فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ابن عطية: والمشهور أنهما شفاعتان فقط: العامة، وشفاعة في إخراج المذنبين من النار.
وهذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء.
وقال القاضي أبو الفضل عِياض: شفاعات نبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة خمس شفاعات: العامة.
والثانية في إدخال قوم الجنة دون حساب.
الثالثة في قوم من موحِّدِي أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفع فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ومَن شاء الله أن يشفع ويدخلون الجنة.
وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة الخوارج والمعتزلة، فمنعتها على أصولهم الفاسدة، وهي الاستحقاق العقلي المبنيّ على التحسين والتقبيح.
الرابعة فيمن دخل النار من المذنبين فيخرجون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم المؤمنين.
الخامسة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها، وهذه لا تنكرها المعتزلة ولا تنكر شفاعة الحشر الأوّل.
الخامسة: قال القاضي عِياض: وعرف بالنقل المستفيض سؤالُ السلف الصالح لشفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم ورغبتهم فيها، وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال: إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لا تكون إلا للمذنبين، فإنها قد تكون كما قدّمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات.
ثم كل عاقل معترف بالتقصير محتاج إلى العفو غير معتدٍّ بعمله مشفق أن يكون من الهالكين، ويلزم هذا القائل ألا يدعو بالمغفرة والرحمة؛ لأنها لأصحاب الذنوب أيضًا، وهذا كله خلاف ما عرف من دعاء السلف والخلف.
روى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا صلى الله عليه وسلم الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه حلّت له شفاعتي يوم القيامة».
القول الثاني أن المقام المحمود إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة.
قلت: وهذا القول لا تنافر بينه وبين الأوّل؛ فإنه يكون بيده لواء الحمد ويشفع.
روى الترمذي عن أبي سعيد الخُدْرِيّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبيّ يومئذ آدمَ فمن سواه إلا تحت لوائي» الحديث.
القول الثالث ما حكاه الطبري عن فرقة، منها مجاهد، أنها قالت: المقام المحمود هو أن يُجلس الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم معه على كرسيّه؛ وروت في ذلك حديثًا.
وعَضَد الطبريّ جواز ذلك بشططٍ من القول، وهو لا يخرج إلا على تلطُّف في المعنى، وفيه بُعْدٌ.
ولا يُنْكَر مع ذلك أن يروَى، والعلم يتأوّله.
وذكر النقاش عن أبي داود السِّجسْتَانيّ أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا مُتَّهَم، ما زال أهل العلم يتحدّثون بهذا، من أنكر جوازه على تأويله.
قال أبو عمر: ومجاهد وإن كان أحد الأئمة يتأوّل القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما هذا والثاني في تأويل قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضرةإلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22] قال: تنتظر الثواب؛ ليس من النظر.
قلت: ذكر هذا في باب ابن شهاب في حديث التنزيل.
وروي عن مجاهد أيضًا في هذه الآية قال: يُجلسه على العرش.
وهذا تأويل غير مستحيل؛ لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء كلَّها والعرشَ قائمًا بذاته، ثم خلق الأشياء من غير حاجة إليها، بل إظهارًا لقدرته وحكمته، وليُعرف وجوده وتوحيده وكمال قدرته وعلمه بكل أفعاله المحكمة، وخلق لنفسه عرشًا استوى عليه كما شاء من غير أن صار له مماسًا، أو كان العرش له مكانًا.
قيل: هو الآن على الصفة التي كان عليها من قبل أن يخلق المكان والزمان؛ فعلى هذا القول سواء في الجواز أقعد محمد على العرش أو على الأرض؛ لأن استواء الله تعالى على العرش ليس بمعنى الانتقال والزوال وتحويل الأحوال من القيام والقعود والحال التي تشغل العرش، بل هو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كَيْفٍ.
وليس إقعاده محمدًا على العرش موجبًا له صفة الربوبية أو مُخرجًا له عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله وتشريف له على خلقه.
وأما قوله في الإخبار: معه فهو بمنزلة قوله: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206]، {رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجنة} [التحريم: 11]، {وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} [العنكبوت: 69] ونحو ذلك.
كل ذلك عائد إلى الرتبة والمنزلة والحُظْوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان.
الرابع: إخراجه من النار بشفاعته من يخرج؛ قاله جابر بن عبد الله.
ذكره مسلم.
وقد ذكرناه في كتاب التذكرة والله الموفق.
السادسة: اختلف العلماء في كون القيام بالليل سببًا للمقام المحمود على قولين: أحدهما أن البارىء تعالى يجعل ما شاء من فعله سببًا لفضله من غير معرفة بوجه الحكمة فيه، أو بمعرفة وجه الحكمة.
الثاني أن قيام الليل فيه الخلوة مع الباريء والمناجاة دون الناس، فأعطى الخلوة به ومناجاته في قيامه وهو المقام المحمود.
ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم، فأجلّهم فيه درجة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يُعْطي ما لا يُعطى أحد ويشفع ما لا يشفع أحد.
و{عسى} من الله عز وجل واجبة.
و{مقامًا} نصب على الظرف.
أي في مقام أو إلى مقام.
وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي».
فالمقام الموضع الذي يقوم فيه الإنسان للأمور الجليلة كالمقامات بين يدي الملوك.
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)} قيل: المعنى أمتني إماتة صدق، وابعثني يوم القيامة مبعث صدق؛ ليتصل بقوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}.
كأنه لما وعده ذلك أمره أن يدعو ليُنْجِز له الوعد.
وقيل: أدخلني في المأمور وأخرجني من المنهِيّ.
