فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقول الراجز الآخر:
ونغضت من هرم أسنانها

وقال آخر:
لما رأتني أنغضت لي رأسها

{وَيَقُولُونَ متى هُوَ} أي: البعث والإعادة استهزاء منهم وسخرية {قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} أي: هو قريب، لأن عسى في كلام الله واجب الوقوع، ومثله {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63]، وكل ما هو آتٍ قريب {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} الظرف منتصب بفعل مضمر أي: اذكر، أو بدل من {قريبًا}، أو التقدير: يوم يدعوكم كان ما كان، الدعاء: النداء إلى المحشر بكلام يسمعه الخلائق، وقيل: هو الصيحة التي تسمعونها، فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض المحشر {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي: منقادين له، حامدين لما فعله بكم، فهو في محل نصب على الحال.
وقيل: المعنى: فتستجيبون والحمد لله كما قال الشاعر:
وإني بحمد الله لا ثوب فاخر ** لبست ولا من غدرة أتقنع

وقد روي أن الكفار عند خروجهم من قبورهم يقولون: سبحانك وبحمدك؛ وقيل: المراد بالدعاء هنا البعث، وبالاستجابة: أنهم يبعثون، فالمعنى: يوم يبعثكم فتبعثون منقادين {وَتَظُنُّونَ إِن لبثتم إِلاَّ قَلِيلًا} أي: تظنون عند البعث أنكم ما لبثتم في قبوركم إلاّ زمنًا قليلًا، وقيل: بين النفختين، وذلك أن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين، وذلك أربعون عامًا ينامون فيها، فلذلك {قَالُواْ مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [ياس: 52]، وقيل: إن الدنيا تحقرت في أعينهم وقلّت حين رأوا يوم القيامة، فقالوا هذه المقالة.
{وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ التى هي أَحْسَنُ} أي قل: يا محمد لعبادي المؤمنين: أن يقولو عند محاورتهم للمشركين الكلمة التي هي أحسن من غيرها من الكلام الحسن كقوله سبحانه: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].
وقوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيّنًا} [طه: 44] لأن المخاشنة لهم ربما تنفرهم عن الإجابة أو تؤدي إلى ما قال سبحانه: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
وهذا كان قبل نزول آية السيف، وقيل: المعنى: قل لهم يأمروا بما أمر الله وينهوا عما نهى عنه، وقيل: هذه الآية للمؤمنين فيما بينهم خاصة، والأوّل أولى كما يشهد به السبب الذي سنذكره إن شاء الله {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} أي: بالفساد وإلقاء العداوة والإغراء.
قال اليزيدي: يقال نزغ بيننا أي: أفسد.
وقال غيره: النزغ الإغراء {إِنَّ الشيطان كَانَ للإنسان عَدُوّا مُّبِينًا} أي: متظاهرًا بالعداوة مكاشفًا بها، وهو تعليل لما قبله، وقد تقدّم مثل هذا في البقرة.
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ} قيل: هذا خطاب للمشركين.
والمعنى: إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم أو يميتكم عن الشرك فيعذبكم، وقيل: هو خطاب للمؤمنين أي: {إن يشأ يرحمكم} بأن يحفظكم من الكفار {أو إن يشأ يعذبكم} بتسليطهم عليكم؛ وقيل: إن هذا تفسير لكلمة {التي هي أحسن} {وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} أي: ما وكلناك في منعهم من الكفر، وقسرهم على الإيمان؛ وقيل: ما جعلناك كفيلًا لهم تؤخذ بهم، ومنه قول الشاعر:
ذكرت أبا أروى فبتّ كأنني ** بردّ الأمور الماضيات وكيل

أي: كفيل.
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ في السموات والارض} أعلم بهم ذاتًا وحالًا واستحقاقًا، وهو أعمّ من قوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} لأن هذا يشمل كل ما في السموات والأرض من مخلوقاته، وذاك خاص ببني آدم أو ببعضهم، وهذا كالتوطئة لقوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ} أي: إن هذا التفضيل عن علم منه بمن هو أعلى رتبة وبمن دونه، وبمن يستحق مزيد الخصوصية بتكثير فضائله وفواضله.
وقد تقدّم هذا في البقرة.
وقد اتخذ الله إبراهيم خليلًا، وموسى كليمًا، وجعل عيسى كلمته وروحه، وجعل لسليمان ملكًا عظيمًا، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وجعله سيد ولد آدم.
