فصل: تفسير الآية رقم (112):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (112):

قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما نادى عليهم بالكذب في قوله: {إن كنتم صادقين} أثبت لغيرهم بقوله: {بلى} ما ادعوا الاختصاص به، ثم بين أهل الجنة بقوله: {من أسلم وجهه} أي كليته، لأن الوجه أشرف ما ظهر من الإنسان، فمن أسلمه أسلم كله، كما أن الإيمان إذعان القلب الذي هو أشرف ما بطن وإذعانه إذعان جميع الأعضاء؛ والإسلام قال الحرالي: الإلقاء بما يكون من منة في باطن أو ظاهر؛ والوجه مجتمع حواس الحيوان، وأحسن ما في الموتان- وهو ما عد الحيوان، وموقع الفتنة من الشيء الفتان؛ وهو أول ما يحاول إبداؤه من الأشياء لذلك {لله} من أجل أنه الله الجامع للكمال.
ولما كان ذكر الأجر لكل واحد بعينه أنص على المقصود وأنفى للتعنت، أفرد الضمير فقال: {وهو محسن} في جانب الحق بإذعان القلب، وفي جانب الخلق بما يرضي الرب، فصار يعبد الله كأنه يراه، فطابق سره علنه.
ولما نفوا الأجر عن غيرهم وأثبته سبحانه للمتصف بالإسلام منهم وممن سواهم وكان ربما قيل إنه أعطى غيرهم لكونه الملك المطلق بغير سبب ربط الأجر بالفاء دليلًا على أن إسلامهم هو السبب فقال: {فله} خاصة {أجره عند ربه} إحسانًا إليه بإثبات نفعه على حسب ما ربّه به في كل شريعة.
ولما كان ربما ادعى أنه ما أفرد الضمير إلا لأن المراد واحد بعينه فلا يقدح ذلك في دعوى أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود أو النصارى جمع فقال: {ولا خوف عليهم} من آت {ولا هم يحزنون} على شيء فات دفعًا لضرهم، وهذا كما أثبت سبحانه خلاف دعواهم في مس النار بقوله: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} [البقرة: 81] الآية، فالتحم الكلام بذلك أشد التحام وانتظم أي انتظام. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {بلى} ففيه وجوه:
الأول: أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة.
الثاني: أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهانًا.
الثالث: كأنه قيل لهم: أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة، فيكون ذلك ترغيبًا لهم في الإسلام، وبيانًا لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يقلعوا عما هم عليه ويعدلوا إلى هذه الطريقة، فأما معنى: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} فهو إسلام النفس لطاعة الله، وإنما خص الوجه بالذكر لوجوه:
أحدها: لأنه أشرف الأعضاء من حيث أنه معدن الحواس والفكر والتخيل، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى.
وثانيها: أن الوجه قد يكنى به عن النفس، قال الله تعالى: {كُلُّ شَيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] {إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى} [الليل: 20].
وثالثها: أن اعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه فلا جرم خص الوجه بالذكر، ولهذا قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ** له الأرض تحمل صخرًا ثقالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت ** له المزن تحمل عذبًا زلالا

فيكون المرء واهبًا نفسه لهذا الأمر باذلالها، وذكر الوجه وأراد به نفس الشيء، وذلك لا يكون إلا بالانقياد والخضوع وإذلال النفس في طاعته وتجنب معاصيه، ومعنى لله أي: خالصًا لله لا يشوبه شرك، فلا يكون عابدًا مع الله غيره، أو معلقًا رجاءه بغيره، وفي ذلك دلالة على أن المرء لا ينتفع بعمله إلا إذا فعله على وجه العبادة في الإخلاص والقربة. اهـ.

