فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والقول الثاني: قال حذيفة، يجمع الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجًا منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت» فهذا هو المراد من قوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} وأقول القول الأول أولى لأن سعيه في الشفاعة يفيده إقدام الناس على حمده فيصير محمودًا وأما ذكر هذا الدعاء فلا يفيد إلا الثواب أما الحمد فلا فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى يحمده على هذا القول قلنا لأن الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الأنعام فقط فإن ورد لفظ الحمد في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز.
القول الثالث: المراد مقام تحمد عاقبته وهذا أيضًا ضعيف للوجه الذي ذكرناه في القول الثاني.
القول الرابع: قال الواحدي روى عن ابن مسعود أنه قال: يقعد الله محمدًا على العرش وعن مجاهد أنه قال يجلسه معه على العرش، ثم قال الواحدي وهذا قول رذل موحش فظيع ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه.
الأول: أن البعث ضد الإجلاس يقال بعثت النازل والقاعد فانبعث ويقال بعث الله الميت أي أقامه من قبره فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد.
والثاني: أنه تعالى قال مقامًا محمودًا ولم يقل مقعدًا والمقام موضع القيام لا موضع القعود.
والثالث: لو كان تعالى جالسًا على العرش بحيث يجلس عنده محمد عليه الصلاة والسلام لكان محدودًا متناهيًا ومن كان كذلك فهو محدث.
والرابع: يقال إن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزاز لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون في كل أهل الجنة إنهم يزورون الله تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا فيها في الدنيا وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين لم يكن لتخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بها مزيد شرف ورتبة.
والخامس: أنه إذا قيل السلطان بعث فلانًا فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه فثبت أن هذا القول كلام رذل ساقط لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين، والله أعلم ثم قال تعالى: {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} وفيه مباحث:
البحث الأول:
أنا ذكرنا في تفسير قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض} [الإسراء: 76] قولين: أحدهما: المراد منه سعي كفار مكة في إخراجه منها.
والثاني: المراد منه أن اليهود قالوا له الأولى لك أن تخرج من المدينة إلى الشام ثم إنه تعالى قال له: أقم الصلاة واشتغل بعبادة الله تعالى ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهال فإنه تعالى ناصرك ومعينك ثم عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة فإن فسرنا تلك الآية أن المراد منها أن كفار مكة أرادوا إخراجه من مكة كان معنى هذه الآية أنه تعالى أمره بالهجرة إلى المدينة وقال له: {رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ} وهو المدينة {وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} وهو مكة.
وهذا قول الحسن وقتادة وإن فسرنا تلك الآية بأن المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذهاب إلى الشام فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ثم أمره الله بأن يرجع إليها كان المراد أنه عليه الصلاة والسلام عند العود إلى المدينة قال: {رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ} وهو المدينة {وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} يعني أخرجني منها إلى مكة مخرج صدق أي افتحها لي.
والقول الثاني: في تفسير هذه الآية وهو أكمل مما سبق أن المراد {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى} في الصلاة {وَأَخْرِجْنِى} منها مع الصدق والإخلاص وحضور ذكرك والقيام بلوازم شكرك.
والقول الثالث: وهو أكمل مما سبق أن المراد: {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى}- في القيام بمهمات أداء دينك وشريعتك، {وَأَخْرِجْنِى} منها بعد الفراغ منها إخراجًا لا يبقى علي منها تبعة ربقية.
والقول الرابع: وهو أعلى مما سبق: {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى} في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك وقدسك ثم أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول ومن التأمل في آثار حدوث المحدثات إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد المنزه عن التكثيرات والتغيرات.
والقول الخامس: أدخلني في كل ما تدخلني فيه مع الصدق في عبوديتك والاستغراق بمعرفتك وأخرجني عن كل ما تخرجني عنه مع الصدق في العبودية والمعرفة والمحبة والمقصود منه أن يكون صدق العبودية حاصلًا في كل دخول وخروج وحركة وسكون.
والقول السادس: أدخلني القبر مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق.
البحث الثاني:
مدخل بضم الميم مصدر كالإدخال يقال أدخلته مدخلًا كما قال: {وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلًا مُّبَارَكًا} [المؤمنون: 29] ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق مدحهما كأنه سأل الله تعالى إدخالًا حسنًا وإخراجًا حسنًا لا يرى فيهما ما يكره ثم قال تعالى: {واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا} أي حجة بينة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني.
وبالجملة فقد سأل الله تعالى أن يرزقه التقوية على من خالفه بالحجة وبالقهر والقدرة، وقد أجاب الله تعالى دعاءه وأعلمه بأنه يعصمه من الناس فقال: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] وقال: {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} [المجادلة: 22] وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} [التوبة: 33] ولما سأل الله النصرة بين الله له أنه أجاب دعاءه فقال: {وَقُلْ جَاء الحق} وهو دينه وشرعه {وَزَهَقَ الباطل} وهو كل ما سواه من الأديان والشرائع، وزهق بطل واضمحل، وأصله من زهقت نفسه تزهق أي هلكت، وعن ابن مسعود: «أنه دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل فجعل الصنم ينكب على وجهه».
وقوله: {إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} يعني أن الباطل وإن اتفقت له دولة وصولة إلا أنها الا تبقى بل تزول على أسرع الوجوه، والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}.
أما دلوك الشمس ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه غروبها، وأن الصلاة المأمور بها صلاة المغرب، ومنه قول ذي الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها ** نجومٌ ولا بالآفات الدوالك

