فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا}
روى البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله قال: بينا أنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متّكىء على عسيب إذ مرّ اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح.
فقال: ما رابكم إليه؟ وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه.
فقالوا: سلوه.
فسألوه عن الروح فأمسك النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يردّ عليهم شيئًا؛ فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: {ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} لفظ البخاري.
وفي مسلم: فأسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفيه: وما أوتوا.
وقد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه، أيّ الروح هو؟ فقيل: هو جبريل؛ قاله قتادة.
قال: وكان ابن عباس يكتمه.
وقيل هو عيسى.
وقيل: القرآن، على ما يأتي بيانه في آخر الشورى.
وقال عليّ بن أبي طالب: هو مَلَك من الملائكة له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان، في كل لسان سبعون ألف لغة، يسبح الله تعالى بكل تلك اللغات، يخلق الله تعالى من كل تسبيحة مَلَكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
ذكره الطبريّ.
قال ابن عطية: وما أظن القول يصحّ عن عليّ رضي الله عنه.
قلت: أسند البيهقي أخبرنا أبو زكريا عن أبي إسحاق أخبرنا أبو الحسن الطرائفي حدّثنا عثمان بن سعيد حدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {ويسألونك عن الروح} يقول: الروح مَلَك.
وبإسناده عن معاوية بن صالح حدّثني أبو هِران بكسر الهاء يزيد بن سمرة عمن حدّثه عن عليّ بن أبي طالب أنه قال في قوله تعالى: {ويسئلونك عن الروح} قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه... الحديث بلفظه ومعناه.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: الروح ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه، يسبح الله إلى يوم القيامة، ذكره النحاس.
وعنه: جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام؛ ذكره الغزْنَويّ.
وقال الخطابي: وقال بعضهم، هو ملك من الملائكة بصفة وضعوها من عظم الخلقة.
وذهب أكثر أهل التأويل إلى أنهم سألوه عن الروح الذي يكون به حياة الجسد.
وقال أهل النظر منهم: إنما سألوه عن كيفية الروح ومسلكه في بدن الإنسان، وكيف امتزاجه بالجسم واتصال الحياة به، وهذا شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل.
وقال أبو صالح: الروح خلق كخلق بني آدم وليسوا ببني آدم، لهم أيد وأرجل.
والصحيح الإبهام لقوله: {قل الروح من أمر ربي} دليلٌ على خَلْقِ الروحِ أي هو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى، مبهمًا له وتاركًا تفصيله، ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها.
وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى.
وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز.
قوله تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} اختلف فيمن خوطب بذلك؛ فقالت فرقة: السائلون فقط.
وقال قوم: المراد اليهود بجملتهم.
وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود {وما أوتوا} ورواها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقالت فرقة: المراد العالم كله.
وهو الصحيح، وعليه قراءة الجمهور: {وما أوتيتم}.
وقد قالت اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم: كيف لم نؤت من العلم إلا قليلًا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا؟ فعارضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم الله فغلبوا.
وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في بعض الأحاديثِ: «كُلًا» يعني أن المراد ب{ما أوتيتم} جميع العالم.
وذلك أن يهود قالت له: نحن عنيت أم قومك فقال: «كُلًا».
وفي هذا المعنى نزلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} [لقمان: 27].
حكى ذلك الطبريّ رحمه الله! وقد قيل: إن السائلين عن الروح هم قريش، قالت لهم اليهود: سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة فهو نبيّ؛ فأخبرهم خبر أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين على ما يأتي.
وقال في الروح: {قل الروح من أمر ربي} أي من الأمر الذي لا يعلمه إلا الله.
ذكره المهدويّ وغيره من المفسرين عن ابن عباس.
قوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يعني القرآن.
أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه حتى ينساه الخلق.
ويتّصل هذا بقوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} أي ولو شئت أن أذهب بذلك القليل لقدرت عليه.
{ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} أي ناصرًا يردّه عليك.
{إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} يعني لكن لا نشاء ذلك رحمة من ربك؛ فهو استثناء ليس من الأول.
وقيل: إلا أن يرحمك ربّك فلا يذهب به.
{إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} إذ جعلك سيّد ولد آدم، وأعطاك المقام المحمود وهذا الكتاب العزيز.
وقال عبد الله بن مسعود: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وأن هذا القرآن كأنه قد نزع منكم، تصبحون يومًا وما معكم منه شيء.
فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبد الرحمن! وقد ثبّتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا، نعلّمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامةا قال: يُسرى به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وما في القلوب، فتصبح الناس كالبهائم.
ثم قرأ عبد الله {ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي أوحينا إليك} الآية.
أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة بمعناه قال: أخبرنا أبو الأحوص عن عبد العزيز بن رُفيع عن شدّاد بن معقل قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود: إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن ينزع منكم.
قال: قلت كيف ينزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا وثبتناه في مصاحفنا قال: يسرى عليه في ليلة واحدة فينزع ما في القلوب ويذهب ما في المصاحف ويصبح الناس منه فقراء.
ثم قرأ {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} وهذا إسناد صحيح.
وعن ابن عمر: لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دويّ كدويّ النحل، فيقول الله ما بالك.