وفي هذه الآية دفع لما كان ينكره الكفار مما يحكيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ارتفاع درجته عند ربه عزّ وجلّ، ثم ذكر ما فضل به داود، فقال: {وَءاتَيْنَا داود زبورا} أي: كتابًا مزبورًا.
قال الزجاج: أي فلا تنكروا تفضيل محمد وإعطاءه القرآن فقد أعطى الله داود زبورًا.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ورفاتا} قال: غبارًا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {ورفاتا} قال: ترابًا، وفي قوله: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} قال: ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله كما كنتم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله: {أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ في صُدُورِكُمْ} قال: الموت، لو كنتم موتًا لأحييتكم.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، والحاكم عن ابن عباس مثله.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن مثله أيضًا.
وأخرج عبد الله بن أحمد، وابن جرير، وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه، وزاد قال: فكونوا الموت إن استطعتم فإن الموت سيموت.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءوسِهِمُ} قال: سيحركونها استهزاءً.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله: {وَيَقُولُونَ متى هُوَ} قال: الإعادة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} قال: بأمره.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال: يخرجون من قبورهم وهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} قال: بمعرفته وطاعته {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا} أي: في الدنيا، تحاقرت الدنيا في أنفسهم، وقلّت حين عاينوا يوم القيامة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين في قوله: {وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ التى هي أَحْسَنُ} قال: لا إله إلاّ الله.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: يعفو عن السيئة.
وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: يقول له يرحمك الله، يغفر الله لك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: نزغ الشيطان: تحريشه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُورًا} قال: كنا نحدّث أنه دعاء علمه داود، وتحميد وتمجيد لله عزّ وجلّ ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: الزبور: ثناء على الله ودعاء وتسبيح.
قلت: الأمر كما قاله قتادة والربيع، فإنا وقفنا على الزبور فوجدناه خطبًا يخطبها داود عليه السلام، ويخاطب بها ربه سبحانه عند دخوله الكنيسة، وجملته مائة وخمسون خطبة، كل خطبة تسمى مزمورًا بفتح الميم الأولى وسكون الزاي وضم الميم الثاينة وآخره راء، ففي بعض هذه الخطب يشكو داود على ربه من أعدائه ويستنصره عليهم، وفي بعضها يحمد الله ويمجده ويثني عليه بسبب ما وقع من النصر عليهم والغلبة لهم، وكان عند الخطبة يضرب بالقيثارة، وهي آلة من آلات الملاهي.
وقد ذكر السيوطي في الدرّ المنثور ها هنا روايات عن جماعة من السلف يذكرون ألفاظًا وقفوا عليها في الزبور ليس لها كثير فائدة، فقد أغنى عنها وعن غيرها ما اشتمل عليه القرآن من المواعظ والزواجر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)}.
جواب عن قولهم: {أئذا كنا عظامًا ورفاتًا أئنا لمبعوثون خلقًا جديدًا} [الإسراء: 49].
أمر الله رسوله بأن يجيبهم بذلك.
وقرينة ذلك مقابلةُ فعل {كنا} [الإسراء: 49] في مقالهم بقوله: {كونوا}، ومقابلة {عظامًا ورفاتًا} في مقالهم بقوله: {حجارة أو حديدًا} الخ، مقابلة أجسام واهية بأجسام صُلبة.
ومعنى الجواب أن وهن الجسم مساوٍ لصلابته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى على تكييفه كيف يشاء.
لهذا كانت جملة {قل كونوا حجارة} إلخ غير معطوفة، جرْيًا على طريقة المحاورات التي بينتُها عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة [البقرة: 30].
وإن كان قوله: {قل} ليسَ مبدأ محاورة بل المحاورة بالمقول الذي بعده؛ ولكن الأمر بالجواب أعطي حكم الجواب فلذلك فصلت جملة {قل}.
واعلم أن ارتباطَ رد مقالتهم بقوله: {كونوا حجارة} إلخ غامض، لأنهم إنما استبعدوا أو أحالوا إرجاعَ الحياة إلى أجسام تَفرّقت أجزاؤُها وانخرم هيكلها، ولم يعللوا الإحالة بأنها صارت أجسامًا ضعيفة، فيرد عليهم بأنها لو كانت من أقوى الأجسام لأعيدت لها الحياة.
فبنا أن نبين وجه الارتباط بين الرد على مقالتهم وبين مقالتهم المردودة، وفي ذلك ثلاثة وجوه:
أحدها: أن تكون صيغة الأمر في قوله: {كونوا} مستعملة في معنى التسوية، ويكون دليلًا على جواببٍ محذوف تقديره: إنكم مبعوثون سَواء كنتم عظامًا ورُفاتًا أو كنتم حجارة أو حديدًا، تنبيهًا على أن قدرة الله تعالى لا يتعاصى عليها شيء.
