فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)}.
{وَإِن كَادُواْ} أي أهل مكة كما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} ليزعجونك ويستخفونك بعداوتهم ومكرهم {مّنَ الأرض} أي الأرض التي أنت فيها وهي أرض مكة {لِيُخْرِجُوكَ} أي ليتسببوا إلى خروجك {مِنْهَا} وكان هذا الاستفزاز بما فعلوا من حصره صلى الله عليه وسلم في الشعب والتضييق عليه عليه الصلاة والسلام ووقع ذلك بعد نزول الآية كما في البحر وصار سببًا لخروجه صلى الله عليه وسلم مهاجرًا.
{وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ} أي إن استفزوك فخرجت لا يبقون {خلافك} أي بعدك وبه قرأ عطاء بن رباح واستحسن أنها تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف وأنشدوا:
عفت الديار خلافهم فكأنما ** بسط الشواطب بينهن حصيرا

وقرأ أهل الحجاز، وأبو بكر، وأبو عمرو: {خَلْفَكَ} بغير ألف والمعنى واحد واللفظان في الأصل من الظروف المكانية فتجوز فيهما واستعملا للزمان وقد اطرد إضافتهما كقبل وبعد إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله أي لا يلبثون خلف استفزازك وخروجك {إِلاَّ قَلِيلًا} أي إلا زمانًا قليلًا، وجوز أن يكون التقدير إلا لبثًا قليلًا والمعنيان متقاربان، واختير التقدير الأول لأن التوسع أعني إقامة الوصف مقام الموصوف بالظرف أشبه، وهذا وعيد لهم بإهلاك مجموعهم من حيث هو مجموع بعد خروجه صلى الله عليه وسلم بقليل وتحقق بإفناء البعض في بدر لا سيما وقد كانوا صناديدهم والرؤوس، وأنت تعرف أن معظم الشيء يقام مقام كله، وكان الزمان القليل على ما روى ابن أبي حاتم عن السدي ثمانية عشر شهرًا، ويجوز أن يفسر الإخراج بالإكراه على الخروج والوعيد بإهلاك كل واحد منهم أي لو أخرجوك لاستؤصلوا على بكرة أبيهم لكن لم يقع المقدم لأن الإكراه على الخروج مباشرة وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا بأمر ربه عز وجل فلم يقع التالي وهذا هو التفسير المروى عن مجاهد قال: أرادت قريش ذلك ولم تفعل لأنه سبحانه أراد استبقاءها وعدم استئصالها ليسلم منها ومن أعقابها من يسلم فأذن لرسوله عليه الصلاة والسلام بالهجرة فخرج بإذنه لا إخراج قريش وقهرهم، والإخراج في قوله تعالى: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هي أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ التى أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] محمول على المعنى الأول، وكذا في قول ورقة: يا ليتني كنت جذعًا إذ يخرجك قومك وقوله عليه الصلاة والسلام: «أو مخرجي هم» فلم تتضمن الآية وكذا الخبر إثبات إخراج قلنا بنفيه هنا، والقول بأنه يلزم على هذا التناقض بين هذه الآية والآية السابقة بناءً على تفسير الإخراج فيها بالتسبب إلى الخروج لأن كاد تدل على مقاربته لا حصوله وهذه الآية دلت على حصوله مجاب عنه بأن قصارى ما دلت عليه الآية السابقة على التفسير الأول قرب حصول الاستفزاز منهم ليتسببوا به إلى خروجه صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن حاصلًا وقت نزول الآية لا أنه لا يكون حاصلًا أبدًا ليناقض حصوله بعد.
وحكى الزجاج أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله صلى الله عليه وسلم والمراد من الأرض وجه البسيطة مطلقًا، وقال أبو حيان: المراد بها على هذا الدنيا، وقيل ضمير {كَادُواْ} وما بعده لليهود، فقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنم قال: إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إن كنت نبيًا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء فصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام ما قالوا فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} إِلَى {تَحْوِيلًا} [الإسراء: 67، 77] وأمره بالرجوع إلى المدينة وقال فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث، وفي رواية أنهم قالوا: يا أبا القاسم إن الشام أرض مقدسة وهي أرض الأنبياء فلو خرجت إليها لآمنا بك وقد علمنا أنك تخاف الروم فإن كنت نبيًا فاخرج إليها فإن الله تعالى سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فخرج عليه الصلاة والسلام بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت هذه الآية فرجع صلى الله عليه وسلم ثم إنه عليه الصلاة والسلام قتل منهم بني قريظة وأجلى بني النضير بقليل.
