حكى الطبري عن ابن عباس أنه قال معناه: بأمره، وكذلك قال ابن جريج، وقال قتادة معناه: بطاعته ومعرفته، وهذا كله تفسير لا يعطيه اللفظ ولا شك أن جيمع ذلك بأمر الله تعالى وإنما معنى {بحمده}: إما أن جميع العالمين، كما قال ابن جبير، يقومون وهم يحمدون الله ويحمدونه لما يظهر لهم من قدرته، وإما أن قوله: {بحمده} هو كما تقول لرجل خصمته وحاورته في علم قد أخطأت بحمد الله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم في هذه الآيات: عسى، أن الساعة قريبة، يوم يدعون فيقومون بخلاف ما تعتقدون الآن، وذلك بحمد الله على صدق خبري، نحا هذا المنحى الطبري ولم يخلصه، وقوله تعالى: {وتظنون إن لبثتم إلا قليلًا} يحتمل معنيين: أحدهما أنه أخبر أنهم لما رجعوا إلى حالة الحياة، وتصرف الأجساد، وقع لهم ظن أنهم لم ينفصلوا عن حال الدنيا إلا قليلًا لمغيب علم مقدار الزمن عنهم، إذ من في الآخرة لا يقدر زمن الدنيا، إذ هم لا محالة أشد مفارقة لها من النائمين، وعلى هذا التأويل عول الطبري، واحتج بقوله تعالى: {كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يومًا أبو بعض يوم} [المؤمنون: 112-113]، والآخر: أن يكون الظن بمعنى اليقين فكأنه قال لهم: يوم تدعون فتستجيبون بحمد الله، وتتيقنون أنكم إنما لبثتم قليلًا، من حيث هو منقض منحصر، وهذا كما يقال في الدنيا بأسرها: متاع قليل، فكأنه قلة قدر على أن الظن بمعنى اليقين يقلق ها هنا لأنه في شيء قد وقع، وإنما يجيء الظن بمعنى اليقين فيما لم يخرج بعد إلى الكون والوجود، وفي الكلام تقوية للبعث، كأنه يقول: أنت أيها المكذب بالحشر، الذي تعتقد أنك لا تبعث أبدًا، لابد أن تدعى للبعث، فتقوم، وترى أنك إنما لبثت قليلًا منقضيًا منصرمًا. وحكى الطبري عن قتادة أنهم لما رأوا هول يوم القيامة احتقروا الدنيا فظنوا أنهم لبثوا فيها قليلًا. وقوله تعالى: {وقل لعبادى} الآية اختلف النحويون في قوله: {يقولوا} فمذهب سيبويه، أنه جواب شرط مقدر تقديره: وقل لعبادي: إنك إن تقل لهم يقولوا، وهذا على أصله، في أن الأمر لا يجاب، وإنما يجاب معه شرط مقدر، ومذهب الأخفش: أن الأمر يجاب، وأن قوله ها هنا {يقولوا} إنما هو جواب {قل}.
قال القاضي أبو محمد: ولا يصح المعنى على هذا بأن يجعل {قل} مختصة بهذه الألفاظ على معنى أن يقول لهم النبي: قولوا التي هي أحسن؛ وإنما يصح بأن يكون {قل} أمرًا بالمحاورة في هذا المعنى بما أمكن من الألفاظ، كأنه قال بين لعبادي، فتكون ثمرة ذلك القول والبيان قولهم {التي هي أحسن}، وهذا المعنى يجوزه مذهب سيبويه الذي قدمنا ومذهب أبي العباس المبرد: أن {يقولوا} جواب لأمر محذوف، تقديره: وقل لعبادي قولوا التي هي أحسن يقولوا فحذف وطوي الكلام، ومذهب الزجاج: أن {يقولوا} جزم بالأمر، بتقدير {قل لعبادي} ليقولوا، فحذفت اللام لتقدم الأمر، وحكى أبو علي في الحلبيات في تضاعيف كلامه: أن مذهب أبي عثمان المازني في {يقولوا} أنه فعل مبني، لأنه مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر؛ لأن المعنى {قل لعبادي} قولوا، واختلف الناس في {التي هي أحسن} فقالت فرقة: هي لا إله إلا الله، ويلزم على هذا أن يكون قوله: {لعبادي} يريد به جميع الخلق، لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلا الله.
