فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما جمعهم في الخبر الأول فصلهم في هذه الآية، وبين قول كل فريق منهم في الآخر، وكيف ينكر كل طائفة دين الأخرى. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {لَيْسَتِ النصارى على شيء}:

.قال الفخر:

قوله: {لَيْسَتِ النصارى على شَئ} أي على شيء يصح ويعتد به وهذه مبالغة عظيمة وهو كقولهم: أقل من لا شيء، ونظيره قوله تعالى: {قُلْ يا أهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيء حتى تُقِيمُواْ التوراة} [المائدة: 68]، فإن قيل: كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانا يثبتان الصانع وصفاته سبحانه وتعالى، وذلك قول فيه فائدة؟
قلنا: الجواب من وجهين:
الأول: أنهم لما ضموا إلى ذلك القول الحسن قولًا باطلًا يحبط ثواب الأول، فكأنهم ما أتوا بذلك الحق.
الثاني: أن يخص هذا العام بالأمور التي اختلفوا فيه، وهي ما يتصل بباب النبوات. اهـ.

.فصل في قصة وفد نجران مع اليهود:

قال الفخر:
روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل، وقالت النصارى لهم: نحوه وكفروا بموسى عليه السلام والتوراة. اهـ.

.فصل في بيان النصارى المقصودين في الآية:

قال الفخر:
اختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله تعالى أهم الذين كانوا من بعثة عيسى عليه السلام أو في زمن محمد عليه السلام، والظاهر الحق أنه لا دليل في الظاهر عليه وإن كان الأولى أن يحمل على كل اليهود وكل النصارى بعد بعثة عيسى عليه السلام، ولا يجب لما نقل في سبب الآية أن يهوديا خاطب النصارى بذلك فأنزل الله هذه الآية أن لا يراد بالآية سواه، إذا أمكن حمله على ظاهره وقوله: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَئ} يفيد العموم فما الوجه في حمله على التخصيص ومعلوم من طريقة اليهود والنصارى أنهم منذ كانوا فهذا قول كل فريق منهما في الآخر. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب كذلك قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ}:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} فالواو للحال، والكتاب للجنس.
أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلوم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني شاهد لصحته، فإن التوراة مصدقة بعيسى عليه السلام، والإنجيل مصدق بموسى عليه السلام.
أما قوله تعالى: {كذلك قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} فإنه يقتضي أن من تقدم ذكره يجب أن يكون عالمًا لكي يصح هذا الفرق، فبين تعالى أنهم مع المعرفة والتلاوة إذا كانوا يختلفون هذا الاختلاف فكيف حال من لايعلم، واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن كل طائفة تكفر الأخرى مع اتفاقهم على تلاوة القرآن، ثم اختلفوا فيمن هم الذين لا يعلمون على وجوه.
أولها: أنهم كفار العرب الذين قالوا: إن المسلمين ليسوا على شيء فبين تعالى أنه إذا كان قول اليهود والنصارى وهم يقرأون الكتب لا ينبغي أن يقبل ويلتفت إليه فقول كفار العرب أولى أن لا يلتفت إليه.
وثانيها: أنه إذا حملنا قوله: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَئ} على الذين كانوا حاضرين في زمان محمد صلى الله عليه وسلم، حملنا قوله: {كذلك قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} على المعاندين وعكسه أيضًا محتمل.
وثالثها: أن يحمل قوله: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَئ} على علمائهم ويحمل قوله: {كذلك قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} على عوامهم فصلا بين خواصهم وعوامهم، والأول أقرب: لأن كل اليهود والنصارى دخلوا في الآية فمن ميز عنهم بقوله: {كذلك قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} يجب أن يكون غيرهم.
أما قوله تعالى: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ففيه أربعة أوجه.
أحدها: قال الحسن: يكذبهم جميعًا ويدخلهم النار.
وثانيها: حكم الانتصاف من الظالم المكذب للمظلوم المكذب.
وثالثها: يريهم من يدخل الجنة عيانًا ومن يدخل النار عيانًا، وهو قول الزجاج.
ورابعها: يحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه، والله أعلم. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}.
التفسير:
هذا نوع آخر من مكايد اليهود.
روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرًا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم، ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلًا. فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد. قال: فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت. فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ. وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت بالله ربًا وبمحمد نبيًا وبالإسلام دينًا وبالقرآن إمامًا وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانًا. ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال: أصبتما خيرًا وأفلحتما فنزلت. و{كفارًا} نصب على الحال، أو مفعول ثانٍ ل {يردون} على أنه بمعنى صير والحسد من أقبح الخصال الذميمة قال صلى الله عليه وسلم: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» وقال: «إن لنعم الله أعداء» قيل: وما أولئك؟ قال: «الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله» وقال: «ستة يدخلون النار قبل الحساب: الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهاقين بالتكبر، والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهالة، والعلماء بالحسد» وروي أن موسى لما ذهب إلى ربه رأى في ظل العرش رجلًا يغتبط بمكانه فقال: «إن هذا لكريم على ربه، فسأل ربه أن يخبره باسمه فلم يخبره باسمه وقال: أحدثك من عمله ثلاثًا: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، وكان لا يعق والديه، ولا يمشي بالنميمة».
