فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والواو على ما في البحر للعطف على {اذهب} [الإسراء: 63].
والمراد من الأمر التهديد وكذا من الأوامر الآتية، ويمنع من إرادة الحقيقة أن الله تعالى لا يأمر بالفحساء {مَنِ استطعت} أي الذي استطعت أن تستفزه {مِنْهُمْ} فمن موصول مفعول {استفزز} ومفعول {فَإِن استطعت} محذوف هو ما أشرنا إليه.
واختار أبو البقاء كون من استفهامية في موضع نصب باستطعت وهو خلاف الظاهر جدًا ولا داعي إلى ارتكابه {بِصَوْتِكَ} أي بدعائك إلى معصية الله تعالى ووسوستك، وعبر عن الدعاء بالصوت تحقيرًا له حتى كأنه لا معنى له كصوت الحمار.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير وغيرهما عن مجاهد تفسيره بالغناء والمزامير واللهو والباطل، وذكر الغزنوي أنه آدم عليه السلام أسكن ولد هابيل أعلى جبل وولد قابيل أسفله وفيهم بنات حسان فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم} أي صح عليهم من جلبة وهي الصياح قاله الفراء وأبو عبيدة، وذكر أن جلب وأجلب بمعنى.
وقال الزجاج: أجلب على العدو جمع عليه الخيل.
وقال ابن السكيت: جلب عليه أعان عليه، وقال ابن الأعرابي: أجلب على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع، وفسر بعضهم {أجلب} هنا باجمع فالباء في قوله تعالى: {عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} مزيدة كما في لا يقرأن بالسور.
وقرأ الحسن {وَأَجْلِبْ} بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثيا، والخيل يطلق على الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه، وقيل إن واحده خائل لاختياله في مشيه وعلى الفرسان مجازًا وهو المراد هنا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته لأصحابه رضي الله عنهم «يا خيل الله اركبي» والرجل بكسر الجيم فعل بمعنى فاعل فهو صفة كحذر بمعنى حاذر يقال: فلان يمشي رجلًا أي غير راكب.
وقال صاحب اللوامح: هو بمعنى الرجل يعني أنه مفرد أريد به الجمع لأنه المناسب للمقام وما عطف عليه، وبهذا قرأ حفص وأبو عمر في رواية والحسن، وظاهر الآية يقتضي أن للعين خيلا ورجلًا وبه قال جمع فقيل هم من الجن، وقيل منهم ومن الأنس وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومجاهد وقتادة قالوا: إن له خيلًا ورجلًا من الجن والإنس فما كان من راكب يقاتل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وما كان من راجل يقاتل في معصية الله تعالى فهو من رجل إبليس، وقال آخرون: ليس للشيطان خيل ولا رجالة وإنما هما كناية عن الأعوان والأتباع من غير ملاحظة لكون بعضهم راكبًا وبعضهم ماشيًا.
وجوز بعضهم أن يكون استفزازه بصوته واجلابه بخيله ورجله تمثيلًا لتسلطه على من يغويه فكأنه مغوارًا وقع على قوم فصوت بهم صوتًا يزعجهم من أماكنهم وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم، ومراده أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية ولا يضر فيها اعتبار مجاز أو كناية في المفردات فلا تغفل.
وقرأ الجمهور: {رجلك} بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع راجل كركب وراكب لا جمع لغلبة هذا الوزن في المفردات، وقرئ {إِلاَّ رَجُلٌ} بفتح الراء وضم الجيم وهو مفرد كما في قراءة حفص وقد جاءت ألفاظ من الصفة المشبهة على فعل وفعل كسرا وضما كحدث وندس وغيرهما.
وقرأ عكرمة وقتادة {رجالك} كنبالك، وقرئ {رجالك} ككفارك وكلاهما جمع رجلان وراجل كما في الكشف، وفي بعض نسخ الكشاف أنه قرئ {رجالك} بفتح الراء وتشديد الجيم على أن أصله رجالة فحذف تاؤه تخفيفًا وهي نسخة ضعيفة {وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ في الاموال} بحملهم على كسبها مما لا ينبغي وصرفها فيما لا ينبغي.
وقيل بحملهم على صرفها في الزنا، وعن الضحاك بحملهم على الذبح للآلهة، وعن قتادة بحملهم على تسييب السوائب وبحر البحائر والتعميم أولى {والأولاد} بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة وارتكاب ما لا يرضي الله تعالى فيهم.
وأخرج ابن جرير وابن وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المشاركة في الأولاد حملهم على تسميتهم بعبد الحرث وعبد شمس، وفي رواية حملهم على أن يرغبوهم في الأديان الباطلة ويصبغوهم بغير صبغة الإسلام.
