فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} أي: وننزل عليك من القرآن ما يستشفى به من الجهل والضلالة. ورحمة ببيان الحقائق وإقامة البراهين للمؤمنين به، دون الكافرين؛ لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله وشرائعه. فيدخلهم الجنة وينجيهم من العذاب. فهو لهم رحمة ونعمة. ولا يزيد الظالمين، بكفرهم وشركهم، إلا خسارًا. أي: إهلاكًا؛ لأنهم كلما جاءهم أمر من الله أو نهي، كفروا به، فزادهم خسارًا إلى ما كانوا فيه قبلُ، ورجسًا إلى رجسهم. قال الشهاب: الشفاء: استعارة تصريحية أو تخييلية. بتشبيه الكفر بالمرض. و{من} بيانية، قدمت على المبين وهو {ما} اعتناء.
تنبيه:
ذهب بعضهم إلى أن القرآن مما يستشفى به من الأمراض الحسية لهذه الآية. بحمل قوله: {شِفَاءٌ} على معنيين من باب عموم المجاز. أو حمل المشترك على معنييه، وممن قرر ذلك الرازي. وعبارته: اعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية. وشفاء أيضًا من الأمراض الجسمانية. أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر. وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان: الاعتقادات الباطلة. والأخلاق المذمومة. أما الاعتقادات الباطلة، فأشدها فساد الاعتقادات في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر. والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة فيها. لا جرم كان شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني. وأما الأخلاق المذمومة، فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة، والأعمال المحمودة. فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض. فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية.
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرًا من الأمراض. ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأنه لقراءة الرقى المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثارًا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد؛ فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم، المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه، وتعظيم الملائكة المقربين، وتحقير المردة والشياطين سببًا لحصول النفع في الدين والدنيا كان أولى. ويتأكد ما ذكرنا بحديث: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى». وأما كونه رحمة للمؤمنين، فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مرضية بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة. والقرآن منه ما يفيد الخلاص من شبهات الضالين وتمويهات المبطلين، وهو الشفاء. ومنه ما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة، التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين، والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين، وهو الرحمة. ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة، لا جرم بدأ الله تعالى، في هذه الآية، بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة، انتهى.
وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في بحث الأدوية والأغذية المفردة، التي جاءت على لسانه صلى الله عليه وسلم في حرف القاف قرآن: قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}. والصحيح أن {من} ها هنا لبيان الجنس، لا للتبعيض. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57]. فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية. وأدواء الدنيا والآخرة. وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به. وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه؛ لم يقاومه الداء أبدًا. وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو أنزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل للدلالة على دوائه وسببه والحمية منه، لمن رزقه الله فهمًا في كتابه. فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله. ومن لم يكفه فلا كفاه الله.
ثم قال في حرف الكاف: ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه. ثم ذكر ما كان يكتبه شيخ الإسلام ابن تيمية للرعاف. فانظره.
وذكر قبلُ في فاتحة الكتاب، من سر كونها شفاء، حقائق بديعة. وكذا في بحث الرقي. وذكر أيضًا أن من الأدوية التي تشفي من الأمراض، ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم، من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له والصدقة والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب. فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها. فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته ولا قياسه. وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورًا كثيرة. ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية. وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية، ليس خارجًا عنها. ولكن الأسباب متنوعة، فإن القلب متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء، كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه، المعرض عنه. وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة؛ تَعَاونَا على دفع الداء وقهره. فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه، وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها عليه؛ أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية، ويوجب لها هذا القوة دفع الألم بالكلية؟! ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأعظمهم حجابًا، وأكثفهم نفسًا، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية.
وقد أسهب، عليه الرحمة، أيضًا في كتاب إغاثة اللهفان في بيان تضمن القرآن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه، بما تنبغي مراجعته؛ ليزداد المريد علمًا.
وقوله تعالى: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا} إشارة إلى السبب في وقوع هؤلاء الضالين في أودية الضلال. وهو حب الدنيا وإيثارها على الأخرى، وكفران نعمه تعالى، بالإعراض عن شكرها، والجزع واليأس من الفرج عند مس شر قضى عليه. وكل ذلك مما ينافي عقد الإيمان. فإن المؤمن ينظر بعين البصيرة، ويشاهد قدرة الله تعالى في كلتا الحالتين. ويتيقن في الحالة الأولى؛ أن الشكر رباط النعم. وفي الثانية أن الصبر دفاع النقم. فيشكر ويصبر. ويعلم أن المنعم يقدر، فلم يعرض عند النعمة بطرًا وأشرًا. ولم يغفل عن المنعم ولم يجزع عند النقمة جزعًا وضجرًا.
