فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {أو خلقًا مما يَكْبُر في صدوركم}
فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه الموت، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، والأكثرون.
والثاني: أنه السماء والأرض والجبال، قاله مجاهد.
والثالث: [أنه] ما يكبر في صدوركم، من كل ما استعظموه من خلق الله تعالى، قاله قتادة.
فإن قيل: كيف قيل لهم: {كونوا حجارة أو حديدًا} وهم لا يقدرون على ذلك؟ فعنه جوابان.
أحدهما: إِن قدرتم على تغيُّر حالاتكم، فكونوا حجارة أو أشدَّ منها، فانا نميتكم، وننفِّذ أحكامنا فيكم، ومثل هذا قولك للرجل: اصعد إِلى السماء فاني لاحقك.
والثاني: تصوَّروا أنفسكم حجارة أو أصلب منها، فإنا سنُبيدكم، قال الأحوص:
إِذَا كُنْتَ عَزْهَاةً عَن اللَّهْوِ وَالصِّبى ** فَكُنْ حَجَرًَا مِنْ يَابِسِ الصَّخْرِ جَلْمَدَاَ

معناه: فتصوَّر نفسك حَجَرًا، وهؤلاء قوم اعترفوا أن الله خالقهم، وجحدوا البعث، فأُعلموا أن الذي ابتدأ خلقهم هو الذي يحييهم.
قوله تعالى: {فسيُنْغِضون إِليك رؤوسهم} قال قتادة: يحرِّكونها تكذيبًا واستهزاءً.
قال الفراء: يقال: أنغض رأسه: إِذا حركه إِلى فوق وإِلى أسفل.
وقال ابن قتيبة: المعنى: يحرِّكونها، كما يحرِّك الآيس من الشيء والمستبعدُ [له] رأسَه، يقال: نَغَصَتْ سِنُّه، إِذا تحركت.
قوله تعالى: {ويقولون متى هو؟} يعنون البعث {قل عسى أن يكون قريبًا} أي: هو قريب.
ثم بيَّن متى يكون فقال: {يوم يدعوكم} يعني: من القبور بالنداء الذي يُسمعكم، وهو النفخة الأخيرة {فتستجيبون} أي: تجيبون.
قال مقاتل: يقوم إِسرافيل على صخرة بيت المقدس يدعو أهل القبور في قرن، فيقول: أيتها العظام البالية، وأيتها اللحوم المتمزقة، وأيتها الشعور المتفرقة، وأيتها العروق المتقطعة، اخرجوا إِلى فصل القضاء لتُجزَوا بأعمالكم، فيسمعون الصوت، فيسعَون إِليه.
وفي معنى {بحمده} أربعة أقوال.
أحدها: بأمره، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد.
والثاني: يخرجون من القبور وهم يقولون: سبحانك وبحمدك، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: أن معنى {بحمده}: بمعرفته، وطاعته، قاله قتادة.
قال الزجاج: تستجيبون مُقرِّين أنه خالِقكم.
والرابع: تجيبون بحمد الله لا بحمد أنفسكم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: {وتظنون إِن لبثتم إِلا قليلًا} في هذا الظن قولان.
أحدهما: أنه بمعنى اليقين.
والثاني: أنه على أصله.
وأين يظنون أنهم لبثوا قليلًا؟ فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: بين النفختين، ومقداره أربعون سنة، ينقطع في ذلك العذاب عنهم، فيرون لبثهم في زمان الراحة قليلًا، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: في الدنيا، لعلمهم بطول اللبث في الآخرة، قاله الحسن.
والثالث: في القبور، قاله مقاتل.
فعلى هذا إِنما قصر اللبث في القبور عندهم، لأنهم خرجوا إِلى ما هو أعظم عذابًا من عذاب القبور.
وقد ذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية خطاب للمؤمنين، لأنهم يجيبون المنادي وهم يحمدون الله على إِحسانه إِليهم، ويستقلُّون مدة اللبث في القبور، لأنهم كانوا غير معذَّبين.
قوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}
في سبب نزولها قولان.
أحدهما: أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، بالقول والفعل، فشكَوا ذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.
قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن رجلًا من الكفار شتم عمر بن الخطاب، فهمَّ به عمر رضي الله عنه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل؛ والمعنى: وقل لعبادي المؤمنين يقولوا الكلمة التي هي أحسن.
واختلفوا فيمن تقال له هذه الكلمة على قولين.
أحدهما: أنهم المشركون، قال الحسن: تقول له: يَهديك الله، وما ذكرنا من سبب نزول الآية يؤيد هذا القول.
وذهب بعضهم إِلى أنهم أُمروا بهذه الآية بتحسين خطاب المشركين قبل الأمر بقتالهم، ثم نُسخت هذه الآية بآية السيف.
والثاني: أنهم المسلمون، قاله ابن جرير.
والمعنى: وقل لعبادي يقول بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة.
وقد روى مبارك عن الحسن قال: {التي هي أحسن} أن يقول له مثل قوله، ولكن يقول له: يرحمك الله، ويغفر الله لك.
قال الأخفش: وقوله: {يقولوا} مثل قوله: {يقيموا الصلاة}، وقد شرحنا ذلك في سورة [ابراهيم: 31].
قوله تعالى: {إِن الشيطان يَنزَغ بينهم} أي: يُفسد ما بينهم، والعدوّ المُبَين: الظاهر العداوة.
قوله تعالى: {ربُّكم أعلم بكم}
فيمن خوطب بهذا قولان.
أحدهما: أنهم المؤمنون.
ثم في معنى الكلام قولان.
أحدهما: {إِن يشأ يرحمكم} فينجيكم من أهل مكة، {وإِن يشأ يعذبكم} فيسلطهم عليكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: إِن يشأ يرحمكم بالتوبة، أو يعذبكم بالإِقامة على الذنوب، قاله الحسن.
والثاني: أنهم المشركون.
ثم في معنى الكلام قولان.
أحدهما: إِن يشأ يرحمكم، فيهديكم للإيمان، أو إِن يشأ يعذِّبكم، فيميتكم على الكفر، قاله مقاتل.
والثاني: أنه لما نزل القحط بالمشركين فقالوا: {ربَّنا اكشف عنا العذاب إِنّا مؤمنون} [الدخان: 12]، قال الله تعالى: {ربُّكم أعلم بكم} مَنْ الذي يؤمن، ومن [الذي] لا يؤمن، {إِن يشأ يرحمكم} فيكشف القحط عنكم {أو إِن يشأ يعذبكم} فيتركه عليكم، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قال ابن الأنباري: و{أو} هاهنا دخلت لسَعة الأمرين عند الله تعالى، وأنه لا يردّ عنهما، فكانت ملحقة ب {أو} المبيحة في قولهم: جالس الحسن، أو ابن سيرين، يعنون: قد وسَّعنا لك الأمر.
قوله تعالى: {وما أرسلناك عليهم وكيلًا} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: كفيلًا تُؤخذ بهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: حافظًا وربًّا، قاله الفراء.
والثالث: كفيلًا بهدايتهم وقادرًا على إِصلاح قلوبهم، ذكره ابن الأنباري.
وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذا منسوخ بآية السيف.
قوله تعالى: {وربك أعلم بمن في السموات والأرض}
لأنه خالِقُهم، فهدى من شاء، وأضلَّ من شاء، وكذلك فضَّل بعض النبيين على بعض، وذلك عن حكمة منه وعِلم، فخلق آدم بيده، ورفع إِدريس، وجعل الذرِّية لنوح، واتخذ ابراهيم خليلًا، وموسى كليمًا، وجعل عيسى روحًا، وأعطى سليمان مُلْكًا جسيمًا، ورفع محمدًا صلى الله عليه وسلم فوق السموات، وغفر له ما تقدم من ذَنْبه وما تأخر.
ويجوز أن يكون المفضَّلون أصحابَ الكتب، لأنه ختم الكلام بقوله: {وآتينا داود زبورًا}.
وقد شرحنا معنى الزبور في سورة [النساء: 163]. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} أي قل لهم يا محمد كونوا على جهة التعجيز حجارة أو حديدًا في الشدّة والقوة.
قال الطبري: أي إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظامًا ولحمًا فكونوا أنتم حجارة أو حديدًا إن قَدرتم.
وقال عليّ بن عيسى: معناه أنكم لو كنتم حجارة أو حديدًا لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم؛ إلا أنه خرج مخرج الأمر، لأنه أبلغ في الإلزام.
وقيل: معناه لو كنتم حجارة أو حديدًا لأعادكم كما بدأكم، ولأماتكم ثم أحياكم.
وقال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون.
النحاس: وهذا قول حسن؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة، وإنما المعنى أنهم قد أقرّوا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم حجارة أو حديدًا لبُعثتم كما خُلقتم أوّل مرة.
{أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} قال مجاهد: يعني السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس.
وهو معنى قول قتادة.
يقول: كونوا ما شئتم، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم.
وقال ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن جُبير ومجاهد أيضًا وعكرمة وأبو صالح والضحاك: يعني الموت؛ لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه؛ قال أُمَيّة بن أبي الصلت:
وللمَوْتُ خَلْق في النفوس فظيع

