فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل فيها بين الإنس والجن؛ فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بني آدم ما خصهم به من سائر الحيوان، والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، ولم تتعرض الآية لذكرهم، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل العكس، ويحتمل التساوي، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهي في هذه المسألة إلى القطع.
وقد تحاشى قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض؛ إذ في الخبر: «لا تُخايروا بين الأنبياء ولا تفضّلوني على يونس بن مَتَّى» وهذا ليس بشيء؛ لوجود النص في القرآن في التفضيل بين الأنبياء.
وقد بيناه في البقرة ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن.
الثالثة: قوله تعالى: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} يعني لذيذ المطاعم والمشارب.
قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحَلْوَى، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها.
{وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} أي على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفِراسة.
الرابعة: هذه الآية تردّ ما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احْرِمُوا أنفسكم طَيّب الطعام فإنما قوى الشيطان أن يجري في العروق منها» وبه يستدلّ كثير من الصُّوفية في ترك أكل الطيبات، ولا أصل له؛ لأن القرآن يردّه، والسنة الثابتة بخلافه، على ما تقرّر في غير موضع.
وقد حكى أبو حامد الطُّوسِيّ قال: كان سهل يقتات ورق النّبْق مدة، وأكل دُقاق ورق التين ثلاث سنين. وذكر إبراهيم بن البنا قال: صحبت ذا النُّون من إخميم إلى الإسكندرية، فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا ومِلْحًا كان معي، وقلت: هَلُمّ. فقال لي: ملحك مدقوق؟ قلت نعم.
قال: لست تُفلح! فنظرت إلى مِزْوَده وإذا فيه قليل سَوِيقِ شعير يَسْتَف منه.
وقال أبو يزيد: ما أكلت شيئًا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة. قال علماؤنا: وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه؛ لأن الله تعالى أكرم الآدميّ بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم، فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن، وأما سَويق الشعير فإنه يورث القُولَنْج، وإذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجَريش فإنه ينحرف مِزاجه؛ لأن خبز الشعير بارد مجفف، والملح يابس قابض يضر الدّماغ والبصر.
وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمُنعت فقد قووِمت حكمة البارىء سبحانه بردّها، ثم يؤثر ذلك في البدن، فكان هذا الفعل مخالفًا للشرع والعقل.
ومعلوم أن البدن مطيّة الآدميّ، ومتى لم يرْفَق بالمطيّة لم تُبَلِّغ.
وروي عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدا وعسلًا وخبز حُوّارَى، فقيل له: هذا كله؟ فقال: إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدِمنا صَبَرنا صبر الرجال.
وكان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج ثم يقوم إلى الصلاة.
ومثل هذا عن السلف كثير.
وقد تقدم منه ما يكفي في المائدة والأعراف وغيرهما.
والأول غُلُوٌّ في الدِّين إن صح عنهم {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27]
قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}.
روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال: «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويُمَدّ له في جسمه ستون ذراعا، ويُبَيّض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرَوْنه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل منكم مثلُ هذا قال وأما الكافر فيُسَوّد وجهه ويمدّ له في جسمه ستون ذراعا على صورة آدم ويلبس تاجًا فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا اللهم لا تأتنا بهذا قال: فيأتيهم فيقولون اللَّهُمَّ أخزه فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
ونظير هذا قوله: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28].
والكتاب يسمى إمامًا؛ لأنه يُرجع إليه في تعرّف أعمالهم.
وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك: {بإمامهم} أي بكتابهم، أي بكتاب كلّ إنسان منهم الذي فيه عمله؛ دليله {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمينِهِ}.
وقال ابن زيد: بالكتاب المنزَّل عليهم.
أي يدعَى كل إنسان بكتابه الذي كان يتلوه؛ فيدعى أهل التوراة بالتوراة، وأهل القرآن بالقرآن؛ فيقال: يا أهل القرآن، ماذا عملتم، هل امتثلتم أوامره هل اجتنبتم نواهيه! وهكذا.
وقال مجاهد: {بإمامهم} بنبيّهم، والإمام من يؤتَمّ به.
فيقال: هاتوا متّبِعِي إبراهيم عليه السلام، هاتوا متّبعي موسى عليه السلام، هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي الأصنام.
فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقوم أهل الباطل فيأخذون كتابهم بشمالهم.
وقاله قتادة.
وقال عليّ رضي الله عنه: بإمام عصرهم.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} فقال: «كلٌّ يدعى بإمام زمانهم وكتابِ ربِّهم وسنّةِ نبيّهم فيقول هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى هاتوا متبعي محمدا عليهم أفضل الصلوات والسلام فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم ويقول هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلالة إمامَ هدًى وإمام ضلالة» وقال الحسن وأبو العالية: {بإمامهم} أي بأعمالهم.
وقاله ابن عباس.
فيقال: أين الراضون بالمقدور، أين الصابرون عن المحذور.
وقيل: بمذاهبهم؛ فيُدْعَوْن بمن كانوا يأتمون به في الدنيا: يا حنفيّ، يا شافعيّ، يا معتزليّ، يا قدرِيّ، ونحوه، فيتبعونه في خير أو شر أو على حق أو باطل، وهذا معنى قول أبي عبيدة.
وقد تقدّم.
وقال أبو هريرة: «يدعى أهل الصدقة من باب الصدقة، وأهل الجهاد من باب الجهاد»، الحديث بطوله.
أبو سهل: يقال أين فلان المصلّي والصوّام، وعكسه الدَّفاف والنمام، وقال محمد بن كعب: {بإمامهم} بأمهاتهم وإمام جمع آمّ.