فيقول: يا رب منك خرجت وإليك أعود، أتْلى فلا يعمل بي، أتلى ولا يُعمل بي.
قلت: قد جاء معنى هذا مرفوعًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وحذيفة.
قال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدرس الإسلام كما يدرس وَشْيُ الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة فيُسرى على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى منه في الأرض آية وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة» قال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله! وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؛ فأعرض عنه حذيفة؛ ثم ردّدها ثلاثًا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه حذيفة فقال: يا صلة! تنجيهم من النار، ثلاثًا خرجه ابن ماجه في السنن.
وقال عبد الله بن عمر: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو معصوب الرأس من وجع فضحك، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس ما هذه الكتب التي تكتبون أكتاب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقًا ولا قلبًا إلا أخذ منهقالوا: يا رسول الله، فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذٍ؟ قال: من أراد الله به خيرًا أبقى في قلبه لا إله إلا الله» ذكره الثعلبي والغزْنَويّ وغيرهما في التفسير. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
و{من} في {من القرآن} لابتداء الغاية.
وقيل للتبعيض قاله الحوفي: وأنكر ذلك لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه ورد هذا الإنكار لأن إنزاله إنما هو مبعض.
وقيل: لبيان الجنس قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء، وقد ذكرنا أن من التي لبيان الجنس لا تتقدم على المبهم الذي تبينه وإنما تكون متأخرة عنه.
وقرأ الجمهور: و{ننزل} بالنون ومجاهد بالياء خفيفة ورواها المروزي عن حفص.
وقرأ زيد بن عليّ:. بنصبهما ويتخرج النصب على الحال وخبر هو قوله: {للمؤمنين} والعامل فيه ما في الجار والمجرور من الفعل، ونظيره قراءة من قرأ {والسموات مطويات بيمينه} بنصب مطويات.
وقول الشاعر:
رهط ابن كوز محقي أدراعهم ** فيهم ورهط ربيعة بن حذار

وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف أو المجرور لا يجوز إلاّ عند الأخفش، ومن منع جعله منصوبًا على إضمار أعني وشفاؤه كونه مزيلًا للريب كاشفًا عن غطاء القلب بفهم المعجزات والأمور الدالة على الله المقررة لدينه، فصار لعلات القلوب كالشفاء لعلات الأجسام.
وقيل: شفاء بالرقى والعَوذ كما جاء في حديث الذي رقي بالفاتحة من لسعة العقرب.
واختلفوا في النشرة وهو أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه، فأجاز ذلك ابن المسيب ولم يره مجاهد.
وعن عائشة: كانت تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض.
وقال أبو عبد الله المازني: النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم، سميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تحل، ومنعها الحسن والنخعي.
وروى أبو داود من حديث جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال وقد سئل عن النشرة: «هي من عمل الشيطان» ويحمل ذلك على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة الرسول، والنشرة من جنس الطب في غسالة شيء له فضل.
وقال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين، وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين أما بعد نزول البلاء فيجوز رجاء الفرج والبرء والمرض كالرقى المباحة التي وردت السنة بها من العين وغيرها.
وقال ابن المسيب: يجوز تعليق العوذة في قصبة أو رقعة من كتاب الله ويضعه عند الجماع وعند الغائط، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان وكان ابن سيرين لا يرى بأسًا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان.
وخسار الظالمين وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه هو بإعراضهم عنه وعدم تدبره بخلاف المؤمن فإنه يزداد بالنظر فيه وتدبر معانيه إيمانًا.
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)}.
لما ذكر تعالى تنويع ما أنزل من القرآن شفاء ورحمة للمؤمن وبزيادة خسار للظالم، عرّض بما أنعم به وما حواه من لطائف الشرائع على الإنسان، ومع ذلك {أعرض} عنه وبعد بجانبه اشمئزازًا له وتكبرًا عن قرب سماعه وتبديلًا مكان شكر الإنعام كفره.
وقرأ الجمهور: {ونأى} من النأي وهو البعد، وقرأ ابن عامر وناء.
وقيل هو مقلوب نأى فمعناه بعد.
وقيل: معناه نهض بجانبه.
وقال الشاعر:
حتى إذا ما التأمت مفاصله ** وناء في شق الشمال كاهله

أي نهض متوكئًا على شماله.
ومعنى {يؤوسًا} قنوطًا من أن ينعم الله عليه.
والظاهر أن المراد بالإنسان هنا ليس واحدًا بعينه بل المراد به الجنس كقوله: {إن الإنسان لربه لكنود} {إن الإنسان خلق هلوعًا} الآية وهو راجع لمعنى الكافر، والإعراض يكون بالوجه والنأي بالجانب يكون بتولية العطف أو يراد بنأي الجانب الاستكبار لأن ذلك من عادة المستكبرين.
والشاكلة قال ابن عباس: ناحيته، وقال مجاهد: طبيعته، وقال الضحاك: حدّته، وقال قتادة والحسن: نيته، وقال ابن زيد: دينه، وقال مقاتل: خلقه وهذه أقوال متقاربة، وقال الزمخشري: على مذهب الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تشعبت منه، والدليل عليه قوله: {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلًا} أي أشد مذهبًا وطريقة.