وفي أخرى حملهم على تحصيلهم بالزنا، وأخرى تزيين قتلهم إياهم خشية الإملاق أو العار، وقيل حملهم على أن يرغبوهم في القتال وحفظ الشعر المشتمل على الفحش والحرف الخسيسة الخبيثة، وعن مجاهد أن الرجل إذا لم يسم عند الجماع فالجان ينطوي على احليله فيجامع معه وذلك هي المشاركة في الأولاد، والأولى ما ذكرنا.
{وَعَدَّهُمْ} المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة ونفع الأنساب الشريفة من لم يطع الله تعالى أصلًا وعدم خلود أحد في النار لمنافاة في ذلك عظم الرحمة وطول أمل البقاء في الدنيا ومن الوعد الكاذب وعده إياهم أنهم إذا ماتوا لا يبعثون وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، ثم هذا من قبيل المشاركة في النفس كما في البحر.
{وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُورًا} اعترض بين ما خوطب به الشيطان لبيان حال مواعيده والالتفات إلى الغيبة لتقوية معنى الاعتراض مع ما فيه من صرف الكلام عن خطابه وبيان حاله للناس ومن الأشعار بعلية شيطنته للغرور وهو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب؛ ويقال: غر فلانًا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد، وأصل ذلك على ما قال الراغب من الغر وهو الأثر الظاهر من الشيء، ونصبه على أنه وصف مصدر محذوف أي وعدا غرورًا على الأوجه التي في رجل عدل.
وجوز أن يكون مفعولًا من أجله أي وما يعدهم ويمينهم ما لا يتم ولا يقع إلا لأن يغرهم والأول أظهر.
وذكر الإمام في سبب كون وعد الشيطان غرورًا لا غير أنه إنما يدعو إلى أحد ثلاثة أمور: قضاء الشهوة، وإمضاء الغضب، وطلب الرياسة والرفعة ولا يدعو البتة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وتلك الأشياء الثلاثة ليست لذائذ في الحقيقة بل دفع آلام وإن سلم أنها لذائذ لكنها خسيسة يشترك فيه الناقص والكامل بل الإنسان والكلب ومع ذلك هي وشيكة الزوال ولا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة ويتبعها الموت والهرم واشتغال الباب بالخوف من زوالها والحرص على بقائها، ولذات البطن والفرج منها لا تتم إلا بمزاولة رطوبات متعفنة مستقذرة فتزيين ذلك لا يكاد يكون إلا بما هو أكذب من دعوى اجتماع النقيضين وهو الغرور.
{إِنَّ عِبَادِى} الإضافة للتعظيم فتدل على تخصيص العباد بالمخلصين كما وقع التصريح به في الآية الأخرى ولقرينة كون الله تعالى وكيلًا لهم يحميهم من شر لشيطان فإن من هو كذلك لا يكون إلا عبدًا مكرمًا مختصًا به تعالى، وكثيرًا ما يقال لمن يستولي عليه حب شيء فينقاد له عبد ذلك الشيء ومنه عبد الدينار والدرهم وعبد الخميصة وعبد بطنه، ومن هنا يقال لمن يتبع الشيطان عبد الشيطان فلا حاجة إلى القول بأن في الكلام صفة محذوفة أي إن عبادي المخلصين.
وزعم الجبائي أن {عِبَادِى} عام لجميع المكلفين وليس هناك صفة محذوفة لكن ترك الاستثناء اعتمادًا على التصريح به في موضع آخر وليس بشيء، وفي هذه الإضافة إيذان بعلة ثبوت الحكم في قوله سبحانه:
{لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} أي تسلط وقدرة على إغوائهم، وتأكيد الحكم مع اعتراف الخصم به لمزيد الاعتناء.
{وكفى بِرَبّكَ وَكِيلًا} لهم يتوكلون عليه جل وعلا ويستمدون منه تعالى في الخلاص عن إغوائك فيحميهم سبحانه منه، والخطاب في هذه الجملة قيل للشيطان كما في الجملة السابقة ففي التعرض لوصف الربوبية المنبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي مع الإضافة إلى ضميره إشعار بكيفية كفايته تعالى لهم وحمايته إياهم منه أعني سلب قدرته على إغوائهم، وقل للنبي عليه الصلاة والسلام أو للإنسان كأنه لما بين سبحانه من حال الشيطان ما بين صار ذلك لحصول الخوف في القلوب فقال سبحانه: {وكفى بِرَبّكَ} أيها النبي أو أيها الإنسان وكيلًا فهو جل جلاله يدفع كيد الشيطان ويحفظ منه، والقلب يميل إلى عدم كونه خطابًا للشيطان وإن كان في السابق له.
