فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ولقد كرَّمنا بني آدم} أي: فضَّلناهم.
قال أبو عبيدة: و{كرَّمنا} أشد مبالغة من أكرمنا.
وللمفسرين فيما فُضِّلوا به أحد عشر قولًا.
أحدها: أنهم فضِّلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة: جبريل، وميكائيك، وإِسرافيل، ومَلَك الموت، وأشباههم، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
فعلى هذا يكون المراد: المؤمنين منهم، ويكون تفضيلهم بالإِيمان.
والثاني: أن سائر الحيوان يأكل بفيه، إِلا ابن آدم فإنه يأكل بيده، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس.
وقال بعض المفسرين: المراد بهذا التفضيل: أكلهم بأيديهم، ونظافة ما يقتاتونه، إِذ الجن يقتاتون العظام والرَّوث.
والثالث: فُضِّلوا بالعقل، روي عن ابن عباس.
والرابع: بالنطق والتمييز، قاله الضحاك.
والخامس: بتعديل القامة وامتدادها، قاله عطاء.
والسادس: بأن جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم منهم، قاله محمد بن كعب.
والسابع: فضِّلوا بالمطاعم واللَّذات في الدنيا، قاله زيد بن أسلم.
والثامن: بحسن الصورة، قاله يمان.
والتاسع: بتسليطهم على غيرهم من الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم، قاله محمد بن جرير.
والعاشر: بالأمر والنهي، ذكره الماوردي.
والحادي عشر: بأن جعلت اللِّحى للرجال، والذوائب للنساء، ذكره الثعلبي.
فإن قيل: كيف أطلق ذكر الكرامة على الكل، وفيهم الكافر المُهان؟
فالجواب من وجهين.
أحدهما: أنه عامل الكل معاملة المكرَم بالنعم الوافرة.
والثاني: أنه لما كان فيهم من هو بهذه الصفة، أجرى الصِّفة على جماعتهم، كقوله: {كنتم خير أُمة أُخرجت للناس} [آل عمران: 110].
قوله تعالى: {وحملناهم في البر} على أكباد رطبة، وهي: الإبل، والخيل، والبغال، والحمير، {و} في. على أعواد يابسة، وهي: السفن.
{ورزقناهم من الطيبات} فيه قولان.
أحدهما: الحلال.
والثاني: المستطاب في الذوق.
قوله تعالى: {وفضَّلناهم على كثير ممن خلقْنا تفضيلًا} فيه قولان.
أحدهما: أنه على لفظه، وأنهم لم يفضَّلوا على سائر المخلوقات.
وقد ذكرنا عن ابن عباس أنهم فضِّلوا على سائر الخلق غيرِ طائفة من الملائكة.
وقال غيره: بل الملائكة أفضل.
والثاني: أن معناه: وفضَّلناهم على جميع مَنْ خلقنا.
والعرب تضع الأكثر والكثير في موضع الجمع، كقوله: {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [الشعراء: 223].
وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن أكرم على الله عز وجل من الملائكة الذين عنده».
قوله تعالى: {يوم ندعو} قال الزجاج: هو منصوب على معنى: اذكر {يوم ندعو كل أُناس بإمامهم} والمراد به: يوم القيامة.
وقرأ الحسن البصري: {يوم يدعو} بالياء {كلَّ} بالنصب.
وقرأ أبو عمران الجوني: {يوم يُدعى} بياء مرفوعة، وفتح العين، وبعدها ألف {كلُّ} بالرفع.
وفي المراد بإمامهم أربعة أقوال.
أحدها: أنه رئيسهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وروى عنه سعيد بن جبير أنه قال: إِمام هدى أو إِمام ضلالة.
والثاني: عملُهم، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وأبوالعالية.
والثالث: نبيُّهم، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد في رواية.
والرابع: كتابُهم، قاله عكرمة، ومجاهد في رواية.
ثم فيه قولان.
أحدهما: أنه كتابهم الذي فيه أعمالهم، قاله قتادة، ومقاتل.
والثاني: كتابهم الذي أُنزل عليهم، قاله الضحاك، وابن زيد.
فعلى القول الأول يقال: يا متَّبعي موسى، يا متَّبعي عيسى، يا متَّبعي محمَّدٍ؛ ويقال: يا متَّبعي رؤساء الضلالة.
وعلى الثاني: يا من عمل كذا وكذا.
وعلى الثالث: يا أُمَّة موسى، يا أُمَّة عيسى، يا أُمَّة محمد.
وعلى الرابع: يا أهل التوراة، يا أهل الإِنجيل، يا أهل القرآن.
أو يا صاحب الكتاب الذي فيه عمل كذا وكذا.
قوله تعالى: {فأولئك يقرؤون كتابهم} معناه: يقرؤون حسناتِهم، لأنهم أخذوا كتبهم بأيْمانهم.
