فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} قال: يجلسه على السرير.
وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أوّل من تَنْشَقُّ عنه الأرض ولا فخر.. فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك. فيقول: إني أذنبت ذنبًا أهبطت منه إلى الأرض، ولكن ائتوا نوحًا. فيأتون نوحًا فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقول: ائتوا موسى. فيأتون موسى عليه الصلاة والسلام فيقول: إني قتلت نفسًا، ولكن ائتوا عيسى. فيأتون عيسى عليه السلام فيقول: إني عُبِدْتُ من دون الله، ولكن ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم. فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها، فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد. فيفتحون لي ويقولون: مرحبًا. فأخرّ ساجدًا فيلهمني الله عز وجل من الثناء والحمد والمجد، فيقال: ارفع رأسك.. سل تُعْطَ، واشفع تُشَفّعْ، وقل يسمع لقولك. فهو المقام المحمود الذي قال الله: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا}».
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد رضي الله عنه في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} قال: يخرج الله قومًا من النار من أهل الإيمان والقبلة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك المقام المحمود.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنه ذكر حديث الجهنّميّين فقيل له: ما هذا الذي تحدث والله تعالى يقول: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} [آل عمران: 192] {وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} [السجدة: 20] فقال: هل تقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: فهل سمعت فيه بالمقام المحمود؟ قال: نعم. قال: فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم الذي يخرج الله به من يخرج.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يأذن الله تعالى في الشفاعة، فيقوم روح القدس جبريل عليه السلام، ثم يقوم إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام، ثم يقوم عيسى أو موسى عليهما السلام، ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم واقفًا ليشفع، لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع، وهو المقام المحمود الذي قال الله: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا}.
وأخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سألتم الله فاسألوه أن يبعثني المقام المحمود الذي وعدني».
وأخرج البخاري عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حَلّتْ له شفاعتي يوم القيامة».
وأخرج ابن أبي شيبة عن سلمان رضي الله عنه قال: يقال له: سل تعطه يعني النبي صلى الله عليه وسلم واشفع تشفع، وادع تجب. فيرفع رأسه فيقول: أمتي. مرتين أو ثلاثًا، فقال سلمان رضي الله عنه: يشفع في كل من في قلبه مثقال حبة حنطة من إيمان أو مثقال شعيرة من إيمان أو مثقال حبة خردل من إيمان. قال سلمان رضي الله عنه: فذلكم المقام المحمود.
وأخرج الديلمي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، ما المقام المحمود؟ قال: «ذلك يوم ينزل الله تعالى عن عرشه، فيئط كما يئط الرحل الجديد من تضايقه».
وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} قال: يجلسه بينه وبين جبريل عليه السلام، ويشفع لأمته. فذلك المقام المحمود.
وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} قال: يجلسني معه على السرير».
وأخرج ابن جرير عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خيِّر بين أن يكون عبدًا نبيًا أو ملكًا نبيًا، فأومأ إليه جبريل عليه السلام أن تواضع، فاختار أن يكون عبدًا نبيًا. فأعطى به النبي صلى الله عليه وسلم ثنتين: أنه أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع. فكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} قال: يجلسه معه على عرشه.
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)}.
أخرج أحمد والترمذي وصححه، وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معًا في الدلائل والضياء في المختارة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة فأنزل الله تعالى: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا}.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وقل رب أدخلني مدخل صدق...} الآية. قال: أخرجه الله من مكة {مخرج صدق} وأدخله المدينة {مدخل صدق} قال: وعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانًا نصيرًا لكتاب الله تعالى وحدوده وفرائضه وإقامة كتاب الله تعالى، فإن السلطان عزة من الله تعالى جعلها بين عباده، ولولا ذلك لغار بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم.
وأخرج الخطيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: والله لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن.
وأخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة، عن زيد بن أسلم رضي الله عنه في الآية قال: جعل الله {مدخل صدق} المدينة {ومخرج صدق} مكة و{سلطانًا نصيرًا} الأنصار.
وأخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قرأ {أدخلني مَدْخَلَ صدق وأخرجني مَخْرَجَ صدق} بفتح الميم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {أدخلني مدخل صدق} يعني، الموت {وأخرجني مخرج صدق} يعني، الحياة بعد الموت. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}.
قوله تعالى: {سُنَّةَ}:
فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن ينتصِبَ على المصدرِ المؤكَّد، أي: سَنَّ الله ذلك سُنَّةَ، أو سَنَنَّا ذلك سُنَّةَ. الثاني:- قاله الفراء- أنه على إسقاطِ الخافضِ، أي: كسُنَّةِ اللهِ، وعلى هذا لا يُوقف على قوله: {إلا قليلًا}.
الثالث: أن ينتصبَ على المفعول به، أي: اتبعْ سُنَّةَ.
{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)}. قوله تعالى: {لِدُلُوكِ}: في هذه اللامِ وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى بَعْد، أي: بَعْدَ دُلوكِ الشمسِ، ومثلُه قول متمم بن نويرة:
فلمَّا تَفَرَّقْنا كأني ومالِكًا ** لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معًا