فالآية وصف للجنس باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذه الصفة. كقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9- 11].
قال الزمخشري: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} تأكيد للإعراض؛ لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. والنأي بالجانب: أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره. أو أراد الاستكبار، لأن ذلك من عادة المستكبرين.
وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} أي: على مذهبه وطريقته وخليقته وملكته الغالبة عليه، الحاصلة له من استعداد حقيقته، التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة، من قولهم: طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تتشعب منه لتشاكلها. أي: تشابهها في الشكل. فسميت عادة المرء بها، لأنها تشاكل حاله. والدليل عليه قوله تعالى: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} أي: أسدُّ مذهبًا وطريقة، من العاملين: عامل الخير بمقتضى سجية القلب الفاضلة، وعامل الشر بمقتضى طبيعة النفس، فيجازيهما بحسب أعمالهما.
وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} قال القاشاني: أي: الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: ليس من عالم الخلق حتى يمكن تعريفه للظاهريين البدنيين، الذين يتجاوز إدراكهم الحس والمحسوس، بالتشبيه ببعض ما شعروا به، والتوصيف. بل من عالم الأمر، أي: الإبداع الذي هو عالم الذوات المجردة عن الهيولى، والجواهر المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين، فلا يمكنكم إدراكه أيها المحجوبون بالكون؛ لقصور إدراككم وعلمكم عنه: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} هو علم المحسوسات. وذلك شيء نزر حقير بالنسبة إلى علم الله والراسخين في العلم.- هذا ما قاله القاشاني- وحاصل الجواب عليه: أن الروح موجود محدث بأمره تعالى بلا مادة، وتولد من أصل كأعضاء الجسد، حتى يمكن تعريفه ببعض مبادئه، بل هو من عالم الأمر لا من عالم الخلق. فيكون الاقتصار في الجواب على قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} كما اقتصر موسى في جواب قول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، على قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشعراء: 24]، إعلامًا بأن إدراكه بالكنه على ما هو عليه، لا يعلمه إلا الله تعالى. وأنه شيء بمفارقته يموت الإنسان، وبملازمته له يبقى. كما أومأ إليه قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} أي: علمًا قليلًا تستعيدونه من طرق الحواس. وهو هذا القدر الإجمالي.
قال الشهاب: والسؤال- على هذا- عن حقيقتها. والجواب إجمالي بأنها من المبدعات من غير مادة. ولذا قيل: إنه من الأسلوب الحكيم. كما في قوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]، إشارة إلى أن حقيقتها لا تعلم، وإنما يعلم منها هذا المقدار. فالمراد بالأمر على هذا التفسير قول كن ولذا قالوا لمثله: عالم الأمر. انتهى.
قال أبو السعود عليه الرحمة: وليس هذا من قبيل قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، فإن ذلك عبارة عن سرعة التكوين. سواء كان الكائن من عالم الأمر أو من عالم الخلق. بل إنه من الإبداعيات الكائنة بمحض الأمر التكويني من غير تحصل من مادة. وحكى، عليه الرحمة، قولًا آخر وهو: أن الأمر بمعنى الشأن. قال: والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي، لاشتراك الكل فيه. وفيها من تشريف المضاف ما لا يخفى. كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه. أي: هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية التي لا يكاد يحوم حولها عقول البشر. وعليه، ف {من} بيانية أو تبعيضية. ويكون نهيًا لهم عن السؤال عنها، وتركًا للبيان. وهذا رأي كثيرين، أمسكوا عن الخوض فيها، وقالوا: إنها شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع أحدًا من خلقه، فلا يجوز البحث عنها بأكثر من أنها شيء موجود، بل غلا بعضهم وقال: إن الإفاضة في بحث الروح بدعة في الدين. إذا لم يبينه الله لرسوله بأكثر مما في الآية. فالاشتغال بالتفتيش عنه غلو فيما لم يرد به قرآن ولم يقم عليه برهان، وما كان كذلك فهو عناد.