واستدل بالآية على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وإن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلال وإلا لقيل وكفى بالإنسان وكيلًا لنفسه، وهذا وههنا سؤالان ذكرهما الإمام مع جوابيهما، الأول أن إبليس هل كان عالمًا بأن الذي تكلم معه بهذه التهديدات وهو إله العالم أو لم يكن عالمًا فإن كان الأول فكيف لم يصر الوعيد الشديد بقوله سبحانه: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا} [الإسراء: 63] مانعًا له من المعصية مع أنه سمعه من الله جل جلاله من غير واسطة، وإن كان الثاني فكيف قال: {أَرَءيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ} [الإسراء: 62] والجواب لعله كان شاكًا في الكل وكان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن، وأقول لا يخفى ما في هذا الجواب.
والحق فيه أنه كان جازمًا بأن الذي تكلم معه بذلك هو إله العالم جل وعلا أنه غلبت عليه شقوته التي استعدت لها ذاته فل يصر الوعيد مانعًا له ولذا حين تنصب لهلاكه الحبائل إذا جاء وقته ويعاين من العذاب ما يعاين وتضيق عليه الأرض بما رحبت فيقال له: اسجد اليوم لآدم عليه السلام لتنجو لا يسجد ويقول: لم أسجد له حيًا فكيف أسجد له ميتًا كما ورد في بعض الآثار، وليس هذا بأعجب من حال الكفار الذين يعذبون يوم القيامة أشد العذاب على كفرهم ويطلبون العود ليؤمنوا حيث أخبر الله تعالى بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.
وربما يقال: إن اللعين مع هذا الوعيد له أمل بالنجاة، فقد حكى أنمولانا عبد الله التستري سأل الله تعالى أن يريه إبليس فرآه فسأله هل تطمع في رحمة الله تعالى؟ فقال: كيف لا أطمع فيها والله سبحانه يقول: {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء} [الأعراف: 156] وأنا شيء من الأشياء فقال التستري: ويلك إن الله تعالى قيد في آخر الآية فقال إبليس له: ويحك ما أجهلك القيد لك لا له، ولعله يزعم أن آيات الوعيد مطلقًا مقيدة بالمشيئة وإن لم تذكر كما يقوله بعض الأشاعرة في آيات الوعيد للعصاة من المؤمنين.
السؤال الثاني: ما الحكمة في أن الله تعالى أنظهره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة؟ والحكيم إذا أراد أمرًا وعلم أن له مانعًا يمنع من حصوله لا يسعى في تحصيل ذلك المانع، والجواب أما على مذهبنا فظاهر، وأما العتزلة فقال الجبائي منهم: إن الله تعالى علم أن الذين يكفرون عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد وحينئذ لم يكن في وجوده مزيد مفسدة، وقال أبو هاشم: لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة إلا أنه تعالى أبقاه تشديدًا للتكليف على الخلق ليستحقوا بذلك مزيد الثواب.
وأنا أقول: إن إبليس ليس مانعًا مما يريده الله جل مجده وتعالى جده فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن والله تبارك وتعالى خلق الخلق طبق علمه وعلم به طبق ما هو عليه في نفسه فافهم والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال الشوكاني:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)}.
لما ذكر سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في بلية عظيمة من قومه ومحنة شديدة، أراد أن يبين أن جميع الأنبياء كانوا كذلك، حتى أن هذه عادة قديمة، سنها إبليس اللعين، وأيضًا لما ذكر أن الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ذكر ها هنا ما يحقق ذلك فقال: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ} هذه القصة قد ذكرها الله سبحانه في سبعة مواضع: في البقرة، والأعراف، والحجر، وهذه السورة، والكهف، وطه، وص، وقد تقدّم تفسيرها مبسوطًا فلنقتصر ها هنا على تفسير ما لم يتقدّم ذكره من الألفاظ، فقوله: {طِينًا} منتصب بنزع الخافض، أي: من طين، أو على الحال.
قال الزجاج: المعنى لمن خلقته طينًا، وهو منصوب على الحال.
{أَرَءيْتَكَ} أي: أخبرني عن هذا الذي فضلته عليّ لم فضلته؟ وقد {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الاعراف: 12] فحذف هذا للعلم به {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} أي: لأستولينّ عليهم بالإغواء والإضلال.
قال الواحدي: أصله من احتناك الجراد الزرع، وهو أن تستأصله بأحناكها وتفسده، هذا هو الأصل، ثم سمي الاستيلاء على الشيء وأخذه كله احتناكًا؛ وقيل معناه: لأسوقنّهم حيث شئت، وأقودنّهم حيث أردت، من قولهم: حنكت الفرس أحنكه حنكًا: إذا جعلت في فيه الرسن، والمعنى الأوّل أنسب بمعنى هذه الآية، ومنه قول الشاعر:
أشكو إليك سنة قد أجحفت ** جهدا إلى جهد بنا وأضعفت

واحتنكت أموالنا واختلفت

أي: استأصلت أموالنا، واللام في {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} هي الموطئة، وإنما أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل بذرية آدم ما ذكره لعلم قد سبق إليه من سمع استرقه، أو قاله لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم، وأنه يجري منهم في مجاري الدم، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده وتنفق لديهم وسوسته إلاّ من عصم الله، وهم المرادون بقوله: {إِلاَّ قَلِيلًا} وفي معنى هذا الاستثناء قوله سبحانه: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20].
