فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}.
يُوضِّح الحق تبارك وتعالى أن ما حدث هو سُنة من سُنن الله في الرسل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173]
فكأن عليهم أنْ يأخذوا عِبْرة من الرسل السابقين، وبما حلَّ بأعدائهم من عذاب الله، لقد أرسل الله الرسل فكُذِّبوا وعُودوا واضطهِدُوا، ومع ذلك نصرهم الله، وجعل لهم الغَلبة.
والسُّنة: هي العادة والطريقة التي لا تتخلَّف ولا تتبدَّل؛ لذلك يقول بعدها: {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77]؛ لأن السُّنة لا تتحوّل ولا تتبدّل إلا بالأقوى الذي يأتي ليُغير السنة بأخرى من عنده، فإذا كانت السُّنة من الله القوي بل الأقوى، فهو سبحانه وحده الذي يملك هذا التحويل، ولا يستطيع أحد أبدًا تحويل سنة الله، فإذا قال سبحانه، فقوله الحق الذي لا يُبدِّله أحد، ولا يُعارضه أحد.
وبعد أن تكلَّم الحق سبحانه عن الإلهيات إيمانًا بها، وعن النبوات تصديقًا لها، وعن القيامة ووجوب الإيمان بها وبما يحدث فيها من تناول الكتب، أراد سبحانه أنْ يأتي لنا بثمرة هذا المنهج وحصيلته النهائية، وهي أنْ يستقيمَ لنا منهج الحياة وتنضبط حركتنا فيها.
هذا المنهج الإلهي جاء في صورة أحكام، ولهذه الأحكام أركان أساسية جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «بُنِيَ الإسلامُ على خَمْس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا».
إذن: هذه الأركان التي بُنِي عليها الإسلام، لكن ما حظ المسلم من هذه الأركان؟ لو تأملت لوجدتنَا نشترك كلنا في شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وفي الصلاة لأنها لا تسقط عن أحد لأيّ سبب، وهي المكرَّرة في اليوم خمس مرات.
أما باقي الأركان وهي: الزكاة، والصوم، والحج فقد لا تنطبق شروطها على الجميع، فالفقير لا تُفرض عليه زكاة أو حج، والمريض لا يُفرض عليه الصوم. إذن: عندنا أركان للإسلام وأركان للمسلم التي هي: الشهادتان والصلاة، وقد يدخل فيها الزكاة أو الصوم أو الحج، فإذا أتى المسلم بجميع الأركان فقد اتفقتْ أركان الإسلام مع أركان المسلم.
وتلاحظ في هذه الأركان أن الشهادتين يكفي أن تقولهما وتشهد بهما ولو مرة واحدة، والزكاة والصوم والحج قد لا تنطبق عليك شروطها، فلم يَبْقَ إلا الصلاة؛ لذلك جعلها عماد الدين.
ثم قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الّليلِ...}.
فالصلاة هي الفريضة الثابتة المتكررة التي لا تسقط عن المسلم بأي حال، وفيها إعلانُ ولاء للإيمان بالله كل يوم خمس مرات، وهي أيضًا تنتظم كل أركان الإسلام؛ لأنك في الصلاة تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فبدل أنْ كنتَ تقولها مرة واحدة هاأنت تقولها عدة مرات في كل صلاة، وهذا هو الركن الأول.
كما أنها تشتمل على الصوم؛ لأنك تصوم في أثناء الصلاة فتمتنع عن شهوتَيْ البطن والفرج، وكذلك عن أيِّ فعل غير أفعال الصلاة، وعن الكلام في غير ألفاظ الصلاة. إذن: في الصلاة صيام بالمعنى الأوسع للصوم.
وفي الصلاة زكاة؛ لأن المال الذي تكتسبه وتُزكِّيه ناتج عن الحركة، والحركة فرع الوقت، وفي الصلاة تُضحّي بالوقت نفسه، فكأن الزكاة في الصلاة أبلغ.
وكذلك في الصلاة حج؛ لأنك تتوجّه فيها إلى كعبة الله، وتستحضرها في ذِهْنك وأمام ناظريْكَ.
لذلك استحقت الصلاة أن تكون عماد الدين، ومَنْ أقامها فقد أقام الدين، ومَنْ هدمها فقد هدم الدين، ومن هنا جاءت الصلاة في أول هذه الأحكام، فقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ..} [الإسراء: 78] أي: أدِّها أداءً كاملًا في أوقاتها.
والصلاة لها مَيْزة عن كل أركان الإسلام؛ لأن كل تكليفات الإسلام جاءت بواسطة الوحي لرسول الله إلا الصلاة، فقد فُرِضَتْ بالمباشرة مما يدلُّ على أهميتها، وقد مثَّلنَا لذلك- ولله المثل الأعلى- بالرئيس الذي يتصل بمرؤوسه تليفونيًا ليأمره بشيء، فإذا كان هذا الشيء من الأهمية بمكان استدعاه إليه وأفهمه ما يريد.