ومثلُه قولُهم: كَتَبَتْه لثلاثٍ خَلَوْنَ. والثاني: أنها على بابها، أي: لأجلِ دُلُوك. قال الواحدي: لأنها إنما تَجِبُ بزوالِ الشمس.
والدُّلوك: مصدرُ دَلَكت الشمسُ، وفيه ثلاثةُ أقوالٍ، أشهرُها: أنه الزوالُ، وهو نِصْفُ النهار. والثاني: أنه من الزوال إلى الغروب. قال الزمخشري: واشتقاقُه من الدَّلْكِ؛ لأنَّ الإِنسانَ يَدْلُكُ عينَه عند النظرِ إليها. قلت: وهذا يُفْهِم أنه ليس بمصدرٍ؛ لأنه جعله مشتقًا من المصدرِ. والثالث: أنه الغروبُ، وأنشد الفراءُ عليه قولَه:
هذا مُقامُ قَدَمَيْ رَباحِ ** ذَبَّبَ حتى دَلَكَتْ بَِرَاحِ

أي: غَرَبَتْ بَراحِ، وهي الشمسُ. وأنشد ابن قتيبة على ذلك قولَ ذي الرمة:
مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودها ** نُجومٌ ولا بالآفلاتِ الدوالِكِ

أي: الغارِبات: وقال الراغب: دُلُوْكٌ الشمسِ مَيْلُها للغُروب، وهو مِنْ قولِهم: دَلَكْتُ الشمسَ: دفعتُها بالرَّاح، ومنه: دَلَكْتُ الشيءَ في الراحةِ، ودَلَكْتُ الرجلَ: ماطَلْتُه، والدَّلُوك: ما دَلَكْتَه مِنْ طِيبٍ، والدَّلِيْكُ: طعامٌ يُتَّخذ مِنْ زُبْدٍ وتَمْر.
قوله: {إلى غَسَقِ اليل} في هذا الجارِّ وجهان، أحدٌهما: أنه متعلِّقٌ ب أَقِمْ فهي لانتهاءِ غايةِ الإِقامةِ، وكذلك اللامُ في لِدُلوك متعلقةٌ به أيضًا. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من {الصلاة}، أي: أَقِمْها مَمْدودةً إلى غَسَق الليل، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ: من حيث إنه قَدَّر المتعلِّق كونًا مقيدًا، إلا أَنْ يريدَ تفسيرَ المعنى لا الإِعرابِ.
والغَسَقُ: دخولُ أولِ الليل، قاله ابنُ شميل. وأنشد:
إنَّ هذا الليلَ قد غَسَقا ** واشتكيْتُ الهَمَّ والأرقا

وقيل: هو سَوادُ الليلِ وظُلْمَتُه، وأصلُه من السَّيَلان: غَسَقَتِ العين، أي: سالَ دَمْعُها فكأن الظُّلْمَةَ تَنْصَبُّ على العالَم وتَسِيْل عليهم قال:
ظلَّتْ تجودُ يداها وهي لاهِيَةٌ ** حتى إذا هَجَمَ الإِظْلامُ والغَسَقُ

