فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



جواب من الله تعالى عن سؤال إبليس التأخير إلى يوم القيامة، ولذلك فصلت جملة {قال} على طريقة المحاورات التي ذكرناها عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها} [البقرة: 30].
والذهاب ليس مرادًا به الانصراف بل هو مستعمل في الاستمرار على العمل، أي امض لشأنك الذي نويته.
وصيغة الأمر مستعملة في التسوبة وهو كقول النبهاني من شعراء الحماسة:
فإن كنتَ سيدنا سُدتَنا وإن ** كنتَ للخال فاذْهَبْ فخَلْ

وقوله: {فمن تبعك منهم} تفريع على التسوية والزجر كقوله تعالى: {قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس} [طه: 97].
والجزاء: مصدر جزاه على عمل، أي أعطاه عن عمله عوضًا.
وهو هنا بمعنى اسم المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.
والموفور: اسم مفعول من وفره إذا كثّره.
وأعيد {جزاء} للتأكيد، اهتمامًا وفصاحةً، كقوله: {إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا} [يوسف: 2]، ولأنه أحسن في جريان وصف الموفور على موصوف متصل به دون فصل.
وأصل الكلام: فإن جهنم جزاؤكم موفورًا.
فانتصاب {جزاء} على الحال الموطئة، و{موفورًا} صفة له، وهو الحال في المعنى، أي جزاء غير منقوص.
والاستفزاز: طلب الفَزّ، وهو الخفة والانزعاج وترك التثاقل.
والسين والتاء فيه للجَعل الناشىء عن شدة الطلب والحث الذي هو أصل معنى السين والتاء، أي استخفهم وأزعجهم.
والصوت: يطلق على الكلام كثيرًا، لأن الكلام صوت من الفم.
واستعير هنا لإلقاء الوسوسة في نفوس الناس.
ويجوز أن يكون مستعملًا هنا تمثيلًا لحالة إبليس بحال قائد الجيش فيكون متصلًا بقوله: {وأجلب عليهم بخيلك} كما سيأتي.
والإجْلاب: جَمْع الجيش وسوقه، مشتق من الجَلَبة بفتحتين، وهي الصياح، لأن قائد الجيش إذا أراد جمع الجيش نادى فيهم للنفير أو للغارة والهجوم.
والخيل: اسم جمع الفَرس.
والمراد به عند ذكر ما يدل على الجيش الفرسان.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا خيلَ الله اركبي» وهو تمثيل لحال صرف قوته ومقدرته على الإضلال بحال قائد الجيش يجمع فرسانه ورجالته ولما كان قائد الجيش ينادي في الجيش عند الأمر بالغارة جاز أن يكون قوله: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} من جملة هذا التمثيل.
والرّجْل: اسم جمع الرجال كصحب.
وقد كانت جيوش العرب مؤلفة من رجالة يقاتلون بالسيوف ومن كتائب فرسان يقاتلون بنضح النبال، فإذا التحموا اجتلدوا بالسيوف جميعًا.
قال أنيْف بن زَبان النّبْهاني:
وتحت نحور الخيل حرشف رَجْلة ** تتاح لحبات القلوب نبالها