وتعقب بأنه ضعيف لم يقع في سيرة ولا كتاب يعتمد عليه، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة وكيفما كان يكون المراد من الأرض عليه المدينة، وقيل أرض العرب، وكأن من ذهب إلى أن هذه الآية مدنية يستند إلى ما ذكر من الروايات، وقد صرح الخفاجي بأن هذا المذهب غير مرضي والله تعالى أعلم.
وقرأ عطاء: {لاَّ يَلْبَثُونَ} بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة.
وقرأ يعقوب كذلك إلا أنه كسر الباء وقرأ أبي: {وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُواْ} بحذف النون وكذا في مصحف عبد الله، وتوجيه الإثبات والحذف أن النحويين عدوا من جملة شروط عمل إذن كونها في أول الجملة فعلى قراءة الحذف تكون الجملة معطوفة على جملة {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} وهي خبر كاد فيكون الشرط منخرمًا لتوسطها حينئذٍ في الكلام لكون ما بعدها خبر كاد كالمعطوف هو عليه، وعلى قراءة الإثبات تكون الجملة معطوفة على جملة {وَإِن كَادُواْ} فيتحقق الشرط والعطف لا يضر في ذلك، ووجه أبو حيان الإهمال بأن {لاَّ يَلْبَثُونَ} جواب قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت لا يلبثون وقد توسطت إذا بين القسم المقدر والفعل فأهملت ثم قال ويحتمل أن يكون لا يلبثون خبرًا لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره وهم إذًا لا يلبثون فتكون إذًا واقعة بين المبتدأ وخبره ولذلك ألغيت وكلا التوجيهين ليس بوجيه كما لا يخفى. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} إخبار عن تأييده تعالى رسوله، صلوات الله عليه وسلامه، وتثبيته وعصمته وتولي أمره وحفظه. فإن المشركين، لكثرة تفننهم في ضروب الأذى وشدة تعنتهم وقوة شكيمتهم، كادوا أن يفتنوه. ولكن عناية الله وحفظه، هو الذي ثبت قدمه في مثل مقامه في الدعوة إلى الله الذي لا يثبت فيه أحد غيره. وقد روي أن ثقيفًا قالوا: لا نؤمن حتى تعطينا خصالًا نفتخر بها على العرب: لا ننحني في الصلاة، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا، وإن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها، فإن خشيت أن يسمع العرب: لِمَ أعطيتهم ما لم تعطنا فقل: الله أمرني بذلك.
وروي أن قريشًا قالوا: لا ندعك يا محمد أن تستلم الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا. وقالوا أيضًا: نؤمن بك إن تمس آلهتنا.
قال الإمام الطبري: يجوز أن تكون الفتنة فما ذكر. وأن تكون غير ذلك. ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي: ذلك كان. فالأصوب: الإيمان بظاهره حتى يأتي ما يجب التسليم له، ببيان ما عني بذلك منه.
قال الزجاج: معنى الكلام: كادوا يفتنونك. ودخلت {أن} المخففة من الثقيلة واللام للتأكيد. والمعنى: أن الشأن قاربوا أن يفتنوك، أي: يخدعوك. ويصرفوك عن القرآن، أي: عن حكمه. وذلك لأن في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن. وقوله: {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} أي: غير ما أوحينا إليك وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك: {وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} أي: لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلًا، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم، وراض بشركهم. ثم قال: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} أي: على الحق بعصمتنا إياك: {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} أي: تميل إليهم: {شَيْئًا قَلِيلًا} وقوله: {شَيْئًا} عبارة عن المصدر، أو ركونًا قليلًا.
وعن قتادة: لما نزلت هذه الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين».
ثم توعده في ذلك أشد التوعد، فقال: {إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أي: ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. والضعف عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله، ودل على إضمار العذاب وصف العذاب بالضعف في كثير من الآيات، كقوله تعالى: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص: 61]، وقال: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38].
والسبب في تضعيف العذاب؛ أن أقسام نعم الله على الأنبياء أكثر. فكانت ذنوبهم أعظم. فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر. ونظيره قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30].