ويُقال: غَسَقَتِ العينُ: امتلأَتْ دَمْعًا، وغَسَقَ الجرحُ: امتلأَ دَمًا، فكأنَّ الظُّلْمَةَ مَلأَتْ الوجودَ. والغاسِقُ في قوله: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ} [الفلق: 3] قيل: المرادُ به القمرُ إذا كَسَف واسْوَدَّ. وقيل: الليل. والغَساقُ بالتخفيف والتشديدِ ما يَسِيل مِنْ صَديدِ أهل النار. ويُقال: غَسَق الليلُ وأَغْسَقَ، وظَلَمَ وَأَظْلَمَ، ودَجَى وأَدْجَى، وغَبَشَ وأَغْبَشَ، نقله الفرَّاء.
قوله: {قُرْآنَ الفجر} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه عطفٌ على {الصلاة}، أي: وأَقِمْ قرآنَ الفجرِ، والمرادُ به صلاةُ الصبحِ، عَبَّر عنها ببعضِ أركانِها. والثاني: أنه منصوبٌ على الإِغراء، أي: وعليك قرآنَ الفجر، كذا قدَّره الأخفشُ وتَبِعه أبو البقاء، وأصولُ البصريين تَأْبَى هذا؛ لأنَّ أسماءَ الأفعالِ لا تعملُ مضمرةً. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ، أي: كَثِّر قرآنَ أو الزَمْ قرآنَ الفجرِ.
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)}.
قوله تعالى: {وَمِنَ الليل}: في {منْ} هذه وجهان، أحدُهما: أنها متعلقةٌ ب {تَهَجَّدْ}، أي: تَهَجَّدْ بالقرآنِ بعضَ الليل، والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: وقُمْ قَوْمةً من الليل، أو واسهرْ من الليل، ذَكَرهما الحوفيُّ. وقال الزمخشري: وعليك بعضَ الليل فتهَجَّدْ به فإنْ كان أراد تفسيرَ المعنى فقريبٌ، وإن أراد تفسيرَ الإِعراب فلا يَصِحُّ لأنَّ المُغْرَى به لا يكون حرفًا، وجَعْلُه {مِنْ} بمعنى بعض لا يَقْتضي اسميَّتَها، بدليل أنَّ واوَ مع ليسَتْ اسمًا بإجماعٍ، وإن كانت بمعنى اسمٍ صريحٍ وهو مع.
والضميرُ في {به} الظاهرُ عَوْدُه على القرآنِ من حيث هو، لا بقيد إضافتِه إلى الفجر. والثاني: أنها تعودُ على الوقت المقدَّرِ، أي: وقُمْ وقتًا من الليل فتهَجَّدْ بذلك الوقتِ، فتكونُ الباءُ بمعنى في.
قوله: {نافِلَةً} فيها أوجهٌ، أحدُها: أنها مصدرٌ، أي: تَتَنَفَّلُ نافلةً لك على الصلواتِ المفروضةِ. والثاني: أنها منصوبةٌ ب {تَهَجَّدْ} لأنَّه في معنى تَنَفَّلْ، فكأنه قيل: تنفَّل نافلة. والنَّافِلَةُ، مصدرٌ كالعاقِبة والعافِية. الثالث: أنها منصوبةٌ على الحالِ، أي: صلاةَ نافِلَةٍ، قاله أبو البقاء وتكون حالًا من الهاء في {به} إذا جَعَلْتَها عائدةً على القرآن لا على وقتٍ مقدر. الرابع: أنها منصوبةٌ على المفعولِ بها، وهو ظاهرُ قولِ الحوفيِّ فإنه قال: ويجوز أن ينتصِب {نافلةً} بتهجَّدْ، إذا ذَهَبْتَ بذلك على معنى: صَلِّ به نافلةً، أي: صَلِّ نافِلَةً لك.
والتهَجُّدُ: تَرْكُ الهُجُودِ وهو النَّوْمُ، وتَفَعَّل يأتي للسَّلْب نحو: تَحَرَّجَ وتَأَثَّمَ، وفي الحديث: «كان يَتَحَنَّثُ بغارِ حراءٍ» وفي الهُجود خلافٌ بين أهل اللغةِ فقيل: هو النوم. قال:
وبَرْكُ هُجودٍ قد أثارَتْ مَخافتي