ثم قال:
فلما التقينا بيّن السيفُ بيننا ** لسائلةٍ عنا حَفِيّ سؤالُها

والمعنى: أجْمِع لمن اتبعك من ذرية آدم وسائلَ الفتنة والوسوسة لإضلالهم.
فجعلت وسائل الوسوسة بتزيين المفاسد وتفظيع المصالح كاختلاف أصناف الجيش، فهذا تمثيل حال الشيطان وحال متبعيه من ذرية آدم بحال من يغزو قومًا بجيش عظيم من فرسان ورجالة.
وقرأ حفص عن عاصم: {ورجلك} بكسر الجيم، وهو لغة في رَجُل مضموم الجيم، وهو الواحد من الرجال.
والمراد الجنس.
والمعنى: بخيلك ورجالك، أي الفرسان والمشاة.
والباء في {بخيلك} إما لتأكيد لصوق الفعل لمفعوله فهي لمجرد التأكيد.
ومجرورها مفعول في المعنى لفعل {أجلب} مثل {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6]؛ وإما لتضمين فعل {أجلب} معنى اغزُهم فيكون الفعل مضمنًا معنى الفعل اللازم وتكون الباء للمصاحبة.
والمشاركة في الأموال: أن يكون للشيطان نصيب في أموالهم وهي أنعامهم وزروعهم إذ سول لهم أن يجعلوا نصيبًا في النتاج والحرث للأصنام.
وهي من مصارف الشيطان لأن الشيطان هو المسول للناس باتخاذها، قال تعالى: {وجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} [الأنعام: 136].
وأما مشاركة الأولاد فهي أن يكون للشيطان نصيب في أحوال أولادهم مثل تسويله لهم أن يئدوا أولادهم وأن يستولدوهم من الزنى، وأن يُسمّوهم بعبدة الأصنام، كقولهم: عبد العُزى، وعبد اللات، وزيد مناة، ويكون انتسابه إلى ذلك الصنم.
ومعنى {عِدْهُمْ} أعطهم المواعيد بحصول ما يرغبونه كما يسول لهم بأنهم إن جعلوا أولادهم للأصنام سلِم الآباء من الثكل والأولادُ من الأمراض، ويسول لهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله في الدنيا وتضمن لهم النصر على الأعداء، كما قال أبو سفيان يوم أحُد أعْلُ هبل.
ومنه وعدهم بأنهم لا يخشون عذابًا بعد الموت لإنكار البعث، ووعد العصاة بحصول اللذات المطلوبة من المعاصي مثل الزنى والسرقة والخمر والمقامرة.
وحذف مفعول {وعدهم} للتعميم في الموعود به.
والمقام دال على أن المقصود أن يعدهم بما يرغبون لأن العدة هي التزام إعطاء المرغوب.
وسماه وعدًا لأنه يوهمهم حصوله فيما يستقبل فلا يزالون ينتظرونه كشأن الكذاب أن يحتزر عن الإخبار بالعاجل لقرب افتضاحه فيجعل مواعيده كلها للمستقبل.
ولذلك اعترض بجملة {وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا}.
والغرور: إظهار الشيء المكروه في صورة المحبوب الحسن.
وتقدم عند قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} في سورة [آل عمران: 196]، وقوله: {زخرف القول غرورا} في سورة [الأنعام: 112].
والمعنى: أن ما سوله لهم الشيطان في حصول المرغوب إما باطل لا يقع، مثل ما يسوله للناس من العقائد الفاسدة وكونه غرورًا لأنه إظهار لما يقع في صورة الواقع فهو تلبيس؛ وإما حاصل لكنه مكروه غير محمود بالعاقبة، مثل ما يسوله للناس من قضاء دواعي الغضب والشهوة ومحبة العاجل دون تفكير في الآجل، وكل ذلك لا يخلو عن مقارنة الأمر المكروه أو كونه آيلًا إليه بالإضرار.
وقد بسط هذا الغزالي في كتاب الغرور من كتاب إحياء علوم الدين.
وإظهار اسم الشيطان في قوله: {وما يعدهم الشيطان} دون أن يؤتى بضميره المستتر لأن هذا الاعتراض جملة مستقلة فلو كان فيها ضمير عائد إلى ما في جملةٍ أخرى لكان في النثر شبه عيب التضمين في الشعر، ولأن هذه الجملة جارية مجرى المثل فلا يحسن اشتمالها على ضمير ليس من أجزائها.
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)}.
وجملة {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} من تمام الكلام المحكي بـ {قال اذهب} [الإسراء: 63].
وهي جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا ناشئًا عن قوله: {فمن تبعك منهم} [الإسراء: 63] وقوله: {واستفزز من استطعت منهم} [الإسراء: 64]، فإن مفهوم {من تبعك} و{من استطعت} [الإسراء: 64] ذريّة من قبيل مفهوم الصفة فيفيد أن فريقًا من درية آدم لا يتبع إبليس فلا يحتنكه.
وهذا المفهوم يفيد أن الله قد عصم أو حفظ هذا الفريق من الشيطان، وذلك يثير سؤالًا في خاطر إبليس ليعلم الحائل بينه وبين ذلك الفريق بعد أن علم في نفسه علمًا إجماليًا أن فريقًا لا يحتنكه لقوله: {لأحتنكن ذريته إلا قليلًا} [الإسراء: 62].
فوقعت الإشارة إلى تعيين هذا الفريق بالوصف وبالسبب.
فأما الوصف ففي قوله: {عبادي} المفيد أنهم تمحضوا لعبودية الله تعالى كما تدل عليه الإضافة، فعلم أن من عبدوا الأصنام والجن وأعرضوا عن عبودية الله تعالى ليسوا من أولئك.
وأما السبب ففي قوله: {وكفى بربك وكيلًا} المفيد أنهم توكلوا على الله واستعاذوا به من الشيطان، فكان خير وكيل لهم إذ حاطهم من الشيطان وحفظهم منه.