قاله ابن مسعود وابن زيد، ورواه مجاهد عن ابن عباس، وهو مذهب أبي حنيفة.
الثاني: أنه زوالها، والصلاة المأمور بها صلاة الظهر، وهذا قول ابن عباس في رواية الشعبي عنه، وهو قول أبي بردة والحسن وقتادة ومجاهد، وهو مذهب الشافعي ومالك لرواية أبي بكر بن عمرو بن حزم عن ابن مسعود وعقبة بن عامر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر» وقال الشاعر:
هذا مُقام قَدَامي رباح ** ذَيّبَ حتى دَلَكت بَراح

وبراح اسم الشمس، والباء التي فيه من أصل الكلمة، وذهب بعض أهل العربية إلى أن الباء التي فيها باء الجر، واسم الشمس راح.
فمن جعل الدلوك اسمًا لغروبها فلأن الإنسان يدلك عينيه براحته لتبينها، ومن جعله اسمًا لزوالها فلأنه يدلك عينيه براحته لشدة شعاعها. وقيل إن أصل الدلوك في اللغة هو الميل، والشمس تميل عند زوالها وغروبها فلذلك انطلق على كل واحدٍ منهما.
وأما {غسق الليل} ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه ظهور ظلامه، قاله الفراء وابن عيسى، ومنه قول زهير:
ظَلَّت تَجُودُ يَدَاها وهِيَ لاَهِيَةٌ ** حتى إذا جَنَحَ الإِظْلاَمُ والغَسَقُ

الثاني: أنه دنوّ الليل وإقباله، وهوقول ابن عباس وقتادة. قال الشاعر:
إن هذا الليل قد غسقا

وفي الصلاة المأمور بها قولان:
أحدهما: أنها صلاة المغرب، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك.
الثاني: هي صلاة العشاء الآخرة، قاله أبو جعفر الطبري.
ثم قال {وقرآن الفَجْر إنّ قرآن الفجْر كان مشهودًا} في {قرآن} تأويلان:
أحدهما: أقم القراءة في صلاة الفجر، وهذا قول أبي جعفر الطبري.
الثاني: معناه صلاة الفجر، فسماها قرآنًا لتأكيد القراءة في الصلاة، وهذا قول أبي اسحاق الزجاج.
{إن قرآن الفجر كان مشهودًا} فيه قولان:
أحدهما: إن من الحكمة أن تشهده بالحضور إليه في المساجد، قاله ابن بحر.
الثاني: ان المراد به ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» وفي هذا دليل على أنها ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار.
قوله عز وجل: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} أما الهجود فمن أسماء الأضداد، وينطلق على النوم وعلى السهر، وشاهد انطلاقه على السهر قول الشاعر:
ألا زارت وأهْلُ مِنىً هُجُود ** ولَيْتَ خَيَالَهَا بِمِنىً يعُود

