فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة؛ وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة. فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة، ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة!
اذهب مأذونًا في إغواء من يجنحون إليك. ولكن هنالك من لا سلطان لك عليهم، لأنهم مزودون بحصانة تمنعهم منك ومن خيلك ورجلك!
{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان. وكفى بربك وكيلا}..
فمتى اتصل القلب بالله، واتجه إليه بالعبادة. متى ارتبط بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. متى ايقظ في روحه النفخة العلوية فأشرقت وأنارت.. فلا سلطان حينئذ للشيطان على ذلك القلب الموصول بالله، وهذا الروح المشرق بنور الإيمان.. {وكفى بربك وكيلا} يعصم وينصر ويبطل كيد الشيطان.
وانطلق الشيطان ينفذ وعيده، ويستذل عبيده. ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن، فما له عليهم من سلطان.
ذلك ما يبيته للناس من شر واذى؛ ثم يوجد في الناس من يتبعون هذا الشيطان، ويستمعون إليه، ويعرضون عن نداء الله لهم وهدايته.
والله رحيم بهم يعينهم ويهديهم وييسر لهم المعاش، وينجيهم من الضر والكرب، ويستجيب لهم في موقف الشدة والضيق.. ثم إذا هم يعرضون ويكفرون: {ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيمًا وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا} والسياق يعرض هذا المشهد، مشهد الفلك في البحر، نموذجًا للحظات الشدة والحرج. لأن الشعور بيد الله في الخضم أقوى واشد حساسية، ونقطة من الخشب أو المعدن تائهة في الخضم، تتقاذفها الأمواج والتيارات والناس متشبثون بهذه النقطة على كف الرحمن.
إنه مشهد يحس به من كابده، ويحس بالقلوب الخافقة الواجفة المتعلقة بكل هزة وكل رجفة في الفلك صغيرًا كان أو كبيرًا حتى عابرات المحيط الجبارة التي تبدو في بعض اللحظات كالريشة في مهب الرياح على ثبج الموج الجبار!.
والتعبير يلمس القلوب لمسة قوية وهو يشعر الناس أن يد الله تزجي لهم الفلك في البحر وتدفعه ليبتغوا من فضله {إنه كان بكم رحيما} فالرحمة هي أظهر ما تستشعره القلوب في هذا الأوان.
ثم ينتقل بهم من الإزجاء الرخي للاضطراب العتي. حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة وكل سند وكل مجير إلا الله، فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر لا يدعون أحدًا سواه: {ضل من تدعون إلا إياه}..
ولكن الإنسان هو الإنسان، فما إن تنجلي الغمرة، وتحس قدماه ثبات الأرض من تحته حتى ينسى لحظة الشدة، فينسى الله، وتتقاذفه الأهواء وتجرفه الشهوات، وتغطي على فطرته التي جلاها الخطر: {فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا} إلا من اتصل قلبه بالله فأشرق واستنار.
وهنا يستجيش السياق وجدان المخاطبين بتصوير الخطر الذي تركوه في البحر وهو يلاحقهم في البر أو وهم يعودون إليه في البحر، ليشعروا أن الأمن والقرار لا يكونان إلا في جوار الله وحماه، لا في البحر ولا في البر؛ لا في الموجة الرخية والريح المواتية ولا في الملجأ الحصين والمنزل المريح:
{أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبًا ثم لا تجدوا لكم وكيلًا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفًا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا؟}.
إن البشر في قبضة الله في كل لحظة وفي كل بقعة. إنهم في قبضته في البر كما هم في قبضته في البحر. فكيف يأمنون؟ كيف يأمنون أن يخسف بهم جانب البر بزلزال أو بركان، أو بغيرهما من الأسباب المسخرة لقدرة الله؟ أو يرسل عليهم عاصفة بركانية تقذفهم بالحمم والماء والطين والأحجار، فتهلكهم دون أن يجدوا لهم من دون الله وكيلًا يحميهم ويدفع عنهم؟
أم كيف يأمنون أن يردهم الله إلى البحر فيرسل عليهم ريحًا قاصفة، تقصف الصواري وتحطم السفين، فيغرقهم بسبب كفرهم وإعراضهم، فلا يجدون من يطالب بعدهم بتبعة إغراقهم؟
ألا إنها الغفلة أن يعرض الناس عن ربهم ويكفروا.
ثم يأمنوا أخذه وكيده. وهم يتوجهون إليه وحده في الشدة ثم ينسونه بعد النجاة. كأنها آخر شدة يمكن أن يأخذهم بها الله!
ذلك وقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه. كرمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان!
وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته؛ والتي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة.
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك..
وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان!
وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى الباقي في الأرض.. القرآن..
{ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}.
{وحملناهم في البر والبحر} والحمل في البر والبحر يتم بتسخير النواميس وجعلها موافقة لطبيعة الحياة الإنسانية وما ركب فيها من استعدادات، ولو لم تكن هذه النواميس موافقة للطبيعة البشرية لما قامت الحياة الإنسانية، وهي ضعيفة ضئيلة بالقياس إلى العوامل الطبيعية في البر والبحر. ولكن الإنسان مزود بالقدرة على الحياة فيها، ومزود كذلك بالاستعدادات التي تمكنه من استخدامها. وكله من فضل الله.