وقيل: علّمه ما يدعو به في صلاته وغيرها من إخراجه من بين المشركين وإدخاله موضع الأمن؛ فأخرجه من مكة وصيره إلى المدينة.
وهذا المعنى رواه الترمذي عن ابن عباس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت {وقل رب أدخلني مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخرجني مُخْرَج صِدقٍ واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا} قال: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الضحاك: هو خروجه من مكة ودخوله مكة يوم الفتح آمنًا.
أبو سهل: حين رجع من تبُوك وقد قال المنافقون: {لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8] يعني إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة.
وقيل: المعنى أدخلني في الأمر الذي أكرمتني به من النبوّة مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق إذا أمَتَّنِي؛ قال معناه مجاهد.
والمدخل والمخرج بضم الميم بمعنى الإدخال والإخراج؛ كقوله: {أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا} [المؤمنون: 29] أي إنزالًا لا أرى فيه ما أكره، وهي قراءة العامة.
وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم: {مَدخل} و{مخرج} بفتح الميمين بمعنى الدخول والخروج؛ فالأوّل رباعي وهذا ثلاثي. وقال ابن عباس: أدخلني القبر مدخل صدق عند الموت وأخرجني مخرج صدق عند البعث.
وقيل: أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق؛ أي لا تجعلني ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه؛ فإن ذا الوجهين لا يكون وجيهًا عندك.
وقيل: الآية عامة في كل ما يُتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال، ويُنتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة.
فهي دعاء، ومعناه: رب أصلح لي وِرْدي وصدري في كل الأمور.
وقوله: {واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} قال الشعبيّ وعكرمة: أي حجة ثابتة.
وذهب الحسن إلى أنه العز والنصر وإظهار دينه على الدين كله.
قال: فوعده الله لَيَنْزِعنّ مُلك فارس والروم وغيرها فيجعله له.
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: روى البخاريّ والترمذيّ عن ابن مسعود قال: «دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح وحول الكعبة ثلثمائة وستون نُصُبًا، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يطعنها بمِخصرة في يده وربما قال بعود ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا} {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}» لفظ الترمذيّ وقال: هذا حديث حسن صحيح وكذا في حديث مسلم «نُصُبًا» وفي رواية «صنمًا».
قال علماؤنا: إنما كانت بهذا العدد لأنهم كانوا يعظِّمون في يوم صنمًا ويخصون أعظمها بيومين.
وقوله: فجعل يطعنها بعود في يده يقال: إنها كانت مثبتة بالرَّصاص وأنه كلما طعن منها صنمًا في وجهه خرّ لقفاه، أو في قفاه خرّ لوجهه.
وكان يقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا} حكاه أبو عمر والقاضي عِياض.
وقال القشيريّ: فما بقي منها صنم إلا خرّ لوجهه، ثم أَمَر بها فكسرت.
الثانية: في هذه الآية دليل على كسر نُصب المشركين وجميع الأوثان إذ غُلب عليهم، ويدخل بالمعنى كسر آلة الباطل كله، وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى.
قال ابن المنذر: وفي معنى الأصنام الصُّوَرُ المتَّخَذة من المَدَر والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهيّ عنه.
ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص، إذا غُيِّرت عما هي عليه وصارت نُقرًا أو قطعًا فيجوز بيعها والشِّراء بها.
قال المهلّب: وما كسر من آلات الباطل وكان في حبسها بعد كسرها منفعةٌ فصاحبها أوْلَى بها مكسورة إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشديد والعقوبة في المال.
وقد تقدّم حرق ابن عمر رضي الله عنه.
وقد همّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بتحريق دور من تخلف عن صلاة الجماعة.
وهذا أصل في العقوبة في المال مع قوله عليه السلام في الناقة التي لعنتها صاحبتها: «دعوها فإنها ملعونة» فأزال ملكها عنها تأديبًا لصاحبتها، وعقوبة لها فيما دعت عليه بما دعت به.
وقد أراق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لَبَنًا شِيب بماء على صاحبه.
الثالثة: ما ذكرنا من تفسير الآية ينظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «والله لينزلنّ عيسى ابن مريم حكمًا عادلًا فَلَيَكْسِرَنّ الصليب وَلَيَقْتُلَنّ الخنزير وَلَيَضَعنّ الجِزْية وَلَتُتْركَن القِلاصُ فلا يُسعى عليها» الحديث خرجه الصحيحان.
ومن هذا الباب هتك النبيّ صلى الله عليه وسلم الستر الذي فيه الصور، وذلك أيضًا دليل على إفساد الصور وآلات الملاهي كما ذكرنا.
وهذا كله يحظر المنع من اتخاذها ويوجب التغيير على صاحبها.
إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم؛ وحسبك! وسيأتي هذا المعنى في النمل إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَقُلْ جَآءَ الحق} أي الإسلام.
وقيل: القرآن؛ قاله مجاهد.
وقيل: الجهاد.
{وَزَهَقَ الباطل} قيل: الشرك.
وقيل: الشيطان؛ قاله مجاهد.
والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة، فيكون التفسير جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه.
{وزهق الباطل}: بطل الباطل.
ومن هذا زهوق النفس وهو بطلانها.
يقال: زَهقت نفسه تَزَهق زهوقًا، وأزهقتها.
{إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} أي لا بقاء له، والحق الذي يثبت. اهـ.

.قال أبو حيان:

{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا}
وانتصب {سنة} على المصدر المؤكد أي سنّ الله سنة، والمعنى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن يهلكهم بعد إخراجه ويستأصلهم ولا يقيمون بعده إلاّ قليلًا.