.قال الألوسي:

{بلى} رد لقولهم الذي زعموه وإثبات لما تضمنه من نفي دخول غيرهم الجنة.
والقول بأنه رد لما أشار إليه {قُلْ هَاتُواْ برهانكم} [البقرة: 111] من نفي أن يكون لهم برهان مما لا وجه له ولا برهان عليه.
{مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي انقاد لما قضى الله تعالى وقدر، أو أخلص له نفسه أو قصده فلم يشرك به تعالى غيره، أو لم يقصد سواه فالوجه إما مستعار للذات وتخصيصه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء ومعدن الحواس وإما مجاز عن القصد لأن القاصد للشيء مواجه له. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وبلي كلمة يجاب بها المنفي لإثبات نقيض النفي وهو الإثبات سواء وقعت بعد استفهام عن نفي وهو الغالب أو بعد خبر منفي نحو {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى} [القيامة: 3، 4]، وقول أبي حية النميري:
يخبرك الواشون أن لن أحبكم ** بلى وستور الله ذات المحارم

.قال القرطبي:

وخصّ الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يُرَى من الإنسان؛ ولأنه موضع الحواس، وفيه يظهر العِزّ والذُّل.
والعرب تُخبر بالوجه عن جملة الشيء.
ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد. اهـ.

.قال الثعلبي:

وإنّما خصَّ الوجه لأنّه إذا جاد بوجهه في السّجود لم يبخل بسائر جوارحه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والوجه هنا الذات عبر عن الذات بالوجه لأنه البعض الأشرف من الذات كما قال الشنفرى:
إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري

ومن إطلاق الوجه على الذات قوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27].
وأطلق الوجه على الحقيقة تقول جاء بالأمر على وجهه أي على حقيقته قال الأعشى:
وأول الحكم على وجهه ** ليس قضاء بالهوى الجائر