قالت الحكماء: وفي ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة؛ أحدهما لأجل عيسى.
والثاني إظهار لشرف الحسن والحسين.
والثالث لئلا يفتضح أولاد الزنى.
قلت: وفي هذا القول نظر؛ فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان» خرّجه مسلم والبخاري.
فقوله: «هذه غَدْرة فلان بن فلان» دليلٌ على أن الناس يُدْعَوْن في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهذا يردّ على من قال: إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سَتْرًا على آبائهم والله أعلم.
قوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} هذا يقوّي قول من قال: {بإمامهم} بكتابهم ويقوّيه أيضًا قوله: {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِين} [يس: 12].
{فأولئك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} الفتيل الذي في شقّ النواة.
وقد مضى في النساء.
قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى} أي في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق.
{فَهُوَ فِي الآخرة} أي في أمر الآخرة {أعمى}.
وقال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال: اقرأوا ما قبلها: {ربُّكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر إلى تفضيلا}.
قال ابن عباس: من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلًا.
وقيل: المعنى من عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى.
وقيل: المعنى من كان في الدنيا التي أمهل فيها وفسّح له ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى.
وقال الحسن: من كان في هذه الدنيا كافرًا ضالًا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلًا.
وقيل: من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله بعثه الله يوم القيام أعمى، كما قال: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124] الآيات.
وقال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} وقيل: المعنى في قوله: {فهو في الآخرة أعمى} في جميع الأقوال: أشدّ عَمًى؛ لأنه من عَمَى القلب، ولا يقال مثله في عَمَى العين.
قال الخليل وسيبويه: لأنه خِلقة بمنزلة اليد والرِّجْل، فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه.
الأخفش: لم يقل فيه ذلك لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف، وأصله أعمى.
وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه؛ لأن فعله عَمِيَ وعَشيَ.
وقال الفراء: حدثني بالشأم شيخ بصرى أنه سمع العرب تقول: ما أسود شعره.
قال الشاعر:
ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر ** وفي المخازي لكم أشباح أشياخ

أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم ** لؤما وأبيضهم سِرْبال طبّاخ

وأمال أبو بكر وحمزة والكسائيّ وخَلَفَ الحرفين {أعمى} و{أعمى} وفتح الباقون.
وأمال أبو عمرو الأول وفتح الثاني.
{وَأَضَلُّ سَبِيلًا} يعني أنه لا يجد طريقًا إلى الهداية. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}
لما ذكر تعالى ما امتّن به عليهم من إزجاء الفلك في البحر ومن تنجيتهم من الغرق، تمم ذكر المنة بذكر تكرمتهم ورزقهم وتفضيلهم، أو لما هددهم بما هدد من الخسف والغرق وأنهم كافرو نعمته ذكر ما أنعم به عليهم ليتذكروا فيشكروا نعمه ويقلعوا عن ما كانوا فيه من الكفر ويطيعوه تعالى، وفي ذكر النعم وتعدادها هز لشكرها وكرم معدى بالتضعيف من كرم أي جعلناهم ذوي كرم بمعنى الشرف والمحاسن الجمة، كما تقول: ثوب كريم وفر كريم أي جامع للمحاسن، وليس من كرم المال، وما جاء عن أهل التفسير من تكريمهم وتفضيلهم بأشياء ذكرها هو على سبيل التمثيل لا على الحصر في ذلك كما روي عن ابن عباس أن التفضيل بالعقل وعن الضحاك بالنطق.
وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات، وعن يمان بحسن الصورة، وعن محمد بن كعب بجعل محمد عليه الصلاة والسلام منهم.
وعن ابن جرير بالتسليط على غيره من الخلق وتسخيره له.
وقيل: بالخط.
وقيل: باللحية للرجل والذؤابة للمرأة.
وعن ابن عباس: بأكله بيده وغيره بفمه.
وقيل: بتدبير المعاش والمعاد.
وقيل: بخلق الله آدم بيده.
قال ابن عطية: وقد ذكر أن من الحيوان ما يفضل بنوع ما ابن آدم كجري الفرس وسمعه وإبصاره، وقوة الفيل، وشجاعة الأسد، وكرم الديك.
قال: وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه انتهى.
{وحملناهم في البر والبحر} وهذا أيضًا من تكريمهم.
قال ابن عباس: في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل، وفي البحر على السفن.
وقال غيره: على أكباد رطبة وأعواد يابسة.
{والطيبات} كما تقدم الحلال أو المستلذ ولا يتسع غيره من الحيوان في الرزق اتساعه لأنه يكتسب المال ويلبس الثياب ويأكل المركب من الأطعمة بخلاف الحيوان، فإنه لا يكتسب ولا يلبس ولا يأكل غالبًا إلا لحمًا نيئًا وطعامًا غير مركب، والظاهر أن كثيرًا باق على حقيقته، فقالت طائفة: فضلوا على الخلائق كلهم غير جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأشباههم وهذا عن ابن عباس.
وعنه إن الإنسان ليس أفضل من الملك وهو اختيار الزجّاج، وقال ابن عطية: والحيوان والجن هو الكثير المفضول والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول.
وقالت فرقة: الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس من حيث هم المستثنون، وقد قال تعالى: {ولا الملائكة المقربون} وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن له الآية بل يحتمل أن الملائكة أفضل ويحتمل التساوي، وإنما يصح تفضيل الملائكة من مواضع أخر من الشرع انتهى.