فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما أمره سبحانه بالتهجد والتذلل، وكان السياق للعظمة رجاء في النوال بما يليق بالسياق فقال تعالى: {عسى أن} أي لتكون بمنزلة الراجي لأن {يبعثك} ولما كان السياق قد انصرف للترجية، عبر بصفة الإحسان فقال تعالى: {ربك} أي المحسن إليك بعد الموت الأكبر وقبله، كما بعث نفسك من الموت الأصغر إلى خدمته {مقامًا} نصب على الظرف {محمودًا} وذلك لأن {عسى} للترجي في المحبوب والإشفاق في المكروه، وقد يضعف ذلك فيلزم الشك في الأمر، وقد يقوى فيأتي اليقين، وهي هنا لليقين، قالوا: إن عسى تفيد الإطماع، ومن أطمع أحدًا في شيء ثم حرمه كان عارًا، والله تعالى أكرم من أن يفعل ذلك، وعبر بها دون ما يفيد القطع لأن ذلك أقعد في كلام الملوك لأنه أدل على العظمة، وللبخاري في التفسير عن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثى، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع! يا فلان اشفع! حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود.
أي فيظهر ما له من الحظ من اسمه أحمد ومحمد في ذلك الحين بحمد كل ذي روح بإيصال الإحسان إلى كل منهم بالفعل، وله في التفسير وغيره عن جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة! آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة» يعني- والله أعلم- الشفاعة الخاصة، وأما العامة فللكل بغير شرط.
ولما كان هذا المقام صالحًا للشفاعة ولكل مقام يقومه، وكان كل مقام يحتاج إلى التوفيق في مباشرته والانفصال عنه، تلاه حاثًا على دوام المراقبة واستشعار الافتقار بقوله مقدمًا المدخل لأنه أهم: {وقل رب} أي أيها الموجد لي، المدبر لأمري، المحسن إليّ {أدخلني} في كل مقام تريد إدخالي فيه حسي ومعنوي دنيا وأخرى {مدخل صدق} يستحق الداخل فيه أن يقال له: أنت صادق في قولك وفعلك، فإن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا {وأخرجني} من كل ما تخرجني منه {مخرج صدق}.
ولما كان الصدق في الأمور قد لا يقارنه الظفر، قال تعالى: {واجعل لي} أي خاصة {من لدنك} أي عندك من الخوارق التي هي أغرب الغريب {سلطانًا} أي حجة وعزًا {نصيرًا} وفيه إشعار بالهجرة وأنها تكون على الوجه الذي كشف عنه الزمان من العظمة التي ما لأحد بها من يدان.
ولما كان الدعاء قد لا يستجاب، قال مبشرًا له بأنه ليس بين دعائه وبين استجابته إلا قوله، ومحققًا لتلك البشرى بالأمر بأن يخبر بها: {وقل} أي لأوليائك وأعدائك: {جاء الحق} وهو كل ما أمرني به ربي وأنزله إليّ {وزهق} أي اضمحل وبطل وهلك {الباطل} وهو كل ما خالفه؛ ثم علل زهوقه بقوله: {إن الباطل كان} في نفسه بجبلته وطبعه {زهوقًا} قضاء قضاه الله تعالى من الأزل؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن مسعود رضى الله عنهم قال: دخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا}، {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد} [سبأ: 49]. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} يعني أن كل قوم أخرجوا نبيهم من ظهرانيهم فسنة الله أن يهلكهم فقوله: {سَنَةٍ} نصب على المصدر المؤكد أي سننا ذلك سنة فيمن قد أرسلنا قبلك ثم قال: {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} والمعنى أن ما أجرى الله تعالى به العادة لم يتهيأ لأحد أن يقلب تلك العادة وتمام الكلام في هذا الباب أن اختصاص كل حادث بوقته المعين وصفته المعينة ليس أمرًا ثابتًا له لذاته وإلا لزم أن يدوم أبدًا على تلك الحالة وأن لا يتميز الشيء عما يماثله في تلك الصفات بل إنما يحصل ذلك الاختصاص بتخصيص المخصص وذلك التخصيص هو أنه تعالى يريد تحصيله في ذلك الوقت ثم تتعلق قدرته بتحصيله في ذلك الوقت ثم يتعلق علمه بحصوله في ذلك الوقت ثم نقول هذه الصفات الثلاثة التي هي المؤثرة في حصول ذلك الاختصاص إن كانت حادثة افتقر حدوثها إلى تخصيص آخر ولزم التسلل وهو محال وإن كانت قديمة فالقديم يمتنع تغيره لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه ولما كان التغير على تلك الصفات المؤثرة في ذلك الاختصاص ممتنعًا كان التغير في تلك الأشياء المقدرة ممتنعًا فثبت بهذا البرهان صحة قوله تعالى: {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا}.
