فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجوز غير واحد أن يكون المعنى ضل من تدعونه عن إغاثتكم إلا إياه تعالى، والضلال فيه إما بمعنى الغيبة أو بمعنى عدم الاهتداء منه كأنه قيل ضل عن حجة الصواب في انقاذكم ولم يقدر على ذلك، وأمر الاستثناء من الاتصال والانقطاع ومبنى كل على حاله، والزمخشري جوز أن يكون المعنى ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله تعالى هو الذي ترجونه وجعل الاستثناء عليه منقطعًا فقيل إن ذلك لتخصيصه المدعوين بالآلهة.
وفي الكشف لعل الوجه فيه أنه تعالى ما كانوا يدعونه أي دعاء العبادة واللجأ إلا في تلك الحالة وأما في حالة السراء فيخصون آلهتهم بالدعاء، والتحقيق أن الضلال بهذا المعنى لم يتناول الحق سبحانه لأن معناه ضل المدعوون وغابوا عن إغاثتهم ولا يراد غابوا وحضر جل وعلا بل المراد ولكن رجوا أن يغيثهم ولا يخذلهم فعل المدعوين على حسبانهم وهذا هو الوجه إن شاء الله تعالى اهـ.
ومبني التحقيق لا يخفى على المتدرب في علم النحو، هذا ومن اللطائف أن بعض الناس قال لبعض الأئمة: أثبت لي وجود الله تعالى ولا تذكر لي الجوهر والعرض فاقل له: هل ركبت البحر؟ قال: نعم قال: فهل عصفت الريح؟ قال: نعم قال: فهل أشرفت بك السفينة على الغرق؟ قال: نعم قال: فهل عصفت الريح؟ قال: نعم قال: فهل أشرفت بك السفينة على الغرق؟ قال: نعم قال: فهل يئست من نفع من في السفينة ونحوهم من المخلوقين لك وإنجائهم مما أنت فيه إياك؟ قال: نعم قال: فهل بقى قلبك متعلقًا بشيء غير أولئك؟ قال: نعم قال: ذلك هو الله عز وجل فاستحس ذلك.
{فَلَمَّا} من الضر وأوصلكم {نجاكم إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ} عن ذكره تعالى بعد أن كنتم غير ذاكرين إلا إياه سبحانه أو أعرضتم عن توحيده جل وعلا أو عن شكره عز وجل بتوحيده وطاعته سبحانه أو توغلتم في التوسع في كفران النعمة على أنه من العرض مقابل الطول وجعل كناية عن ذلك كما في قول ذي الرمة:
عطاء فتى تمكن في المعالي ** فأعرض في المكارم واستطالا

وكأنه أريد أعرضتم واستطلتم في الكفران إلا أنه استغنى بذكر العرض عن ذكر الطول للزومه له.
{وَكَانَ الإنسان كَفُورًا} كالعليل للإعراض وهو بيان لحكم الجنس ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين وفيه لطافة حيث أعرض سبحانه عن خطابهم بخصوصهم وذكر أن جنس الإنسان مجبول على الكفران فلما أعرضوا أعرض الله سبحانه عنهم.
{أَفَأَمِنتُمْ} الهمزة للإنكار على معنى أنه لا ينبغي الأمن، والفاء للعطف على محذوف متوسط بينها وبين الهمزة أي أنجوتم فأمنتم وهو مذهب بعض النحويين، واختار بعضهم أن الهمزة مقدمة من تأخير لأصالتها في الصدارة والعطف على ما قبله، وجملة {كَانَ الإنسان} [الإسراء: 67] إلخ معترضة بين المتعاطفين ولا حذف في مثل ذلك وهو مذهب الأكثرين لكن لا يظهر تسبب الإنكار للأمن على ما قبل على ما يقتضيه هذا المذهب بل الظاهر ترتبه على النجاة فقط ولا مدخل للإعراض في تسبب الإنكار، والحق عندي في أمثال ذلك ما فيه استقامة المعنى من غير تكلف ولا يتعين التزام أحد المذهبين وإن أدى إلى التكلف فإنه تعصب محض، والخطاب لمن تقدم أفأمنتم أيها المعرضون عند النجاة {أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر} الذي هو مأمنكم أي أن يغيبه الله تعالى ويذهب به في أعماق الأرض مصاحبًا بكم أي وأنتم عليه على أن الباء للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال، وجوز أن تكون الباء للسببية والجار والمجرور متعلق بما عنده أي أن يغيبه سبحانه بسببكم وتعقب بأنه لا يلزم من قلبه بسببهم أن يكونوا مهلكين مخسوفًا بهم.