وذلك إدماج يجعل الجملة في معنى التذييل.
الوجه الثاني:
أن تكون صيغة الأمر في قوله: {كونوا} مستعملة في الفرض، أي لو فُرض أن يكون الأجساد من الأجسام الصلبة وقيل لكم: إنكم مبعوثون بعد الموت لأحلتم ذلك واستبعدتم إعادة الحياة فيها.
وعلى كلا الوجهين يكون قوله: {مما يكبر في صدوركم} نهايةَ الكلام، ويكون قوله: {فسيقولون من يعيدنا} مفرعًا على جملة {وقالوا أئذا كنا} [الإسراء: 49] إلخ تفريعًا على الاستئناف.
وتكون الفاء للاستئناف وهي بمعنى الواو على خلاف في مجيئها للاستئناف، والكلام انتقال لحكاية تكذيب آخر من تكذيباتهم.
الوجه الثالث:
أن يكون قوله: {قل كونوا حجارة} كلامًا مستأنفًا ليس جوابًا على قولهم: {أئذا كنا عظامًا ورفاتًا} [الإسراء: 49] إلخ وتكون صيغة الأمر مستعملة في التسوية.
وفي هذا الوجه يكون قوله: {فسيقولون من يعيدنا} متصلًا بقوله: {كونوا حجارة أو حديدًا} الخ، ومفرعا على كلام محذوف يدل عليْه قوله: {كونوا حجارة}، أي فلو كانوا كذلك لقالوا: من يعيدنا، أي لانْتقلوا في مدارج السفسطة من إحالة الإعادة إلى ادعاء عدم وجود قادر على إعادة الحياة لهم لصلابة أجسادهم.
وبهذه الوجوه يلتئم نظم الآية وينكشف ما فيه من غموض.
والحديد: تراب معدني، أي لا يوجد إلا في مغاور الأرض، وهو تراب غليظ مُختلف الغلظ، ثقيل أدكن اللون، وهو إما محتت الأجزاء وإما مورّقُها، أي مثل الورَق.
وأصنافه ثمانية عشر باعتبار اختلاف تركيب أجزائه، وتتفاوت ألوان هذه الأصناف، وأشرف أصنافه الخالصُ، وهو السالم في جميع أجزائه من المواد الغريبة.
وهذا نادر الوجود وأشهر ألوانه الأحمر، ويقسم باعتبار صلابته إلى صنفين أصليين يسميان الذكر والأنثى، فالصلب هو الذكر واللين الأنثى.
وكان العرب يصفون السيف الصلب القاطع بالذكر.
وإذا صهر الحديد بالنار تمازجت أجزاؤه وتميع وصار كالحلواء فمنه ما يكون حديدَ صب ومنه ما يكون حديدَ تطريق، ومنه فُولاذ.
وكل صنف من أصنافه صالح لما يناسب سبكه منه على اختلاف الحاجة فيها إلى شدة الصلابة مثل السيوف والدروع.
ومن خصائص الحديد أن يعلوَه الصدأُ، وهو كالوسخ أخضرُ ثم يستحيل تدريجًا إلى أكسيد كلمة كيمياوية تدل على تعلق أجزاء الأكسجين بجسم فتفسده وإذا لم يتعهد الحديد بالصقل والزيت أخذ الصدأ في نخر سطحه، وهذا المعدن يوجد في غالب البلاد.
وأكثر وجوده في بلاد الحبشة وفي صحراء مصر.
ووجدت في البلاد التونسية معادن من الحديد.
وكان استعمال الحديد من العصور القديمة؛ فإن الطور الثاني من أطور التاريخ يعرف بالعصر الحديدي، أي الذي كان البشر يستعمل فيه آلات متخذة من الحديد، وذلك من أثر صنعة الحديد، وذلك قبل عصر تدوين التاريخ.
والعصر الذي قبله يعرف بالعصر الحجري.
وقد اتصلت بتعيين الزمن الذي ابتدىء فيه صنع الحديد أساطير واهية لا ينضبط بها تاريخه.
والمقطوع به أن الحديد مستعمل عند البشر قبل ابتداء كتابة التاريخ ولكونه يأكله الصدأ عند تعرضه للهواء والرطوبة لم يَبق من آلاته القديمة إلا شيء قليل.