وهكذا كانت الصلاة، فقد فُرِضَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته بالمباشرة لما لها من أهمية بين فراض الدين، ثم تولى جبريل عليه السلام تعليم رسول الله الصلاة، وعَلَّمها رسول الله للناس، وقال: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي».
وقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ..} [الإسراء: 78] الحق سبحانه يريد أن يُبيِّن لنا مواقيت الصلاة. والدلوك معناه: الزوال من حركة إلى حركة، ومنها قولنا: فلان المدلكاتي أي: الذي يتولّى عملية التدليك، وتتحرك يده من مكان لمكان.
والمراد بدلوك الشمس: مَيْلها عن وسط السماء إلى ناحية الغرب، والإنسان يرى الأفق الواسع إذا نظر إلى السماء، فيراها على شكل قوس ممتدّ وعلى حَسْب نظره وقوته يرى الأفق، فإنْ كان نظره قويًا رأى الأُفُقْ واسعًا، وإنْ كان نظره ضعيفًا رأى الأفق ضيّقًا؛ لذلك يقولون لقيل التفكير: ضيِّق الأفق.
وأنت حين تقف في مكانك وتنظر إلى السماء تراها على شكل نصف دائرة، وأنت مركزها، وساعةَ أنْ ترى الشمس عمودية عليك، فهذا وقت الزوال، فإذا ما انحرفتْ الشمس ناحية المغرب يُقَال: دلكت الشمس. أي: مالت ناحية المغرب، وهذا هو وقت الظهر.
والمتأمل في فَرْض الصلاة على رسول الله يجد أن الظُّهْر هو أول وقت صَلاَّه رسول الله؛ لأن الصلاة فُرِضَتْ عليه في السماء في رحلة المعراج، وكانت بليل، فلما عاد صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الظهر، فكانت هي الصلاة الأولى.
ثم يقول تعالى: {إِلَى غَسَقِ الَّيلِ..} [الإسراء: 78] أي: أقِم الصلاة عند دُلوك الشمس إلى متى؟ إلى غَسَق الليل أي: ظلمته، وفي الفترة من دُلوك الشمس إلى ظُلمة الليل تقع صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولا يبقى إلى صلاة الصبح، فقال عنها سبحانه وتعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] ونتساءل هنا: لماذا ذكر قرآن الفجر ولم يَقُلْ صلاة؟
قالوا: لأن القرآن في هذا الوقت حيث سكون الكون وصفاء النفوس، فتتلقى القرآن نديًّا طريًّا وتستقبله استقبالًا واعيًا قبل أن تنشغل بأمور الحياة {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] أي: تشهده الملائكة. إذن: المشهودية لها دَخْل في العبادة، فإذا كانت مشهودية مَنْ لا تكليف عليه في الصلاة جعلها الله حيثية، فكيف بمشهودية مَنْ كُلِّف بالصلاة؟
والحق سبحانه وتعالى جعل في صلاة الجماعة استطراقًا للعبودية، ففي صلاة الجماعة يستوي كل الخَلْق حيث يخلعون وجاهتهم، ويخلعون أقدارهم على أبواب المسجد، كما يخلعون أحذيتهم، فالرئيس بجانب المرؤوس والوزير بجانب الخفير.
لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُوطِّن الإنسان لنفسه مكانًا في المسجد، يجلس فيه باستمرار؛ لأن الأصل أنْ يجلس المصلي حيث ينتهي به المجلس، فيجلس الناس بأولوية الحضور كل حَسْب مكانه ومبادرته للصلاة، فلا يتخطى الرقاب، ولا يُفرق بين اثنين.
ونرى بعض المصلين يسارع إلى الصفِّ الأول مثلًا، ويضع سجادته ليحجزَ بها مكانًا، ثم ينصرف لحَاجته، فإذا ما تأخر عن الصلاة أتى ليتخطّى رقاب الناس ليصل إلى مكانه، فإذا بالناس يضيِقون من هذا التصرُّف، ويُنحُّون سجادته جانبًا ويجلسون مكانها، إنه تصرُّف لا يليق ببيوت الله التي تُسوِّي بين خَلْق الله جميعًا، وتحقق استطراق العبودية لله، فأنت اليوم بجوار فلان، وغدًا بجوار آخر، الجميع خاضع لله راكع وساجد، فليس لأحد أن يتعالى على أحد.
ونرى كذلك استطراق العبودية واضحًا في مناسك الحج، حيث يأتي أحد العظماء والوجهاء فتراه عند الملتزم خاضعًا ذليلًا باكيًا متضرعًا، وهو مَنْ هو في دُنْيا الناس.
إذن: فوقت الفجر وقت مبارك مشهود، تشهده ملائكة الليل، وهم غير مُكلَّفين بالصلاة، فالأفضل من مَشْهدية الملائكة مَشْهدية المصلِّين الذين كلَّفهم الله بالصلاة، وجعلهم ينتفعون بها.