وأجاب الخائضون في بحثها، بأن الآية لا يدل معناها على ذكر دلالة قطعية، ولا دلالة فيها على المنع من الخوض فيها، ولا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمها. وغاية الأمر أنه أمر بترك الجواب عنها تفصيلًا. إما لأن الإمساك عن ذلك كان عند اليهود السائلين عنها، من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، أو لأن سؤالهم كان تعنتًا. فإنها تطلق على معان: منها الراحة وبرد النسيم. وعلى جبريل والقرآن وعيسى عليه السلام والحياة والقلب والرحمة وغير ذلك. فأضمروا على أنه إذا أجاب بأحد هذه الأمور، قالوا: لم نرده، وإنما أردنا كذا.
ثم الأقاويل فيها من الحكماء والعلماء الأقدمين مختلفة. ولا يتم الجواب في محل الخلاف. فأتى بالجواب مجملًا على وجه يصدق على كل من ذلك مرموزًا، ليعلمه العلماء بالله. واقتضت المصلحة العامة منع الكلام فيه لغيرهم؛ لأن الأفهام لا تحتمله. خصوصًا على طريقة الحكماء؛ إذ من غلب على طبعه الجمود لا يقبله ولا يصدق به في صفة الباري. فكيف يصدق به في حق الروح الإنساني. بل قال بعض المدققين: إن في الآية والجواب ببيان حقيقتها، وأنها من إبداعاته الكائنة بتكوينه، من غير سبق مادة- وهو ما ذكرناه أولًا- وفي الجواب بذلك ما فيه الكفاية لذوي البصائر والدراية. ومقنع لمن كان له في النزاع إذا فُصل مطمع. وقد استحسن بعضهم هذا الجواب وقال مذيلًا له: فيكون قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} على أن السؤال عن حقيقتها مطابقًا، إلا أنه إجمالي. أي: من الممكنات التي يمكن الوقوف على حقائقها، وإن كان بإعمال روية وإيقاظ فكر كباقي عالم الأمر. وعلى أن السؤال عن قدمها وحدوثها كذلك، إلا أنه تفصيلي. وأيًَّا ما كان، فلم يترك بيانها، ولو كانت مما لا سبيل إلى معرفته لقيل: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} كما قيل في الساعة، أو نحو ذلك. بل لو لم يكن السبيل لمعرفته، ولو بوجه ما، متيسرًا لكثير من الناس؛ لم يكن لأمره بالتفكر فيها، والتبصر في أمرها، للاستدلال بها عليه، والتوصل بواسطة معرفتها إليه، الذي هو الغاية القصوى والثمرة العظمى؛ من فائدة. بل كان عبثًا. فدل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِم} [الروم: 8]، وقوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، ونحو ذلك، أنها أمر تدركه العقول، وبه يكون إليه تعالى الوصول.
ثم إن الذين خاضوا في البحث عنها، أثرت عنهم أقوال شتى. وقد أفردت لذلك تآليف قديمة وحديثة، والذي يهمنا معرفته ما عول عليه الأئمة المدققون، الذين نقبوا عن أقوال المتقدمين، ونقدوها بمحك الكتاب والسنة، فنبذوا ما يخالفهما وتمسكوا بما يوافقهما.
فمنهم الإمام ابن حزم. قال رحمه الله في كتابه الملل والنحل بعد سرد مذاهب شتى: وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالمعاد، إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان. عاقلة مميزة مصرفة للجسد. قال: وبهذا نقول. والنفس والروح اسمان لمسمى واحد، ومعناهما واحد. ثم قال: وأما من ذهب إلى أن النفس وليست جسمًا، فقولٌ يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة. فأما القرآن، فإن الله عز وجل قال: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس: 30]، وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْم} [غافر: 17]، وقال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، فصح أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجيبة المخطئة. وقال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]. وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]، وقال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلهِ} [آل عِمْرَان: 169- 170] فصح أن الأنفس، منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة، فيعذب. ومنها ما يرزق وينعم فرحًا، ويكون مسرورًا قبل القيامة. ولا شك أن أجساد آل فرعون وأجساد المقتولين في سبيل الله، قد تقطعت أوصالها وأكلها السباع والطير وحيوان الماء. فصح أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان. ولا شك في أن العرض لا يلقى العذاب ولا يحس، فليست عرضًا. وصح أنها تنتقل في الأماكن قائمة بنفسها، وهذه صفة الجسم لا صفة الجوهر عند القائل به، فصح، ضرورةً، أنها جسم.