{ورزقناهم من الطيبات} والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقها إلا حين يحرمها. فعندئذ يعرف قيمة ما يستمتع به، ولكنه سرعان ما يعود فينسى.. هذه الشمس. هذا الهواء. هذا الماء. هذه الصحة. هذه القدرة على الحركة. هذه الحواس. هذا العقل.. هذه المطاعم والمشارب والمشاهد.. هذا الكون الطويل العريض الذي استخلف فيه، وفيه من الطيبات ما لا يحصيه.
{وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} فضلناهم بهذا الاستخلاف في ملك الأرض الطويل العريض. وبما ركب في فطرتهم من استعدادات تجعل المخلوق الإنساني فذًا بين الخلائق في ملك الله.. ومن التكريم أن يكون الإنسان قيمًا على نفسه، محتملًا تبعة اتجاهه وعمله. فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنسانًا. حرية الاتجاه وفردية التبعة.
وبها استخلف في دار العمل. فمن العدل ان يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب:
{يوم ندعوا كل أناس بإمامهم. فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلا. ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا}..
وهو مشهد يصور الخلائق محشورة. وكل جماعة تنادى بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته، أو الرسول الذي اقتدت به، أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا. تنادى ليسلم لها كتاب عملها وجزاءها في الدار الآخرة.. فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاه، ويوفى أجره لا ينقص منه شيئًا ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة! ومن عمي في الدنيا عن دلائل الهدى فهو في الآخرة أعمى عن طريق الخير. واشد ضلالًا. وجزاؤه معروف. ولكن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل، أعمى ضالًا يتخبط، لا يجد من يهديه ولا ما يهتدي به، ويدعه كذلك لا يقرر في شأنه أمرًا، لأن مشهد العمى والضلال في ذلك الموقف العصيب هو وحده جزاء مرهوب؛ يؤثر في القلوب!. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)}.
أخرج الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان والخطيب في تاريخه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء أكرم على الله من بني آدم يوم القيامة. قيل: يا رسول الله، ولا الملائكة المقربون؟! قال: ولا الملائكة الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر».
وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا وقال: هو الصحيح.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: المؤمن أكرم على الله من ملائكته.
وأخرج الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة قالت: يا رب، أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة. قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان».
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم مثله.
وأخرج ابن عساكر من طريق عروة بن رويم قال: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة قالوا: ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم... فجعلتهم يأكلون الطعام ويشربون الشراب ويلبسون الثياب ويأتون النساء ويركبون الدواب وينامون ويستريحون، ولم تجعل لنا من ذلك شيئًا فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. فقال الله: لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان».
وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن عروة بن رويم مرسلًا.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عروة بن رويم الأنصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة: يا رب، خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فقال الله تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان».
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات من وجه آخر، عن عروة بن رويم اللخمي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه إلا أنه قال: «ويركبون الخيل» ولم يذكر ونفخت فيه من روحي.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان من طرق، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ولقد كرمنا بني آدم} قال: جعلناهم يأكلون بأيديهم، وسائر الخلق يأكلون بأفواههم.
وأخرج الحاكم في التاريخ والديلمي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {ولقد كرمنا بني آدم} قال: «الكرامة، الأكل بالأصابع».
وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه قال: ما من رجل يرى مبتلى فيقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني عليك وعلى كثير من خلقه تفضيلًا، إلا عافاه الله من ذلك البلاء كائنًا ما كان.
وأخرج أبو نعيم والبيهقي في الدلائل، عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق السموات سبعًا فاختار العليا منها، فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشًا واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا من خيار الأخيار».
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {يوم ندعو كل أُناس بإمامهم} قال: إمام هدى وإمام ضلالة.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه، عن أنس رضي الله عنه في قوله: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} قال: بنبيهم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه مثله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} قال: بكتاب أعمالهم.
وأخرج ابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} قال: «يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم».
وأخرج الترمذي وحسنه والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} قال: «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويُمَدّ لَهُ في جسمه ستين ذراعًا ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من نور يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول: أبشروا لكل رجل منكم مثل هذا وأما الكافر، فيسوّد له وجهه ويُمَدّ له في جسمه ستين ذراعًا على صورة آدم، ويلبس تاجًا من نار فيراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من شر هذا اللهم لا تأتنا بهذا. قال فيأتيهم. فيقول: ربنا أخّرْه فيقول: ابعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا».
وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل: أرأيت قوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى... فهو في الآخرة أعمى} فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لم تصب المسألة، اقرأ ما قبلها: {ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر} حتى بلغ {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا} فقال ابن عباس رضي الله عنهما: فمن كان أعمى عن هذا النعيم الذي قَدْ رَأَى وعايَنَ، فهو في أمر الآخرة التي لم تُرَ ولَمْ تعاين {أعمى وأضل سبيلًا}.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما {ومن كان} في الدنيا {أعمى} عما يرى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا {فهو} عما وصفت له في الآخرة ولم يره {أعمى وأضل سبيلًا} يقول: أبعد حجة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس: من عمي عن قدرة الله في الدنيا فهو في الآخرة أعمى.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن قتادة في الآية قال: من عمي عما يراه من الشمس والقمر والليل والنهار وما يرى من الآيات ولم يصدق بها، فهو عما غاب عنه من آيات الله أعمى وأضل سبيلًا. اهـ.