تنبيهات:
الأول: قال القفال رحمه الله بعد ذكره ما روي في سبب نزولها مما قدمناه: ويمكن أيضًا تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه؛ لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يقدرون عليه. فتارة كانوا يقولون: إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك، فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أعبُدُ ما تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1- 2]، وقوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنساء الجميلة ليترك ادعاء النبوة، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْك} [طه: 131]. ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} [الأنعام: 52]، فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب. وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه، وأن يزيلوه عن منهجه. فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم. وعلى هذا الطريق. فلا حاجة في تفسير هذا الآيات، إلى شيء من تلك الروايات. والله أعلم.
الثاني: قال القاضي: معنى قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاك} الآية، إنك كنت على صدد الركون إليهم، لقوة خداعهم وشدة احتيالهم. لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون، فضلًا عن أن تركن عليهم. وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما همَّ بإجابتهم، مع قوة الداعي إليها، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه.
الثالث: قال الزمخشري: في ذكر الكيدودة وتقليلها، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين؛ دليل بيِّنٌ على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته. وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة، مضادة لله وخروج عن ولا يته، وسبب موجب لغضبه ونكاله. فعلى المؤمن، إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها فهي جديرة بالتدبر. وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله.
الرابع: جاء في حواشي جامع البيان ما مثاله بالحرف: من الفوائد الجليلة في هذه الآية، أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا. فإنها شعائر الكفر والشرك. وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانًا وطواغيت تعبد من دون الله. والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذور والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته. وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وأعظم شرك عندها وبها. فإن اللات- على ما نقله ابن خزيمة عن مجاهد- رجل كان يلت لهم السويق فمات. فعكفوا على قبره يعبدونه ويعظمونه. ولم يقولوا: إن اللات خلقت السماوات والأرض، بل كان شركهم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه، من النذور لها، والشرك بها، والتمسح بها، وتقبيلها، واستلامها. وما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مجرد مس آلهتهم، كما قالوا نؤمن بك إن تمس آلهتنا، وما التمسوا منه إلا التمتيع باللات سنة من غير عبادة، فتوعد بهذا الوعيد الشديد والتهديد الأكيد أن لو ركن إليهم. فالرزية كل الرزية ما ابتلي به القبوريون من أهل هذا الزمان. فإنهم لم يدعوا شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام، إلا فعلوه بالقبور. فإنا لله وإنا إليه راجعون. بل كثير منهم، إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه، حلف بالله فاجرًا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك، أو بمعتقدك الولي الفلاني، تلكأ وأبى واعترف بالحق. وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: ثالث ثلاثة فيا علماء الدين! ويا ملوك المسلمين! أي: رزء للإسلام أشد من الكفر؟ وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبًا؟ فاللهم! انصر من نصر الحق واهدنا إلى سواء السبيل. انتهى.
{وَإِن كَادُواْ} أي: أهل مكة: {لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ} أي: ليزعجونك بمعاداتهم من مكة: {لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ} أي: ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك: {إِلاَّ قَلِيلا ً} أي: زمانًا قليلًا.
{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم، فسنة الله أن يهلكهم. ونصبت نصب المصدر المؤكد. أي: سنَّ الله ذلك سنة: {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} أي: تغييرًا. ولا يخفى أن المراد بعدم لبثهم، إهلاكهم. سواء كان بالاستئصال أو لا. قال ابن كثير: وكذلك وقع، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بين هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد. فأمكنه منهم، وسلطه عليهم، وأظفره بهم. فقتل أشرافهم وسبى سراتهم. ولهذا قال تعالى: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا} أي: هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم. يخرج الرسول من بين أظهرهم ويأتيهم العذاب. ولولا أنه صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)}.
حكاية فن من أفانين ضلالهم وعماهم في الدنيا، فالجملة عطف على جملة {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى} [الإسراء: 72]، وهو انتقال من وصف حالهم وإبطال مقالهم في تكذيب النبي إلى ذكر حال آخر من حال معارضتهم وإعراضهم، وهي حال طَمعهم في أن يستنزلوا النبي لأن يقول قولًا فيه حسن ذكر لآلهتهم ليتنازلوا إلى مصالحته وموافقته إذا وافقهم في بعض ما سألوه.