فإنه يفيد أنه قال ما قاله هنا اعتمادًا على الظن، وقيل: إنه استنبط ذلك من قول الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]، وقيل: علم ذلك من طبع البشر لما ركب فيهم من الشهوات، أو ظنّ ذلك لأنه وسوس لآدم، فقبل منه ذلك ولم يجد له عزمًا، كما روي عن الحسن.
{قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي: أطاعك {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} أي: إبليس ومن أطاعه {جَزَاء مَّوفُورًا} أي: وافرًا مكملًا، يقال: وفرته أفره وفرًا، ووفر المال بنفسه يفر وفورًا، فهو وافر، فهو مصدر، ومنه قول زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ** يفره ومن لا يتّقي الشتم يشتم

ثم كرّر سبحانه الإمهال لإبليس اللعين فقال: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي: استزعج واستخف من استطعت من بني آدم، يقال: أفزه واستفزه أي: أزعجه واستخفه، والمعنى: أستخفهم بصوتك داعيًا لهم إلى معصية الله، وقيل: هو الغناء واللهو واللعب والمزامير {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} قال الفراء وأبو عبيدة: أجلب من الجلبة والصياح، أي: صح عليهم.
وقال الزجاج أي: أجمع عليهم كل ما تقدر من مكايدك.
فالإجلاب: الجمع.
والباء في {بخيلك} زائدة.
وقال ابن السكيت: الإجلاب: الإعانة، والخيل تقع على الفرسان كقوله صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي»، وتقع على الأفراس، والرجل بسكون الجيم: جمع رجل كتاجر وتجر، وصاحب وصحب.
وقرأ حفص بكسر الجيم على أنه صفة.
قال أبو زيد: يقال: رجل ورجل، بمعنى راجل، فالخيل والرجل كناية عن جميع مكايد الشيطان، أو المراد كل راكب وراجل في معصية الله.
{وَشَارِكْهُمْ في الأموال والأولاد} أما المشاركة في الأموال، فهي: كل تصرف فيها يخالف وجه الشرع سواء كان أخذًا من غير حق، أو وضعًا في غير حق كالغصب والسرقة والربا، ومن ذلك تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة، والمشاركة في الأولاد: دعوى الولد بغير سبب شرعي، وتحصيله بالزنا وتسميتهم بعبد اللات وعبد العزى، والإساءة في تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر وأفعال السوء ويدخل فيه ما قتلوا من أولادهم خشية إملاق، ووأد البنات وتصيير أولادهم على الملة الكفرية التي هم عليها، ومن ذلك مشاركة الشيطان للمجامع إذا لم يسم، ثم قال: {وعدهُمْ} قال الفراء: قل لهم: لا جنة ولا نار.
وقال الزجاج: وعدهم بأنهم لا يبعثون {وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُورًا} أي: باطلًا، وأصل الغرور: تزيين الخطأ بما يوهم الصواب؛ وقيل معناه: وعدهم النصرة على من خالفهم، وهذه الأوامر للشيطان من باب التهديد والوعيد الشديد، وقيل: هي على طريقة الاستخفاف به وبمن تبعه.
{إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} يعني: عباده المؤمنين كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز من أن إضافة العباد إليه يراد بها المؤمنون لما في الإضافة من التشريف، وقيل: المراد جميع العباد بدليل الاستثناء بقوله في غير هذا الموضع {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} [الحجر: 42] والمراد بالسلطان: التسلط {وكفى بِرَبّكَ وَكِيلًا} يتوكلون عليه، فهو الذي يدفع عنهم كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال إبليس إن آدم خلق من تراب من طين، خلق ضعيفًا وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شيء {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلًا} فصدق ظنّه عليهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} قال: لأستولينّ.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد: {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} قال: لأحتوينّهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لأضلنّهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد: {مَّوفُورًا} قال: وافرًا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قال: صوته: كل داع دعا إلى معصية الله {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ} قال: كل راكب في معصية الله {وَرَجِلِكَ} قال: كل راجل في معصية الله {وَشَارِكْهُمْ في الأموال} قال: كل مال في معصية الله {والأولاد} قال: كل ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام.
وأخرج الفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في الآية قال: كل خيل تسير في معصية الله، وكل مال أخذ بغير حقه، وكل ولد زنا.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: {الأموال} ما كانوا يحرّمون من أنعامهم {والأولاد} أولاد الزنا.
وأخرج ابن جرير عنه أيضًا قال: {الأموال} البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله {والأولاد} سموا عبد الحارث وعبد شمس. اهـ.