وشاهد انطلاقه على النوم قول الشاعر:
أَلا طَرَقَتْنَا والرِّفَاقُ هُجُود ** فَبَاتَتْ بِعُلاَّت النّوالِ تجود

أما التهجد فهو السهر، وفيه وجهان:
أحدهما: السهر بالتيقظ لما ينفي النوم، سواء كان قبل النوم أو بعده.
الثاني: أنه السهر بعد النوم، قاله الأسود بن علقمة.
وفي الكلام مضمر محذوف وتقديره: فتهجد بالقرآن وقيام الليل نافلة أي فضلًا وزيادة على الفرض.
وفي تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بأنها نافلة له ثلاثة أوجه:
أحدها: تخصيصًا له بالترغيب فيها والسبق إلى حيازة فضلها، اختصاصها بكرامته، قاله علي بن عيسى.
الثاني: لأنها فضيلة له، ولغيره كفارة، قاله مجاهد.
الثالث: لأنها عليه مكتوبة ولغيره مستحبة، قاله ابن عباس.
{عسى أن يبعثك ربُّك مقامًا محمودًا} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن المقام المحمود الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله حذيفة بن اليمان.
الثاني: أنه إجلاسه على عرشه يوم القيامة، قاله مجاهد.
الثالث: أنه إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة.
ويحتمل قولًا رابعًا: أن يكون المقام المحمود شهادته على أمته بما أجابوه من تصديق أو تكذيب، كما قال تعالى: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} [النساء: 41].
قوله عز وجل: {وقل ربِّ أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مُخرج صدق} فيه سبعة أقاويل:
أحدها: أن مدخل الصدق دخوله إلى المدينة حين هاجر إليها، ومخرج صدق بخروجه من مكة حين هاجر منها، قاله قتادة وابن زيد.
الثاني: أدخلني مدخل صدق إلى الجنة وأخرجني مخرج صدق من مكة إلى المدينة، قاله الحسن.
الثالث: أدخلني مدخل صدق فيما أرسلتني به من النبوة، وأخرجني منه بتبليغ الرسالة مخرج صدق، وهذا قول مجاهد.
الرابع: أدخلني في الإسلام مدخل صدق، وأخرجني من الدنيا مخرج صدق، قاله أبو صالح.
الخامس: أدخلني مكة مدخل صدق وأخرجني منها مخرج صدق آمنًا، قاله الضحاك.
السادس: أدخلني في قبري مدخل صدق، وأخرجني منه مخرج صدق، قاله ابن عباس.
السابع: أدخلني فيما أمرتني به من طاعتك مدخل صدق، وأخرجني مما نهيتني عنه من معاصيك مخرج صدق، قاله بعض المتأخرين.
والصدق ها هنا عبارة عن الصلاح وحسن العاقبة. {واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: يعني مُلكًا عزيزًا أقهر به العصاة، قاله قتادة.
الثاني: حجة بيّنة، قاله مجاهد.
الثالث: أن السلطة على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين بإقامة الحدود قاله الحسن.
ويحتمل رابعًا: أن يجمع له بين القلوب باللين وبين قهر الأبدان بالسيف.
قوله عز وجل: {وقُلْ جاء الحق وزهق الباطل} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن الحق هو القرآن، والباطل هو الشيطان، قاله قتادة.
الثاني: أن الحق عبادة الله تعالى والباطل عبادة الأصنام، قاله مقاتل بن سليمان.
الثالث: أن الحق الجهاد، والباطل الشرك، قاله ابن جريج. {إن الباطل كان زهوقًا} أي ذاهبًا هالكًا، قال الشاعر:
ولقدْ شفَى نفسي وأبْرأ سُقْمَهَا ** إِقدامُهُ قهْرًا له لَمْ يَزْهَق

وحكى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ورأى فيها التصاوير أمر بثوب فبُل بالماء وجعل يضرب به تلك التصاوير ويمحوها ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا}. اهـ.