وفي هذا التوكل مراتب من الانفلات عن احتناك الشيطان، وهي مراتب المؤمنين من الأخذ بطاعة الله كما هو الحق عند أهل السنّة.
فالسلطان المنفي في قوله: {ليس لك عليهم سلطان} هو الحكم المستمر بحيث يكونون رعيته ومن جنده.
وأما غيرهم فقد يستهويهم الشيطان ولكنهم لا يلبثون أن يثوبوا إلى الصالحات، وكفاك من ذلك دوام توحيدهم لله، وتصديقهم رسوله، واعتبارهم أنفسهم عبادًا لله متطلبين شكر نعمته، فشتان بينهم وبين أهل الشرك وإن سخفت في شأنهم عقيدَةُ أهل الاعتزال.
وقد تقدم معنى هذا عند قوله تعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} في سورة [النحل: 99 100].
فالمؤمن لا يتولى الشيطانَ أبدًا ولكنه قد ينخدع لوسواسه، وهو مع ذلك يلعنه فيما أوقعه فيه من الكبائر، وبمقدار ذلك الانخداع يقترب من سلطانه.
وهذا معنى قول النبي في خطبة حجة الوداع: إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم.
فجملة {وكفى بربك وكيلًا} يجوز أن تكون تكملة لتوبيخ الشيطان، فيكون كاف الخطاب ضمير الشيطان تسجيلًا عليه بأنه عبدُ الله، ويجوز أن تكون معترضة في آخر الكلام فتكون كاف الخطاب ضمير النبي صلى الله عليه وسلم تقريبًا للنبيء بالإضافة إلى ضمير الله.
ومآل المعنى على الوجهين واحد وإن اختلف الاعتبار. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)}.
قوله تعالى في هذه الآية عن إبليس: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} يدل فيه إنكار إبليس لسجود بهمزة الأنكار على إبائه واستكباره عن السجود لمخلوق من طين، وصرح بهذا الإباء والاستكبار في مواضع أخر. فصرح بهما معًا في البقرة في قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} [البقرة: 34] وصرح بإبائه في الحجر بقوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} [الحجر: 31]، وباستكباره في ص بقوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} [ص: 74] وبين سبب استكباره بقوله: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76] كما تقدم إيضاحه في البقرة وقوله: {طِينًا} حال. أي لمن خلقته في حال كونه طينًا. وتجويز الزمخشري كونه حالًا من نفس الموصول غير ظاهر عندي. وقيل: منصوب بنزع الخافض. أي من طين. وقيل: تميز، وهو أضعفها. والعلم عند الله تعالى.
{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن إبليس اللعين قال له {أَرَأَيْتَكَ} أي أخبرني: هذا الذي كرمته علي فأمرتني بالسجود له وهو آدم. أي لم كرمته علي وأنا خير منه! والكاف في {أَرَأَيْتَكَ} حرف خطاب، وهذا مفعول به لأرأيت. والمعنى: أخبرني. وقيل: إن الكاف مفعول به، و{هذا} مبتدأ، وهو قول ضعيف. وقوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} قال ابن عباس: لأستولين عليهم، وقاله الفراء. وقال مجاهد: لأحتوينهم. وقال ابن زيد: لأضلنهم. قال القرطبي: والمعنى متقارب. أي لأستاصلنهم بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنهم.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي في معنى الآية- أن المراد بقوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} أي لأقودنهم إلى ما أشاء. من قوله العرب: احتنكت الفرس: إذا جعلت الرسن في حنكه لتقوده حيث شئت. تقول العرب: حنكت الفرس أحنكه من باب ضرب ونصر واحتنكته: إذا جعلت فيه الرسن. لأن الرسن يكون على حنكه. وقول العرب: احتنك الجراد الأرض: أي أكل ما عليها من هذا القبيل. لأنه يأكل بأفواهه، والحنك حول الفم. هذا هو أصل الاستعمال في الظاهر. فالاشتقاق في المادة من الحنك، وإن كان يستعمل في الإهلاك مطلقًا والاستئصال. كقول الراجز:
أشكو إليك سنة قد أجحفت ** جهدًا إلى جهج بنا وأضعفت

واحتنكت أموالنا واجتلفت

وهذا الذي ذكر جل وعلا عن إبليس في هذه الآية من قوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} الآية، بينه أيضًا في مواضع أخر من كتابه. كقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16-17]، وقوله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه في سورة النساء وغيرها.
وقوله في هذه الآية {إَلاَّ قَلِيلا} بين المراد بهذا القليل في مواضع أخر. كقوله: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 39-40]، وقوله: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 39-40] كما تقدم إيضاحه.
وقول إبليس في هذه الآية. {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} الآية. قاله ظنًا منه أنه سيقع وقد تحقق له هذا الظن. كما قال تعالى: [سبأ: 20].