ووجوه الناس أشرافهم ويجوز أن يكون أسلم بمعنى أخلص مشتقًا من السلامة أي جعله سالمًا ومنه {ورجلًا سلمًا لرجل} [الزمر: 29]. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: لابد وأن يكون تواضعه لله بفعل حسن لا بفعل قبيح، فإن الهند يتواضعون لله لكن بأفعال قبيحة، وموضع قوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} موضع حال كقولك: جاء فلان وهو راكب، أي جاء فلان راكبًا، ثم بين أن من جمع بين هذين فله أجره عند ربه، يعني به الثواب العظيم، ثم مع هذا النعيم لا يلحقه خوف ولا حزن، فأما الخوف فلا يكون إلا من المستقبل، وأما الحزن فقد يكون من الواقع والماضي كما قد يكون من المستقبل فنبه تعالى بالأمرين على نهاية السعادة لأن النعيم العظيم إذا دام وكثر وخلص من الخوف والحزن فلا يحزن على أمر فاته ولا على أمر يناله ولا يخاف انقطاع ما هو فيه وتغيره فقد بلغ النهاية وفي ذلك ترغيب في هذه الطريقة وتحذير من خلافها الذي هو طريقة الكفار المذكورين من قبل، واعلم أنه تعالى وحد أولًا ثم جمع، ومثله قوله: {وَكَمْ مّن مَّلَكٍ في السموات} [النجم: 26] ثم قال: {شفاعتهم} وقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْك} [الأنعام: 25] وقال في موضع آخر: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ} [محمد: 16] ولم يقل: خرج. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وهو محسن}: جملة حالية، وهي مؤكدة من حيث المعنى، لأن من أسلم وجهه لله فهو محسن.
وقد قيد الزمخشري الإحسان بالعمل؛ وجعل معنى قوله: {من أسلم وجهه لله}: من أخلص نفسه له، لا يشرك به غيره، وهو محسن في عمله، فصارت الحال هنا مبينة، إذ من لا يشرك قسمان: محسن في عمله، وغير محسن، وذلك منه جنوح إلى مذهبه الاعتزالي من أن العمل لابد منه، وأنه بهما يستوجب دخول الجنة، ولذلك فسر قوله: {فله أجره} الذي يستوجبه، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الإحسان الشرعي حين سئل عن ماهيته فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وقد فسر هنا الإحسان بالإخلاص، وفسر بالإيمان، وفسر بالقيام بالأوامر، والانتهاء عن المناهي.
{فله أجره عند ربه}: العامل في عند هو العامل في له، أي فأجره مستقر له عند ربه، ولما أحال أجره على الله أضاف الظرف إلى لفظه ربه، أي الناظر في مصالحة ومربيه ومدبر أحواله، ليكون ذلك أطمع له، فلذلك أتى بصفة الرب، ولم يأت بالضمير العائد على الله في الجملة قبله، ولا بالظاهر بلفظ الله.
فلم يأت فله أجره عنده، لما ذكرناه، ولقلق الإتيان بهذه الضمائر، ولم يأت فله أجره عند الله، لما ذكرنا من المعنى الذي دل عليه لفظ الرب.
{ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}: جمع الضمير في قوله: {عليهم ولا هم يحزنون} حملًا على معنى من، وحمل أوّلًا على اللفظ في قوله: {من أسلم وجهه له وهو محسن فله أجره عند ربه}، وهذا هو الأفصح، وهو أن يبدأ أولًا بالحمل على اللفظ، ثم بالحمل على المعنى.
وقد تقدم تفسير هذه الجملة.
وقراءة ابن محيصن: فلا خوف، برفع الفاء من غير تنوين، باختلاف عنه.
وقراءة الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب وغيرهم: فلا خوف، بالفتح من غير تنوين، وتوجيه ذلك، فأغنى عن إعادته هنا. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَهُوَ مُحْسِنٌ} حال من ضمير {أَسْلَمَ} أي والحال إنه محسن في جميع أعماله، وإذا أريد بما تقدم الشرك يؤول المعنى إلى: آمن وعمل الصالحات وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله: {أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} {فَلَهُ أَجْرُهُ} أي الذي وعد له على ذلك لا الذي يستوجبه كما قاله الزمخشري رعاية لمذهب الاعتزال، والتعبير عما وعد بالأجر إيذانًا بقوة ارتباطه بالعمل {عِندَ رَبّهِ} حال من أجره والعامل فيه معنى الاستقرار، والعندية للتشريف، والمراد عدم الضياع والنقصان، وأتى بالرب مضافًا إلى ضمير {مَنْ أَسْلَمَ} إظهارًا لمزيد اللطف به وتقريرًا لمضمون الجملة، والجملة جواب {مِنْ} إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط، وعلى التقديرين يكون الرد بلى وحده وما بعده كلام مستأنف كأنه قيل: إذا بطل ما زعموه فما الحق في ذلك، وجوز أن تكون مَن موصولة فاعل ليدخلها محذوفًا، وبلى مع ما بعدها رد لقولهم، ويكون {فَلَهُ أَجْرُهُ} معطوفًا على ذلك المحذوف عطف الاسمية على الفعلية لأن المراد بالأولى التجدد، وبالثانية الثبوت، وقد نص السكاكي بأن الجملتين إذا اختلفتا تجددًا وثبوتًا يراعى جانت المعنى فيتعاطفان {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} تقدم مثله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ، ويجوز في مثل هذا العكس إلا أن الأفصح أن يبدأ بالحمل على اللفظ ثم بالحمل على المعنى لتقدم اللفظ عليه في الإفهام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وهو محسن} جيء به جملة حالية لإظهار أنه لا يغني إسلام القلب وحده ولا العمل بدون إخلاص بل لا نجاة إلا بهما ورحمة الله فوق ذلك إذ لا يخلو امرؤ عن تقصير. اهـ.

.قال الفخر:

واعلم أنا لما فسرنا قوله: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} بالإخلاص فلنذكر هاهنا حقيقة الإخلاص وذلك لا يمكن بيانه إلا في مسائل:
المسألة الأولى:
في فضل النية قال عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات» وقال: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم» وفي الإسرائيليات أن رجلًا مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه: لو كان هذا الرمل طعامًا لقسمته بين الناس فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له: إن الله قبل صدقتك وشكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعامًا فتصدقت به.
المسألة الثانية:
الإنسان إذا علم أو ظن أو اعتقد أن له في فعل من الأفعال جلب نفع أو دفع ضر ظهر في قلبه ميل وطلب، وهو صفة تقتضي ترجيح وجود ذلك الشيء على عدمه، وهي الإرادة فهذه الإرادة هي النية والباعث له على تلك النية ذلك العلم أو الاعتقاد أو الظن، إذا عرفت هذا فنقول: الباعث على الفعل إما أن يكون أمرًا واحدًا، وإما أن يكون أمرين، وعلى التقدير الثاني فإما أن يكون كل واحد منهما مستقلًا بالبعث، أو لا يكون واحد منهما مستقلًا بذلك، أو يكون أحدهما مستقلًا بذلك دون الآخر، فهذه أقسام أربعة.
الأول: أن يكون الباعث واحدًا وهو كما إذا هجم على الإنسان سبع فلما رآه قام من مكانه فهذا الفعل لا داعي إليه إلا اعتقاده ما في الهرب من النفع وما في ترك الهرب من الضرر، فهذه النية تسمى خالصة، ويسمى العمل بموجبها إخلاصًا.
الثاني: أن يجتمع على الفعل باعثان مستقلان، كما إذا سأله رفيقه الفقير حاجة فيقضيها لكونه رفيقًا له، وكونه فقيرًا، مع كون كل واحد من الوصفين بحيث لو انفرد لاستقل بالاستقضاء، واسم هذا موافقة الباعث.
الثالث: أن لا يستقل واحد منهما لو انفرد، لكن المجموع مستقل، واسم هذا مشاركة.
الرابع: أن يستقل أحدهما ويكون الآخر معاضدًا مثل أن يكون للإنسان ورد من الطاعات فاتفق أن حضر في وقت أدائها جماعة من الناس فصار الفعل عليه أخف بسبب مشاهدتهم، واسم هذا معاونة.
المسألة الثالثة:
في تفسير قوله عليه السلام: «نية المؤمن خير من عمله» ذكروا فيه وجوهًا:
أحدها: أن النية سر، والعمل علن، وطاعة السر أفضل من طاعة العلانية، وهذا ليس بشيء لأنه يقتضي أن تكون نية الصلاة خيرًا من نفس الصلاة.
وثانيها: النية تدوم إلى آخر العمل، والأعمال لا تدوم، والدائم خير من المنقطع، وهذا ليس بشيء لأنه يرجع معناه إلى أن العمل الكثير خير من العمل القليل، وأيضًا فنية عمل الصلاة قد لا تحصل إلا في لحظات قليلة، والأعمال تدوم، وثالثها: أن النية بمجردها خير من العمل بمجرده، وهو ضعيف، إذ العمل بلا نية لا خير فيه، وظاهر الترجيح للمشتركين في أصل الخيرية.
ورابعها: أن لا يكون المراد من الخير إثبات الأفضلية بل المراد أن النية خير من الخيرات الواقعة بعمله، وهو ضعيف، لأن حمل الحديث عليه لا يفيد إلا إيضاح الواضحات، بل الوجه الجيد في التأويل أن يقال: النية ما لم تخل عن جميع أنواع الفتور لا تكون نية جازمة، ومتى خلت عن جميع جهات الفتور وجب ترتب الفعل عليها لو لم يوجد عائق، وإذا كان كذلك: ثبت أن النية لا تنفك ألبتة عن الفعل، فيدعى أن هذه النية أفضل من ذلك العمل، وبيانه من وجوه.
أولها: أن المقصود من جميع الأعمال تنوير القلب بمعرفة الله وتطهيره عما سوى الله، والنية صفة القلب، والفعل ليس صفة القلب، وتأثير صفة القلب أقوى من تأثير صفة الجوارح في القلب، فلا جرم نية المؤمن خير من عمله.
وثانيها: أنه لا معنى للنية إلا القصد إلى إيقاع تلك الأعمال طاعة للمعبود وانقيادًا له، وإنما يراد الأعمال ليستحفظ التذكر بالتكرير، فيكون الذكر والقصد الذي في القلب بالنسبة إلى العمل كالمقصود بالنسبة إلى الوسيلة، ولا شك أن المقصود أشرف من الوسيلة.
وثالثها: أن القلب أشرف من الجسد، ففعله أشرف من فعل الجسد، فكانت النية أفضل من العمل.
المسألة الرابعة:
اعلم أن الأعمال على ثلاثة أقسام: طاعات، ومعاصي، ومباحات، أما المعاصي فهي لا تتغير عن موضوعاتها بالنية، فلا يظن الجاهل أن قوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات» يقتضي انقلاب المعصية طاعة بالنية كالذي يطعم فقيرًا من مال غيره، أو يبني مسجدًا من مال حرام.