{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في النظم وجوه:
الأول:
أنه تعالى لما قرر أمر الالهيات والمعاد والنبوات أردفها بذكر الأمر بالطاعات بعد الإيمان وأشرف الطاعات بعد الإيمان الصلاة فلهذا السبب أمر بها.
الثاني:
أنه تعالى لما قال: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض} [الإسراء: 76] أمره تعالى بالإقبال على عبادته لكي ينصره عليهم فكأنه قيل له لا تبال بسعيهم في إخراجك من بلدتك ولا تلتفت إليهم واشتغل بعبادة الله تعالى وداوم على أداء الصلوات فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرهم عنك ويجعل يدك فوق أيديهم ودينك غالبًا على أديانهم ونظيره قوله في سورة طه: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء الليل فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى} [طه: 130] وقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ الساجدين * واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 97 99].
الوجه الثالث:
في تقرير النظم أن اليهود لما قالوا له اذهب إلى الشام فإنه مسكن الأنبياء عزم صلى الله عليه وسلم على الذهاب إليه فكأنه قيل له المعبود واحد في كل البلاد وما النصرة والدولة إلا بتأييده ونصرته فداوم على الصلوات وارجع إلى مقرك ومسكنك وإذا دخلته ورجعت إليه فقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي في هذا البلد سلطانًا نصيرًا في تقرير دينك وإظهار شرعك، والله أعلم.
المسألة الثانية:
اختلف أهل اللغة والمفسرون في معنى دلوك الشمس على قولين.
أحدهما: أن دلوكها غروبها وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة، فنقل الواحدي في البسيط عن علي عليه السلام أنه قال: دلوك الشمس غروبها.
وروى زر بن حبيش أن عبد الله بن مسعود قال: دلوك الشمس غروبها، وروى سعيد بن جبير هذا القول عن ابن عباس وهذا القول اختيار الفراء وابن قتيبة من المتأخرين.
والقول الثاني: أن دلوك الشمس هو زوالها عن كبد السماء وهو اختيار الأكثرين من الصحابة والتابعين واحتج القائلون بهذا القول على صحته بوجوه.
الحجة الأولى: روى الواحدي في البسيط عن جابر أنه قال: «طعم عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم خرجوا حين زالت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا حين دلكت الشمس».
الحجة الثانية: روى صاحب الكشاف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر» الحجة الثالثة: قال أهل اللغة معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة، وقيل لها إذا أفلت دالكة لأنها في الحالتين زائلة.
هكذا قاله الأزهري وقال القفال: أصل الدلوك الميل، يقال: مالت الشمس للزوال، ويقال: مالت للغروب، إذا عرفت هذا فنقول: وجب أن يكون المراد من الدلوك ههنا الزوال عن كبد السماء وذلك لأنه تعالى علق إقامة الصلاة بالدلوك، والدلوك عبارة عن الميل والزوال، فوجب أن يقال إنه أول ما حصل الميل والزوال تعلق به هذا الحكم فلما حصل هذا المعنى حال ميلها من كبد السماء وجب أن يتعلق به وجوب الصلاة وذلك يدل على أن المراد من الدلوك في هذه الآية ميلها عن كبد السماء وهذه حجة قوية في هذا الباب استنبطتها بناء على ما اتفق عليه أهل اللغة: أن الدلوك عبارة عن الميل والزوال، والله أعلم.
الحجة الرابعة: قال الأزهري الأولى حمل الدلوك على الزوال في نصف النهار، والمعنى {أَقِمِ الصلاة} أي أدمها من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل وعلى هذا التقدير فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم قال: {أَقِمِ الصلاة} فإذا حملنا الدلوك على الزوال دخلت الصلوات الخمس في هذه الآية، وإن حملناه على الغروب لم يدخل فيه إلا ثلاث صلوات وهي المغرب والعشاء والفجر وحمل كلام الله تعالى على ما يكون أكثر فائدة أولى فوجب أن يكون المراد من الدلوك الزوال، واحتج الفراء على قوله الدلوك هو الغروب بقول الشاعر:
هذا مقام قدمي رباح ** وقفت حتى دلكت براح

وبراح اسم الشمس أي حتى غابت، واحتج ابن قتيبة بقول ذي الرمة:
مصابيح ليست باللواتي يقودها ** نجوم ولا أفلاكهن الدوالك

واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لأن عندنا الدلوك عبارة عن الميل والتغير وهذا المعنى حاصل في الغروب فكان الغروب نوعًا من أنواع الدلوك فكان وقوع لفظ الدلوك على الغروب لا ينافي وقوعه على الزوال كما أن وقوع لفظ الحيوان على الإنسان لا ينافي وقوعه على الفرس ومنهم من احتج أيضًا على صحة هذا القول بأن الدلوك اشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه عند النظر إليها وهذا إنما يصح في الوقت الذي يمكن النظر إليها ومعلوم أنها عند كونها في وسط السماء لا يمكن النظر إليها، أما عند قربها من الغروب فيمكن النظر إليها وعندما ينظر الإنسان إليها في ذلك الوقت يدلك عينيه، فثبت أن لفظ الدلوك مختص بالغروب.