ومن هنا كانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، كما جاء في الحديث النبوي الشريف.
ويجب أن نلتفت إلى أن الحق سبحانه ربط الصلوات الخمس بالوقت، وبآية كونية تدلُّ عليه هي الشمس، فكيف العمل إذا غابت، أو حُجِبَتْ عنَّا بغيْم أو نحوه؟
إذن: على الإنسان المؤمن أن يجتهد ويُعمِلَ تفكيره في إيجاد شيء يضبط به وقته، وفعلًا تفتقتْ القرائح عن آلات ضبط الوقت الموجودة الآن، والتي تُيسِّر كثيرًا على الناس؛ لذلك كانت الطموحات الإنسانية لأشياء تخدم الدين وتوضح معالمه أمرًا واجبًا على علماء المسلمين، على اعتبار أن مَا لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمِنَ الْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ...}.
الهجود: هو النوم، وتهجَّد: أي أزاح النوم والهجود عن نفسه، وهذه خصوصية لرسول الله وزيادة على ما فرض على أمته، أنْ يتهجَّد لله في الليل، كما قال له ربه تعالى: {ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيلَ إِلاَّ قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1-4]
فهذه الخصوصية لرسول الله وإنْ كانت فَرْضًا عليه، إلا أنها ليست في قالب من حديد، بل له صلى الله عليه وسلم مساحة من الحرية في هذه العبادة، المهم أن يقول لله تعالى جزءًا من الليل، لكن ما عِلَّة هذه الزيادة في حَقِّ رسول الله؟ العلة في قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]
وكأن التهجُّد ليلًا، والوقوف بين يدي الله في هذا الوقت سيعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم القوة والطاقة اللازمة للقيام بهذه المسئولية الملقاة على عاتقه، ألاَ وهي مسئولية حَمْل المنهج وتبليغه للناس.
وفي الحديث الشريف: «أن رسول الله كان كلما حزبه أمر قام إلى الصلاة»، ومعنى حَزَبه أَمْر: أي: ضاقت أسبابه عنه، ولم يَعُد له فيه منفذ، فإنْ ضاقت عليه الأسباب فليس أمامه إلا المسبِّب سبحانه يلجأ إليه ويُهْرع إلى نجدته{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6]
لأنك في الوقت الذي ينام فيه الناس ويخلدون إلى الراحة وتتثاقل رؤوسهم عن العبادة، تقوم بين يدي ربك مناجيًا مُتضرِّعًا، فتتنزل عليك من الرحمات والفيوضات، فَمَنْ قام من الناس في هذا الوقت واقتدى بك فَلَهُ نصيب من هذه الرحمات، وحَظٌّ من هذه الفيوضات. ومَنْ تثاقلتْ رأسه عن القيام فلا حَظَّ له.
إذن: في قيام الليل قوة إيمانية وطاقة روحية، ولما كانت مهمة الرسول فوق مهمة الخَلْق كان حظّه من قيام الليل أزيد من حظهم، فأعباء الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، والعِبْءُ الثقيل يحتاج الاتصال بالحق الأحد القيوم، حتى يستعين بلقاء ربه على قضاء مصالحه.
ومن العجيب أن ينصرف المسلمون عن هذه السُّنة، ويتغافلون عنها، فإذا حزبهم أمر لا يُهْرَعون إلى الصلاة، بل يتعللون، يقول أحدهم: أنا مشغول. وهل شغل الدنيا مبرر للتهاون في هذه الفريضة؟ ومَنْ يدريك لعلك بالصلاة تُفتح لك الأبواب، وتقضى في ساعة ما لا تقضيه في عدة أيام.
ونقول لهؤلاء الذين يتهاونون في الصلاة وتشغلهم الدنيا عنها، فإنْ صَلُّوا صَلُّوا قضاءً، فإن سألتَهم قالوا: المشاغل كثيرة والوقت لا يكفي، فهل إذا أراد أحدهم الذهاب لقضاء حاجته، هل سيجد وقتًا لهذا؟ إنه لا شكَّ واجدٌ الوقت لمثل هذا الأمر، حتى وإنْ تكالبتْ عليه مشاغل الدنيا، فلماذا الصلاة هي التي لا تجد لها وقتًا؟! وقوله تعالى: {نَافِلَةً لَّكَ..} [الإسراء: 79] النافلة هي الزيادة عما فرض على الجميع {لك} أي: خاصة بك دون غيرك، وهذا هو مقام الإحسان الذي قال الله عنه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15-16].
والمحسن هو الذي دخل مقام الإحسان، بأن يزيد على ما فرضه الله عليه، ومن جنس ما فرض؛ لذلك جاءت حيثية الإحسان: {كَانُواْ قَلِيلًا مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17-18]
وهذا المقام ليس فرضًا عليك، فلك أن تصلي العشاء وتنام حتى صلاة الفجر، لكن إنْ أردت أن تتأسَّى برسول الله وتتشبّه به فادخُلْ في مقام الإحسان على قَدْر استطاعتك.