وأجيب بأنه حيث كان المراد من جانب البر جانبه الذي هم فيه استلزم خسفه هلاكهم ولولا هذا لم يكن في التوعد به فائدة، ونصب {جَانِبٍ} في الوجهين على أنه مفعول به ليخسف.
وفي الدر المصون أنه مصوب على الظرفية وحينئذ يجوز كون الباء للتعدية على معنى أفأمنتم أن يغيبكم في ذلك.
وفي القاموس خسف الله تعالى بفلان الأرض غيبه فيها، والظاهر أنه بيان للمعنى اللغوي للفظ، وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم عندما وصلوا الساحل أعرضوا أو ليكون المعنى أن الجوانب والجهات متساوية بالنسبة إلى قدرته سبحانه وقهره وسلطانه فله في كل جانب برًا كان أو بحرًا سبب مرصد من أسباب الهلكة فليس جانب البحر وحده مختصًا بذلك بل إن كان الغرق في جانب البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه تغييب تحت التراب كما أن الغرق تغييب تحت الماء فعلى العاقل أن يخاف من الله تعالى في جميع الجوانب وحيث كان.
والأول على تقدير أن يراد بجانب البر طرفه مما يلي البحر وهو الساحل، وهذا على احتمال أن يراد به ما يشتمل جميع جوانبه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {نَخْسِفْ} بنون العظمة وكذا في الأربعة التي بعده.
{أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ} من فوقكم {حاصبا} أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال: هو مطر الحجارة أي مطرًا يحصبكم أي يرميكم بالحصباء وهو صغار الحجارة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه فسر الحاصب بالحجارة نفسها ولعله حينئذ صيغة نسبة أي ذا حصب ويراد منه الرمي، وقال الفراء: الحاصب الريح التي ترمى بالحصباء، وقال الزجاج: هو التراب الذي فيه الحصباء والصيغة عليه صيغة نسبة أيضًا، وجاء بمعنى ما تناثر من دقاق الثلج والبرد، ومنه قول الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربهم ** بحاصب كنديف القطن منثور

وبمعنى السحاب الذي يرمى بهما، واختار الزمخشري ومن تبعه تفسير الفراء والظاهر أن الكلام عليه على حقيقته فالمعنى أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها فيكون أشد عليكم من الغرق في البحر، ويقال نحو هذا على سائر تفاسير الحاصب، وقال الخفاجي فيوصف الريح بالرمي بالحصباء: إنه عبارة عن شدتها، وذكرها إشارة إلى أنهم خافوا إهلاك الريح في البحر فقيل إن شاء أهلككم بالريح أيضًا، ولا أدري ما المانع من إرادة الظاهر والشدة تلزم الرمي المذكور عادة والإشارة {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلًا} تكلون إليه أموركم فيحفظكم من ذلك أويصرفه عنكم غيره جل وعلا فإنه لا راد لأمره الغالب جل جلاله.