ويحكى أن عبد الله بن عون دخل على الفضل بن المهلب، وكان يومئذ على واسط فقال: إني أريد أن أعظك بشيء: إياك والكبر فإنه أول ذنب عصى الله به إبليس ثم قرأ {فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر} [البقرة: 34] وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، أمكنه الله من جنة عرضها السموات والأرض فأكل منها فأخرجه الله ثم تلا {اهبطا منها} [طه: 123] وإياك والحسد فإنه قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق} [المائدة: 27] وقال ابن الزبير: ما حسدت أحدًا على شيء من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة، وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟ واعلم أنه إذا أنعم الله على أخيك بنعمة فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد المحرم الذي ذم الله تعالى صاحبه في هذه الآية وغيرها {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} [النساء: 54] {إن تمسسكم حسنة تسؤهم} [آل عمران: 120] {ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا} [يوسف: 8] وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة والمنافسة المشتقة من النفاسة وليست بحرام لقوله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26] {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} [الحديد: 21] وقال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا وأنفقه في سبيل الله، ورجل آتاه الله علمًا فهو يعمل به ويعلم الناس» وهذا يدل على أن الحسد قد يطلق على المنافسة، وقد تكون واجبة إذا كانت النعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة، وقد تكون مندوبة في نحو الإنفاق في سبيل الله وتشهي العلم والتعليم، وقد تكون مباحة. وللحسد مراتب أربع: الأولى، أن يحب زوال النعمة عنه وإن لم تحصل له وهذه أخبث. الثانية: أن يحب زوالها عنه إليه كرغبته في داره الحسنة أو امرأته أو ولايته فالمطلوب بالذات حصولها له، فأما زوالها عن غيره فمطلوب بالعرض. الثالثة: أن لا يشتهي زوالها بل يشتهي لنفسه مثلها، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلا يظهر التفاوت بينهما. الرابعة: يشتهي لنفسه مثلها فإن لم يحصل فلا يحب زوالها عنه. وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا، والمندوب إليه إن كان في الدين، والثالثة منها مذموم وغير مذموم، والثانية أخف والأولى أخبث قال تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} [النساء: 32] تمنيه لمثل ذلك غير مذموم وتمنيه لعين ذلك مذموم. وأسباب الحسد سبعة: أولها العداوة والبغضاء، فإن من آذاه إنسان أبغضه قلبه وغضب عليه وتولد منه الحقد المنشئ للتشفي والانتقام، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى منه بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان كما قال عز من قائل: {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها} [آل عمران: 120]. وربما أفضى هذا الحسد إلى التنازع والتقاتل، وثانيها التعزز فإن واحدًا من أمثاله إذا نال منصبًا عاليًا فترفع عليه وهو لا يمكنه تحمل ذلك، أراد زوال ذلك المنصب عنه. وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد رضي بمساواته. وثالثها: أن يكون في طبعه أن يستخدم غيره فيريد زوال النعمة من ذلك الغير ليقدر على ذلك الغرض {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] {أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا} [الأنعام: 53] كالاستحقار لهم والأنفة منهم. ورابعها: التعجب {أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم} [الأعراف: 63] وخامسها: الخوف من فوت المقاصد وذلك يتحقق من المتزاحمين على مقصود واحد، كتحاسد الضرائر في التزاحم على مقاصد الزوجية، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة عند الأبوين، وتحاسد الوعاظ المتزاحمين على أهل بلدة. وسادسها: حب الرياسة كمن يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته، فإن الكمال محبوب لذاته وضد المحبوب مكروه. ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال لكن هذا يمتنع حصوله إلا لله تعالى، ومن طمع في المحال خاب وخسر. وسابعها: شح النفس بالخير على عباد الله، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة ولا تكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك، وإذا وصف اضطراب أمور الناس وإدبارهم فرح به، فهو أبدًا يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه، وهذا ليس له سبب ظاهر سوى خبث النفس كما قيل: البخيل من بخل بمال غيره. وقد يجتمع بعض هذه الأسباب فيعظم الحسد ويتقوى بحسبه، وقلما يقع التحاسد إلا في الأمور الدنيوية، لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين. وأما الآخرة فلا ضيق فيها فلهذا لا يكون تحاسد بين أرباب الدين وأصحاب اليقين، وإنما يكونون بلقاء إخوانهم مستأنسين وببقاء أقرانهم فرحين {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين} [الحجر: 47] وأما علاج الحسد فأمران: العلم والعمل. أما العلم ففيه مقامان: إجمالي وهو أن يعلم أن الكل بقضاء الله وقدره، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يرده كراهية كاره ولا يجره إرادة مريد. وتفصيلي وهو العلم بأن الحسد قذى في عين الإيمان حيث كره حكم الله وقسمته في عباده وغش للإخوان، وعذاب أليم، وحزن مقيم، ومورث للوسواس، ومكدر للحواس. ولا ضرر على المحسود في دنياه لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، ولا في دينه بل ينتفع به لأنه مظلوم من جهتك فيثيبه الله على ذلك. وقد ينتفع في دنياه أيضًا من جهة أنك عدوه، ولا يزال يزيد غمومك وأحزانك إلى أن يقضي بك إلى الدنف والتلف.
اصبر على مضض الحسو ** د فإن صبرك قائله