والجواب أن الحاجة إلى ذلك التبيين عند كونها في وسط السماء أتم فهذا الذي ذكرته بأن يدل على أن الدلوك عبارة عن الزوال من وسط السماء أولى، والله أعلم.
المسألة الثالثة:
قال الواحدي: اللام في قوله لدلوك الشمس لام الأجل والسبب وذلك لأن الصلاة إنما تجب بزوال الشمس فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس.
المسألة الرابعة:
قوله: {إلى غسق الليل} غسق الليل سواده وظلمته قال الكسائي: غسق الليل غسوقًا، والغسق: الاسم، بفتح السين.
وقال النضر بن شميل: غسق الليل دخول أوله، وأتيته حين غسق الليل، أي حين يختلط ويسد المناظر، وأصل هذا الحرف من السيلان يقال: غسقت العين تغسق.
وهو هملان العين بالماء، والغاسق السائل، ومن هذا يقال لما يسيل من أهل النار: الغساق، فمعنى غسق الليل أي انصب بظلامه، وذلك أن الظلمة كأنها تنصب على العالم، وأما قول المفسرين، قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما غسق الليل؟ قال أوله حين يدخل.
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق: قال دخول الليل بظلمته، وقال الأزهري: غسق الليل عند غيبوبة الشفق عند تراكم الظلمة واشتدادها، يقال: غسقت العين إذا امتلأت دمعًا، وغسقت الجراحة إذا امتلأت دمًا، قال لأنا لو حملنا الغسق على هذا المعنى دخلت الصلوات الأربع فيه وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولو حملنا الغسق على ظهور أول الظلمة لم يدخل فيه إلا الظهر والمغرب فوجب أن يكون الأول أولى، واعلم أنه يتفرع على هذين القولين بحث شريف فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات وقت الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتًا للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركًا بين هاتين الصلاتين وأن يكون أول المغرب وقتًا للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركًا أيضًا بين هاتين الصلاتين فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقًا إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر ولا يجوز فوجب أن يكون الجمع جائزًا بعذر السفر وعذر المطر وغيره، أما إن فسرنا الغسق بالظلمة المتراكمة فنقول الظلمة المتراكمة إنما تحصل عند غيبوبة الشفق الأبيض وكلمة إلى لانتهاء الغاية والحكم الممدود إلى غاية يكون مشروعًا قبل حصول تلك الغاية فوجب جواز إقامة الصلوات كلها قبل غيبوبة الشفق الأبيض وهذا إنما يصح إذا قلنا إنها تجب عند غيبوبة الشفق الأحمر، والله أعلم.
المسألة الخامسة:
قوله: {وقرآن الفجر} أجمعوا على أن المراد منه صلاة الصبح وانتصابه بالعطف على الصلاة في قوله أقم الصلاة والتقدير أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر وفيه فوائد.
الفائدة الأولى:
أن هذه الآية تدل على أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة.
الفائدة الثانية:
أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر والتقدير أقم قرآن الفجر فوجب أن تتعلق القراءة بحصول الفجر وفي أول طلوع الصبح قد حصل الفجر لأن الفجر سمى فجرًا لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح وظاهر الأمر للوجوب فمقتضى هذا اللفظ وجوب إقامة صلاة الفجر من أول طلوعه إلا أنا أجمعنا على أن هذا الوجوب غير حاصل، فوجب أن يبقى الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع من الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تنقل مخالفة الدليل فثبت أن هذه الآية تقتضي أن إقامة الفجر في أول الوقت أفضل وهذا يدل على صحة مذهب الشافعي في أن التغليس أفضل من التنوير، والله أعلم.