وقال آخر:
ألا طَرَقَتْنا والرِّفاقُ هُجودُ

وقال آخر:
ألا زارَتْ وأهلُ مِنَىً هُجودُ ** وليت خيالَها بمِنَىً يعودُ

فَهُجُودٌ: نيامٌ، جمعُ هاجِد كساجِد وسُجود. وقيل: الهُجود: مشتركٌ بين النائِمِ والمُصَلِّي. قال ابن الأعرابي: تَهَجَّدَ: صلَّى من الليل، وتَهَجَّدَ: نامَ، وهو قول أبي عبيدةَ واللَّيْث.
قوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا} في نصب {مَقامًا} أربعةُ أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ على الظرف، أي: يبعثُك في مَقام. الثاني: أن ينتصِبَ بمعنى يَبْعَثُك لأنه في معنى يُقيمك، يقال: أُقِيم مِنْ قبرِه وبُعِث منه، بمعنىً فهو نحو: قعد جلوسًا. الثالث: أنه منصوبٌ على الحال، أي: يَبْعَثُك ذا مقامٍ محمودٍ. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ، وناصبُه مقدَّرٌ، أي: فيقوم مقامًا.
و{عَسَى} على الأوجهِ الثلاثةِ دونَ الرابع يتعيَّن فيها أن تكونَ التامَّةَ، فتكونَ مسندةً إلى {أنْ} وما في حَيِّزها إذ لو كانت ناقصةً على أَنْ يكونَ {أَن يَبْعَثَكَ} خبرًا مقدمًا، و{ربُّك} اسمًا مؤخرًا، لَزِمَ من ذلك محذورٌ: وهو الفصلُ بأجنبي بين صلة الموصول ومعمولِها، فإنَّ {مَقامًا} على الأوجه الثلاثةِ الأُوَلِ منصوبٌ ب {يَبْعَثُكَ} وهو صلةٌ ل {أَنْ} فإذا جَعَلْتَ {رَبُّك} اسمَها كان أجنبيًا من الصلة فلا يُفْصَلُ به، وإذا جَعَلْتَه فاعِلًا لم يكن أجنبيًا فلا يُبالَى بالفصلِ به.
وأمَّا على الوجه الرابع فيجوز أن تكونَ التامَّةَ والناقصةَ بالتقديم والتأخير لعدم المحذورِ؛ لأنَّ {مقامًا} معمولٌ لغير الصلة، وهذا من محاسِنِ صناعة النحو، وتقدَّم لك قريبٌ مِنْ هذا في سورةِ إبراهيم عليه السلام في قولِه تعالى: {أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ} [إبراهيم: 10].
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)}.
قوله تعالى: {مُدْخَلَ صِدْقٍ}: يحتمل أن يكونَ مصدرًا، وأن يكونَ ظرفَ مكان وهو الظاهر. والعامَّةُ على ضم الميم فيهما لسَبْقهما فعلٌ رباعي. وقرأ قتادة وأبو حيوة وإبراهيم بن أبي عبلة وحميد بفتحِ الميمِ فيهما: إمَّا لأنهما مصدران على حَذْفِ الزوائد ك {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17]، وإمَّا لأنهما منصوبان بمقدَّرٍ موافقٍ لهما تقديره: فادْخُلْ مَدْخَلَ واخرُجْ مَخْرَج. وقد تقدَّم هذا مستوفى في قراءةِ نافع في سورة النساء، وأنه قَرَأ كذلك في سورة الحج.
ومُدْخَلُ صِدْقٍ ومُخْرَجُ صِدْقٍ من إضافة التبيين، وعند الكوفيين من إضافةِ الموصوف لصفته، لأنه يُوصف به مبالغةً.
قوله: {سُلْطانًا} هو المفعولُ الأول للجَعْلِ، والثاني أحدُ الجارَّيْن المتقدَّمين، والآخرُ متعلِّقٌ باستقراره. و{نصيرًا} يجوز أن يكون مُحَوَّلًا مِنْ فاعِل للمبالغةِ، وأن يكونَ بمعنى مفعول.
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)}.
والزُّهُوق: الذَّهابُ والاضمحلال قال:
ولقد شَفَى نَفْسي وأبرَأَ سُقْمَها ** إقدامُه بمَزَالَةٍ لم يَزْهَقِ

يقال: زَهَقَتْ نَفْسي تَزْهَقُ زُهوقًا بالضم. وأمَّا الزَّهوق بالفتح فمثالُ مبالَغَةٍ كقوله:
ضَرُوْبٌ بنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها

اهـ.