ويجيء قوله بعد ذلك {إن الشيطان ينزع بينهم} غير مناسب للمعنى، إلا على تكره، بأن يجعل {بينهم} بمعنى خلالهم، وأثناءهم، ويجعل النزع بمعنى الوسوسة والإضلال، وقال الجمهور: {التي هي أحسن} هي المحاورة الحسنى بحسب معنى قال الحسن: يقول: يغفر الله لك، يرحمك الله، وقوله: {لعبادي} خاص بالمؤمنين، فكأن الآية بمعنى قوله عليه السلام، «وكونوا عباد الله إخوانًا» ثم اختلفوا، فقالت فرقة: أمر الله المؤمنين فيما بينهم بحسن الأدب، وخفض الجناح، وإلانة القول، واطراح نزغات الشيطان، وقالت فرقة: إنما أمر الله في هذه الآية المؤمنين بالإنة القول للمشركين بمكة، أيام المهادنة، وسبب الآية: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شتمه بعض الكفرة، فسبه عمر وهم بقتله، فكاد أن يثير فتنة، فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف، وقرأ الجمهور: {ينزَغ} بفتح الزاي، وقرأ طلحة بن مصرف: {نزغ} بكسر الزاي على الأصل قال أبو حاتم: لعلها لغة، والقراءة بالفتح، ومعنى النزغ: حركة الشيطان بسرعة ليوجب فسادًا، ومنه قول النبي عليه السلام: «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزع الشيطان في يده» فهذا يخرج اللفظة عن الوسوسة، وعداوة الشيطان البينة هي قصته مع آدم عليه السلام فما بعد، وقوله تعالى: {ربكم أعلم بكم} الآية، هذه الآية تقوي أن التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة؛ وذلك أن هذه المخاطبة في قوله: {ربكم أعلم بكم} هي لكفار مكة بدليل قوله: {وما أرسلناك عليهم وكيلًا} فكأن الله عز وجل أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال للكفار إنه أعلم بهم، ورجاهم وخوفهم، ومعنى {يرحمكم} بالتوبة عليكم من الكفر، قاله ابن جريج وغيره، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإنما عليك البلاغ، ولست بوكيل على إيمانهم ولا بد، فتتناسب الآيات بهذا التأويل ثم قال تبارك وتعالى لنبيه عليه السلام {وربك أعلم بمن في السماوات والأرض} وهو الذي فضل بعض الأنبياء على بعض بحسب علمه فيهم، فهذه إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى استبعاد قريش أن يكون الرسول بشرًا، المعنى: لا تنكروا أمر محمد عليه السلام، وإن أوتي قرآنًا، فقد فضل النبيون، وأوتي داود زبورًا، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته، وتفضيل بعض الرسل، هو إما بهذا الإخبار المجمل دون أن يسمى المفضول وعلى هذا يتجه لنا أن نقول محمد أفضل البشر، وقد نهى عليه السلام عن تعيين أحد منهم في قصة موسى ويونس، وإما أن يكون التفضيل مقسمًا فيهم: أعطي هذا التكليم، وأعطيت هذه الخلفة، ومحمد الخمس، وعيسى الإحياء، فكلهم مفضول على وجه فاضل على الإطلاق، وقوله: {بمن في السماوات}، الباء متعلقة بفعل تقديره، علم من في السماوات ذهب إلى هذا أبو علي لأنه لو علقها بـ {أعلم} لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يلزم ويصح تعلقها بـ {أعلم} ولا يلتفت لدليل الخطاب وقرأ الجمهور: {زَبورًا} بفتح الزاي، وهو فَعول بمعنى مفعول، وهو قليل لم يجىء إلا في قدوع وركوب وحلوب، وقرأ حمزة ويحيى والاعمش: {زُبورًا} بضم الزاي، وله وجهان: أحدهما أن يكون جمع زبور بحذف الزائد، كما قالوا في جمع ظريف، ظروف، والآخر، أن يكون جمع زبور كأن ما جاء به داود، جزىء أجزاء كل جزء منها زبر، سمي بمصدر زبر يزبر، ثم جمع تلك الأجزاء على زبور، فكأنه قال: آتينا داود كتبًا، ويحتمل أن يكون جمع زبر الذي هو العقل وسداد النظر، لأن داود أوتي من المواعظ والوصايا كثيرًا، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم، في آخر كتاب مسلم: «وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له» قال قتادة زبور داود مواعظ وحكم ودعاء ليس فيه حلال ولا حرام. اهـ.