الثاني: الطاعات وهي مرتبطة بالنيات في الأصل وفي الفضيلة، أما في الأصل فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى، فإن نوى الرياء صارت معصية، وأما الفضيلة فبكثرة النيات تكثر الحسنة كمن قعد في المسجد وينوي فيه نيات كثيرة.
أولها: أن يعتقد أنه بيت الله ويقصد به زيارة مولاه كما قال عليه الصلاة والسلام: «من قعد في المسجد فقد زار الله وحق على المزور إكرام زائره».
وثانيها: أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة فيكون حال الإنتظار كمن هو في الصلاة.
وثالثها: إغضاء السمع والبصر وسائر الأعضاء كما لا ينبغي، فإن الإعتكاف كف وهو في معنى الصوم، وهو نوع ترهب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «رهبانية أمتي القعود في المساجد».
ورابعها: صرف القلب والسر بالكلية إلى الله تعالى.
وخامسها: إزالة ما سوى الله عن القلب.
وسادسها: أن يقصد إفادة علم أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
وسابعها: أن يستفيد أخًا في الله فإن ذلك غنيمة أهل الدين.
وثامنها: أن يترك الذنوب حياء من الله فهذا طريق تكثير النيات، وقس به سائر الطاعات.
القسم الثالث: سائر المباحات ولا شيء منها إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات، فما أعظم خسران من يغفل عنها ولا يصرفها إلى القربات، وفي الخبر: من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة فإن قلت: فاشرح لي كيفية هذه النية، فاعلم أن القصد من التطيب إن كان هو التنعم وريحه أنتن من الجيفة، فإن قلت: فاشرح لي كيفية هذه النية، فاعلم أن القصد من التطيب إن كان هو التنعم بلذات الدنيا أو إظهار التفاخر بكثرة المال أو رياء الخلق أو ليتودد به إلى قلوب النساء، فكل ذلك يجعل التطيب معصية، وإن كان القصد إقامة السنة ودفع الروائح المؤذية عن عباد الله وتعظيم المسجد، فهو عين الطاعة، وإذا عرفت ذلك فقس عليه سائر المباحات، والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو العمل الحق، وكل ما عملته لغير الله فحلالها حساب وحرامها عذاب.
المسألة الخامسة:
اعلم أن الجاهل إذا سمع الوجوه العقلية والنقلية في أنه لابد من النية فيقول في نفسه عند تدريسه وتجارته: نويت أن أدرس لله وأتجر لله يظن أن ذلك نية وهيهات فذاك حديث نفس أو حديث لسان والنية بمعزل عن جميع ذلك إنما النية انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلًا وإما آجلًا.
والميل إذا لم يحصل لم يقدر الإنسان على اكتسابه وهو كقول الشبعان نويت أن أشتهي الطعام، أو كقول الفارغ نويت أن أعشق، بل لا طريق إلى اكتساب الميل إلى الشيء إلا باكتساب أسبابه وليست هي إلا تحصيل العلم بما فيه من المنافع، ثم هذا العلم لا يوجب هذا الميل إلا عند خلو القلب عن سائر الشواغل، فإذا غلبت شهوة النكاح ولم يعتقد في الولد غرضًا صحيحًا لا عاجلًا ولا آجلًا، لا يمكنه أن يواقع على نية الولد بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة إذ النية هي إجابة الباعث ولا باعث إلا الشهوة فكيف ينوي الولد؟ فثبت أن النية ليست عبارة عن القول باللسان أو بالقلب بل هي عبارة عن حصول هذا الميل، وذلك أمر معلق بالغيب فقد يتيسر في بعض الأوقات، وقد يتعذر في بعضها.
المسألة السادسة:
اعلم أن نيات الناس في الطاعات أقسام: فمنهم من يكون عملهم إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار، ومنهم من يعمل لباعث الرجاء وهو الرغبة في الجنة والعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه، كالأجير السوء ودرجته درجة البله، وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله والفكر فيه حبًا لجلاله وسائر الأعمال مؤكدات له وهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وثواب الناس بقدر نياتهم فلا جرم صار المقربون متنعمين بالنظر إلى وجهه الكريم ونسبة شرف الالتذاذ بنعيم الجنة إلى شرف الالتذاذ بهذا المقام كنسبة نعيم الجنة إلى وجهه الكريم. اهـ.