قوله تعالى: {ولا يُظلمون فتيلًا} أي: لا ينقصون من ثوابهم بقدر الفتيل، وقد بيَّنَّاه في سورة [النساء: 49].
قوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: {أعمى فهو في الآخرة أعمى} مفتوحتي الميم.
وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسر الميمين.
وقرأ أبو عمرو: {في هذه أعمى} بكسر الميم {فهو في الآخرة أعمى} بفتحها.
وفي المشار إِليها ب {هذه} قولان:
أحدهما: أنها الدنيا، قاله مجاهد.
ثم في معنى الكلام خمسة أقوال.
أحدها: من كان في الدنيا أعمى عن معرفة قدرة الله في خَلْق الأشياء، فهو عمّا وُصِف له في الآخرة أعمى، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: من كان في الدنيا أعمى بالكفر، فهو في الآخرة أعمى، لأنه في الدنيا تُقبَل توبته، وفي الآخرة لا تُقبَل، قاله الحسن.
والثالث: من عمي عن آيات الله في الدنيا، فهو عن الذي غيِّب عنه من أمور الآخرة أشدّ عمىً.
والرابع: من عمي عن نِعَم الله التي بيَّنها في قوله: {ربُّكم الذي يزجي لكم الفُلْك في البحر} إِلى قوله: {تفضيلا} فهو في الآخرة أعمى عن رشاده وصلاحه، ذكرهما ابن الأنباري.
والخامس: من كان فيها أعمى عن الحُجَّة، فهو في الآخرة أعمى عن الجنة، قاله أبو بكر الورّاق.
والثاني: أنها النِّعم.
ثم في الكلام قولان.
أحدهما: من كان أعمى عن النِّعم التي تُرى وتُشاهَد، فهو في الآخرة التي لم تُر أعمى، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: من كان أعمى عن معرفة حق الله في هذه النِّعم المذكورة في قوله: {ولقد كرَّمنا بني آدم} ولم يؤدِّ شكرها، فهو فيما بينه وبين الله مما يُتقرَّب به إِليه أعمى {وأضل سبيلًا}، قاله السدي.
قال أبو علي الفارسي: ومعنى قوله: {في الآخرة أعمى} أي: أشدُّ عمىً، لأنه كان في الدنيا يمكنه الخروج عن عَمَاهُ بالاستدلال، ولا سبيل له في الآخرة إِلى الخروج من عماه.
وقيل: معنى العمى في الآخرة: أنه لا يهتدي إِلى طريق الثواب، وهذا كلُّه من عمى القلب.
فإن قيل: لم قال: {فهو في الآخرة أعمى} ولم يقل: أشدُّ عمىً، لأن العمى خِلْقة بمنزلة الحُمرة، والزُّرقة، والعرب تقول: ما أشدَّ سواد زيد، وما أبْيَنَ زرقة عمرو، وقلَّما يقولون: ما أسود زيدًا، وما أزرق عمرًا؟
فالجواب: أن المراد بهذا العمى عمى القلب، وذلك يتزايد ويحدث منه شيء بعد شيء، فيخالف الخِلَقَ اللاّزِمة التي لا تزيد، نحو عمى العين، والبياض، والحمرة، ذكره ابن الأنباري. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} الآية.
لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضًا.
{كرمنا} تضعيف كرم؛ أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا.
وهذا هو كرم نفي النقصان لا كرم المال.
وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره.
وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم؛ لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب ويأكلون المركّبات من الأطعمة.
وغاية كلّ حيوان يأكل لحما نيئًا أو طعاما غير مركّب.
وحكى الطبريّ عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم.
وروي عن ابن عباس؛ ذكره المهدويّ والنحاس؛ وهو قول الكلبيّ ومقاتل؛ ذكره الماورديّ.
وقال الضحاك: كرّمهم بالنطق والتمييز.
عطاء: كرّمهم بتعديل القامة وامتدادها.
يمان: بحسن الصورة.
محمد بن كعب: بأن جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم منهم.
وقيل: أكرم الرجال باللِّحَى والنساء بالذوائب.
وقال محمد بن جرير الطبريّ: بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم.
وقيل: بالكلام والخط.
وقيل: بالفهم والتمييز.
والصحيح الذي يعوّل عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يُعرف الله ويُفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله؛ إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بُعثت الرسل وأنزلت الكتب.
فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء.
وما تقدّم من الأقوال بعضه أقوى من بعض.
وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالًا يفضل بها ابن آدم أيضًا؛ كجري الفرس وسمعه وإبصاره، وقوّة الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك.
وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه.
والله أعلم.
الثانية: قالت فرقة: هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الإنس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله تعالى: {وَلاَ الملائكة المقربون} [النساء: 171].