{أَمْ أَمِنتُمْ} أي بل أأمنتم {أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ} أي في البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم بركوب الفلك لا في الفلك لأنها مؤنثة وأوثرت كلمة في على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الانتهاء على استقرارهم فيه {تَارَةً أخرى} أي مرة غير المرة الأولى، وهو منصوب على الظرفية ويجمع على تارات وتير كما في قوله:
يقوم تارات ويمشي تيرا

وربما حذفوا منه الهاء كقوله:
بالويل تارًا والثبور تارا

وإسناد الإعادة إليه تعالى مع أن العود باختيارهم ومما ينسب إليهم وإن كان مخلوقًا له سبحانه كسائر أفعالهم باعتبار خلق الدواعي فيهم الملجئة إلى ذلك، وفيه إيماء إلى كمال شدة هول ما لاقوه في التارة الأولى بحيث لولا الإعادة ما عادوا {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ} وأنتم في البحر {قَاصِفًا مّنَ الريح} وهي الريح الشديدة التي تقصف ما تمر به من الشجر ونحوه أو التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: القاصف من الريح الريح التي تغرق، وقيل: الريح المهلكة في البر حاصب والريح المهلكة في البحر قاصف والعاصف كالقاصف كما روى عن عبد الله بن عمرو، وفي رواية عن ابن عباس تفسير القاصف بالعاصف، وقرأ أبو جعفر: {مِنْ الرياح} بالجمع {فَيُغْرِقَكُم} الله سبحانه بواسطة ما ينال فلككم م القاصف، وقرأ أبو جعفر: {فتغرقكم} بتلتاء ثالثة الحروف على أن الفعل مسند إلى الريح، والحسن.
وأبو بجار {الريح فَيُغْرِقَكُم} بالياء آخر الحروف وفتح الغين وشد الراء، وفي رواية عن أبي جعفر كذلك إلا أنه بالتاء لا الياء، وقرأ حميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن {بِمَا كَفَرْتُمْ} أي بسبب كفركم السابق وهو إعراضهم عند الانجاء في المرة الأولى، وقيل: بسبب كفركم الذي هو دأبكم {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} أي نصيرًا كما روى عن ابن عباس أو ثائرًا يطلبنا بما فعلنا انتصارًا منا أو دركًا للثار من جهتنا فهو كقوله تعالى: {فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عقباها} [الشمس: 14، 15] كما روى عن مجاهد، وضمير {بِهِ} قيل للإرسال، وقيل: للإغراق، وقيل: لهما باعتبار ما وقع ونحوه كما أشير إليه وكأنه سبحانه لما جعل الغرق بين الإعادة إلى البحر انتقامًا في مقابلة الكفر عقبه تعالى بنفي وجدان التبيع فكأنه قيل ننتقم من غير أن يقوم لنصركم فهو وعيد على وعيد وجعل ما قبل من شق العذاب كمس الضر في البحر عقبه بنفي وجدان الوكيل فكأنه قيل لا تجدون من تتكلون عليه في دفعه غيره تعالى لقوله سبحانه: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] وهذا اختيار صاحب الكشف فلا تغفل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)}.
استئناف ابتدائي وهو عوْد إلى تقرير أدلة الانفراد بالتصريف في العالم المشوبة بما فيها من نعم على الخلق، والدالة بذلك الشوب على إتقان الصنع ومحكم التدبير لنظام هذا العالم وسيادة الإنسان فيه وعليه.
ويشبه أن يكون هذا الكلام عودًا إلى قوله: {ويدعُ الإنسان بالشر دعاءه بالخير} [الإسراء: 11] كما تقدم هناك فراجعه.
فلما جرى الكلام على الإنذار والتحذير أعقب هنا بالاستدلال على صحة الإنذار والتحذير.
والخطاب لجماعة المشركين كما يقتضيه قوله عقبه: {فلما نجاكم إلى البر أعرضتم} [الإسراء: 67]، أي أعرضتم عن دعائه ودعوتم الأصنام، وقولُه: {ضل من تدعون إلا إياه} [الإسراء: 67].