يقول: إنكم لو خُلقتم من حجارة أو حديد أو كنتم الموت لأميتَنّكم ولأبعثنكم؛ لأن القدرة التي بها أنشأتكم بها نعيدكم.
وهو معنى قوله: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
وفي الحديث أنه: «يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كَبْش أمْلَحَ فيذبح بين الجنة والنار» وقيل: أراد به البعث؛ لأنه كان أكبر في صدورهم؛ قاله الكلبي.
{فَطَرَكُمْ} خلقكم وأنشأكم.
{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} أي يحرّكون رؤوسهم استهزاء؛ يقال: نَغَضَ رأسُه يَنْغُض ويَنْغِض نَغْضًا ونُغوضًا؛ أي تحرّك.
وأنغض رأسه أي حركه، كالمتعجب من الشيء؛ ومنه قوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ}.
قال الراجز:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا

ويقال أيضًا: نغض فلان رأسه أي حرّكه؛ يتعدّى ولا يتعدّى، حكاه الأخفش.
ويقال: نَغَضت سِنّه؛ أي تحركت وانقلعت.
قال الراجز:
ونغضت من هَرَم أسنانها

وقال آخر:
لما رأتني أنغضتْ لِي الرأسا

وقال آخر:
لا ماء في المَقْرَاة إن لم تنهضِ ** بمَسَدٍ فوق المَحالِ النُّغَّض

المحال والمحالة: البكرة العظيمة التي يستقَى بها الإبل.
{وَيَقُولُونَ متى هُوَ} أي البعث والإعادة وهذا الوقت.
{قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} أي هو قريب؛ لأن عسى واجب؛ نظيره {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63].
و{لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17].
وكل ما هو آت فهو قريب.
{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)}.