النار تأكل نفسها ** إن لم تجد ما تأكله

وقد يستدل بحسد الحاسد على كونه مخصوصًا من الله تعالى بمزيد الفضائل.
لا مات أعداؤك بل خلدوا ** حتى يروا منك الذي يكمد

لا زلت محسودًا على نعمة ** فإنما الكامل من يحسد

والحاسد مذموم بين الخلق، ملعون عند الخالق، مشكور عند إبليس وأصدقائه، مدحور عند الخالق وأوليائه، فهل هو إلا كمن رمى حجرًا إلى عدو ليصيب به مقتله فلا يصيبه بل يرجع على حدقته اليمنى فيقلعها، فيزداد غضبه فيعود ثانيًا فيرميه أشد من الأول فيرجع على عينه الأخرى فيعميه فيزداد غيظه، فيعود ثالثًا فيرجع على رأسه فيشدخه، وعدوه سالم في كل الأحوال وقد عاد عليه الوبال وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون؟ هذا له في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى. وأما العمل فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد، فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له، وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له، وإن حمله على قطع أسباب الخير سعى في إيصال الخير إليه حتى يصير المحسود محبوبًا محبًا له، {فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصلت: 34]، وذلك التكلف يصير بالآخرة طبعًا والله الموفق. واعلم أن النفرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه، فكيف يعاقب عليه؟ وإنما الاخل تحت التكليف رضاه بتلك النفرة ثم إظهار آثارها من القدح فيه والقصد إلى إزالة النعمة عنه وجر أسباب المحنة إليه، ثم إن اليهود كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعدما تبين لهم أن الإيمان صواب وحق، فألقوا إليهم ضربين من الشبهة لعلمهم أن المحق لا يعدل عن الحق إلا بالشبهة أحدهما ما يتصل بالدنيا وهو قولهم لهم قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم وذهباب أموالكم واستمرار الخوف عليكم، فاتركوا إيمانكم الذي ساقكم إلى هذه. الثاني في باب الدين بالقدح في المعجزات وتحريف التوراة.
قوله: {من عند أنفسهم} إما أن يتعلق ب {ود} أي تمنوا ذلك من قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق، لأنهم ودوا ذلك من بعدما تبين لهم أنكم على الحق، وإما أن يتعلق ب {حسدًا} أي منبعثًا من أصل نفوسهم {فاعفوا واصفحوا} فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح بترك المقابلة والإعراض عن الجواب، لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة لا دائمًا بل {حتى يأتي الله بأمره} عن الحسن أنه المجازاة يوم القيامة، وقيل قوة الإسلام وكثرة المسلمين، والأكثرون على أنه الأمر بالقتال فعنده يتعين إما الإسلام وإما قبول الجزية، وتحمل الذل والصغار. والآية منسوخة لأن الآية التي علق بها غير معلومة شرعًا فليس كقوله: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] بل يحل محل قوله: {فاعفوا واصفحوا} إلى أن أنسخه عنكم. عن الباقر عليه السلام: إنه لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال حتى نزل جبريل بقوله: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا} [الحج: 39] وقلده سيفًا فكان أول قتال قتال أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر.
فإن قيل: كيف يعفون ويصفحون والكفار حينئذ أصحاب قوة وشوكة، والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟
قلنا: إن الرجل من المسلمين كان ينال الأذى فيقدر على بعض التشفي والإستعانة بسائر أصحابه، فأمروا أن لا يهيجوا قتالًا وفتنة. وأيضًا القليل منهم كان يقاوم الكثير من المشركين {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65] وأيضًا جعل الصابر إلى القوة قويًا ليظهره على الدين كله. وقيل: المراد بالعفو والصفح حسن الاستدعاء واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشفاق وترك التشدد، وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة. وكذا لو قيل: المراد بأمر الله قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم {إن الله على كل شيء قدير} فهو يقدر على الانتقام منهم {وأقيموا الصلاة} تنبيه على أنه كما يلزمهم لحظ حال غيرهم بالعفو والصفح، كذلك يلزمهم لحظ أنفسهم بأداء الواجبات من خير من حسنة صلوات أو صدقة فريضة أو تطوع، فعمم بعدما خص تنبيهًا على أن الثواب لا يختص بالواجبات بل بها وبغيرها من الطاعات، ولابد من إضمار أي تحدوا ثوابه، لأن وجدان عين تلك الأشياء غير مطلوب {إن الله بما تعملون بصير} لا يخفى عليه شيء من الأعمال وفيه ترغيب للمحسن وترهيب للمسيء {وقالوا لن يدخل الجنة} نوع آخر من تخليط أهل الكتاب اليهود والنصارى والضمير في {وقالوا} لهم والمعنى وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا وقالت النصارى لن يدخلها إلا من كان نصارى، فضم بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق ما قاله لما علم من تكفير كل واحد منهما صاحبه ومثله {وقالوا كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا} [البقرة: 135] والهود جمعم هائد كبازل وبزل وعائذ وعوذ، والعائذ الحديثة النتاج من النوق، والبازل الذي خرج نابه، ووحد اسم كان حملًا على لفظ من وجمع خبره حملًا على المعنى ومثله {فلا أجره عند ربه ولا خوف عليهم} [البقرة: 112] {تلك أمانيهم} على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم، يريد أن أمانيهم جميعًا في البطلان مثل هذه وهي قولهم: {لن يدخل الجنة} أو أشير بتلك إلى أن ودادتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم أمنية، وودادتهم أن يردوهم كفارًا أمنية، وقولهم: {لن يدخل الجنة} أمنية أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم، وقوله: {قل هاتوا برهانكم} متصل بقوله: {لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى} و{تلك أمانيهم} اعتراض على هذا. وهات الشيء اسم فعل معناه أعط، ويتصرف فيه بحسب المأمور هات، هاتيا، هاتوا، هاتي، هاتين، وقيل: الصحيح أنه ليس باسم فعل وإنما الهاء فيه مبدلة من الهمزة، وأصله آت من الإيتاء.
برهانكم حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة {إن كنتم صادقين} في دعواكم، وفيه دليل واضح على أن المدعي نفيًا أو إثباتًا لا بدل له من برهان وإلا فدعواه باطلة.
من ادعى شيئًا بلا شاهد ** لابد أن تبطل دعواه