وافتتحت الجملة بالمسند إليه معرفًا بالإضافة ومستحضرًا بصفة الربوبية لاستدعاء إقبال السامعين على الخبر المؤذن بأهميته حيث افتتح بما يترقب منه خبر عظيم لكونه من شؤون الإله الحق وخالق الخلق ومدبر شؤونهم تدبير اللطيف الرحيم، فيوجب إقبال السامع بِشَرَاشِرِه إن مؤمنًا متذكرًا أو مشركًا ناظرًا متدبرًا.
وجيء بالجملة الإسمية لدلالتها على الدوام والثبات.
وبتعريف طرفيها للدلالة على الانحصار، أي ربكم هو الذي يزجي لكم الفلك لا غيرُه ممن تعبدونه باطلًا وهو الذي لا يزال يفعل ذلك لكم.
وجيء بالصلة فعلًا مضارعًا للدلالة على تكرر ذلك وتحدده.
فحصلت في هذه الجملة على إيجازها معان جمة خصوصية.
وفي ذلك حد الإعجاز.
ويُزجي: يسوق سوقًا بطيئًا شبه تسخير الفلك للسير في الماء بإزجاء الدابة المثقلة بالحمل.
والفلُك هنا جمع لا مفرد.
والبحر: الماء الكثير فيشمل الأنهار كالفرات والدجلة، وتقدم عند قوله تعالى: {والفلك التي تجري في البحر} في سورة [البقرة: 164].
والابتغاء: الطلب.
والفضل: الرزق، أي للتجارة وتقدم عند قوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم} في سورة [البقرة: 198].
وهذا امتنان على الناس كلّهم مناسب لعموم الدعوة، لأنّ أهل مكة ما كانوا ينتفعون بركوب البحر وإنما ينتفع بذلك عرب اليمن وعرب العراق والناس غيرهم.
وجملة {إنه كان بكم رحيمًا} تعليل وتنبيه لموقع الامتنان ليرفضوا عبادة غيره مما لا أثر له في هذه المنة.
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} بعد أن ألزمهم الحجة على حق إلهية الله تعالى بما هو من خصائص صنعه باعترافهم، أعقبه بدليل آخر من أحوالهم المتضمنة إقرارهم بانفراده بالتصرف ثم بالتعجيب من مناقضة أنفسهم عند زوال اضطرارهم.
فجملة {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} خبر مستعمل في التقرير وإلزام الحجة إذ لا يخبر أحد عن فعله إخبارًا حقيقيًا.
وجملة {فلما نجاكم إلى البر أعرضتم} خبر مستعمل في التعجيب والتوبيخ.
وضر البحر: هو الإشراف على الغرق؛ لأنه يزعج النفوس خوفًا، فهو ضر لها.
و{ضل} بضاد ساقطة فعل من الضلال، وهو سلوك طريق غير موصلة للمقصود خطأ.
والعدول إلى الموصولية لِما تؤذن به الصلة من عمل اللسان ليتأتى الإيجاز، أي من يتكرر دعاؤكم إياهم، كما يدل عليه المضارع.
فالمعنى غاب وانصرف ذكر الذين عادتكم دعاؤهم عن ألسنتكم فلا تدعونهم، وذلك بقرينة ذكر الدعاء هنا الذي متعلقه اللسان، فتعين أن ضلالهم هو ضلال ذكر أسمائهم، وهذا إيجاز بديع.
والاستثناء من عموم الموصول، لأن اسم الله مما يجري على ألسنتهم في الدعاء تارة كما تجري أسماء الأصنام، فالاستثناء متصل.
ويجوز أن يكون اسم الموصول في قوله: {من تدعون} خاصًا بأصنامهم لأنهم يكثر دعاؤهم إياها دون اسم الله تعالى، كما هو مقتضى التجدد فإذا اشتد بهم الضر دعوا الله كما قال تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} [العنكبوت: 65]. ويكون الاستثناء منقطعًا. ونصب المستثنى لا يختلف في الوجهين جريًا على اللغة الفصحى.