{بلى} إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة، وقوله: {من أسلم} إلى آخره جملة شرطية مستأنفة، ويجوز أن يكون {من أسلم} فاعلًا لفعل محذوف أي بلى يدخلها من أسلم ويكون قوله: {فله أجره} كلامًا معطوفًا على يدخلها {من أسلم} وفيه إشارة إلى أن لهؤلاء الداخلين برهانًا وهو استسلام النفس وانقيادها لطاعة الله مع الإحسان وفيه ترغيب لهم في الإسلام وبيان لمفارقة حالهم حال من يدخل الجنة كأنه قيل لهم: أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه معدن الحواس وينبوع الفكر والتخييل، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى، ولأن الوجه قد يكنى به عن النفس والذات {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88] {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} [الليل: 20] ولأن أعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه. وهذا الإسلام أخص من الإسلام الذي ورد في الحديث: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا» لأن هذا عبارة عن الإذعان الكلي بجميع القوى والجوارح في كل الأحوال والأوقات، وهو الإسلام الذي أمر به إبراهيم عليه السلام {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] ويؤكد ذلك قوله: {لله} أي خالصًا له لا يشوبه شرك فلا يكون عابدًا مع الله غيره ولا معلقًا رجاءه بغيره، وزاد التأكيد بقوله: {وهو محسن} أي حال كونه محسنًا في عمله، ومعنى الإحسان هو الذي في الحديث: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ولا ريب أن العبادة على هذا الوجه لا تصدر إلا عن صدق النية وصفاء الطوية، فإن مثول العبد بين يدي مولاه يشغله عن الالتفات إلى ما سواه، فلا يقع قصده فيما هو فيه إلا لوجه الله فلا يصدر عنه شيء من السيئات، وأما الطاعات والمباحات فتكون مقتضية لتزايد الحسنات ورفع الدرجات في الخبر «من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة» وذلك أن المتطيب إن كان قصده التنعم واستيفاء اللذات أو التودد إلى النسوان كان المتطيب معصية، وإن كان قصده إقامة السنة ودفع الروائح المؤذية عن عباد الله وتعظيم المسجد فهو عين الطاعة، وكذا الكلام في المناكح والمطاعم والمشارب.
والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو العمل الحق، وكل ما عملته لغير الله فحلالها حساب وحرامها عذاب، روي أن رجلًا في بني إسرائيل مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه: لو كان هذا الرمل طعامًا لقسمته بين الناس. فأوحى الله تعالى إلى نبيه قل له: إن الله قد صدقك وشكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعامًا فتصدقت به. وليس النية أن يقول في نفسه أو بلسانه عند تدريسه أو تجارته نويت أن أدرس لله أو أتجر لله هيهات أنها لحديث نفس أو لسان وما ذاك إلا كقول الفارغ نويت أن أعشق وأما النية فهي انبعاث النفس وميلها إلى سلوك طريق الحق في كل فعل، فاجتهد في تصيير ذلك ملكة لنفسك.
وللناس فميا يعشقون مذاهب

فمنهم من يعمل لباعث الخوف من النار فله ذلك، ومنهم من يعمل لباعث الطمع في الجنة وهم أكثر أهل الجنة لقصور هممهم عن طموح ما فوقها من الكمالات واللذات الحقيقيات أكثر أهل الجنة البله.
ومنهم من يعمل لله فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولما جمع الله تعالى أهل الكتابين في الآية المتقدمة، فصل بينهما وبين قول كل فريق في حق الآخر، والظاهر حمل لفظي اليهود والنصارى على العموم وإن كان السبب خاصًا لأن هذا اعتقاد كل واحد من كل من الطائفتين في حق الأخرى.
روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والإنجيل. وقالت النصارى لهم نحوه، وكفروا بموسى والتوراة. ومعنى {على شيء} أي شيء يصح ويعتد به، وفيه مبالغة عظيمة كقول العرب أقل من لا شيء عن ابن عباس: والله صدقوا. قلت: وذلك أن الإيمان بالله إنما يعتد به إذا كان مؤمنًا برسوله وبكل ما أنزله {وهم يتلون الكتاب} الواو للحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله أن يؤمن بالباقي ولا يكفر به، لأن جميع الكتب السماوية متواردة في تصديق بعضها بعضًا {كذلك} الكاف للتشبيه و{ذلك} إشارة إلى المذكور أي قولًا مثل الذي سمعت به {قال الذين لا يعلمون} و{مثل قولهم} مكرر للتأكيد ولطول الكلام بالموصول والصلة. والمراد بالذين لا يعلمون الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام القائلين إن المسلمين ليسوا على شيء وفيه توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم فقالوا قولًا عن التشهي والعصبية مثلهم {فالله يحكم بينهم} أي بين اليهود والنصارى يوم القيامة. عن الحسن: يكذبهم جميعًا ويدخلهم النار ويجوز أن يرجع الضمير إلى الكافرين الذين يعلمون والذين لا يعلمون وإلى المسلمين، ويحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه، فينتصر من الظالم المكذب للمظلوم المكذب، أو يريهم من يدخل الجنة عيانًا ويدخل النار عيانًا أعاذنا الله تعالى منها. اهـ.