فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذلك لكون النَّفَس بعض الرُوح، فهو كتسمية النوع باسم الجنس، نحو تسمية الإِنسان بالحيوان، وجُعل اسما للجزءِ الذي به تحصل الحياة والتحريك، واستجلاب المنافع واستدفاع المضَار، وهو المذكور في قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، وقولِه: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}، وإِضافته تعالى إِلى نفسه إِضافة مِلْك، وتخصيصه بالإِضافة تشريف له وتعظيم كقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ}.
وسُمِّى أَشراف الملائكة أَرواحًا، وسمّى به عيسى عليه السلام: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}، وذلك لِمَا كان له من إِحياءِ الأَموات. وسمّى القرآن رُوحًا في قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} وذلك لكون القرآن سببًا للحياة الأُخرويّة الموصوفة في قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}.
والرَّوح: التَّنفس، وقد أَراح الإِنسان أي تنفَّس، وقوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}، فَالرَّيحان: ما له رائحة من النبات، وقيل رِزْق، ثم يقال للحبِّ المأكون رَيْحان في قوله تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}.
وقيل لأَعرابي: إِلى أَين؟ فقال: أَطلب من رَيْحان الله، أي من رِزقِه.
وفى الصَّحِيح: «الأَرْواح جُنُود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، ما تنكر منها اختلف».
قال الشاعر:
أَرواحنا مِثْلُ أَجنادٍ مجنَّدة ** لله في الأَرض بالأَهواءِ تختلف

فما تناكر منها فهو مختلف ** وما تعارف منها فهو يأْتلف

والرُّوح في القرآن ورد على سبعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الرّحمة: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} أي رحمة.
الثانى: بمعنى المَلَك الذي يكون في إِزاءِ جميع الخَلْقَ يوم القيامة: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا}.
الثالث: بمعنى جبريل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}، {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}.
الرَّابع: بمعنى الوحى والقرآن: {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا}.
الخامس: بمعنى عيسى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا}، {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}.
السادس: في شأْن آدم عليه السّلام واختصاصِه بفضله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}.
السّابع: بمعنى اللطيفة التى فيها مَدَد الحياة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}، {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}.
وجميع ما تقدّم من الكلام على الرُّوح إِنما هو تفصيل من حيث اللفظ.
أَمَّا أَقسام الرّوح من حيث العِلْم فالرُّوح في الأَصل ثلاثة أَنواع: حيوانى، وطبيعىّ، ونفسانى.
فمركز الرّوح الحيوانى القلب، ومركز الرّوح الطَّبيعى الدم، ومحلُّ الرّوح النفسانى الدماغ.
فالرّوح الحيوانى يصل إِلى جميع الأَعضاءِ بواسطة العُرُوق الضَّوارب الَّتى تسمّى الشرايين.
والرُّوح الطبيعى يصل إِلى أَطراف البَدَن بواسطة الأَورِدَةِ.
والرّوح النَّفسانى يَنْتشر من القَرْن إِلى القَدَم بواسطة الأَعصاب.
وثمرة الرّوح الحيوانىّ الحياةُ والرَّاحة، وثمرة الرّوح الطبيعى القوّة والقدرة، وثمرة الرّوح النفسانى الحِسّ والحركة. وأَمَّا حقيقة الرّوح فهى لطيفة ربّانيَّة، وعُنصر من عناصر العالَم العلوىِّ تتصل بمدَدٍ ربَّانىّ إِلى العالم السُّفلىّ. وعلى حسب درجة الحيوانات وتفاوت الحالات التى لهم تتَّصل بهم. ولما كان الإِنسان في الصّورة والصّفة والمعنى أَكمل من جميع الحيوانات كان المتَّصل به من ذلك أَفضل الأَرواح.
وليس لأَحد من العالمين وقوف على سرِّ تلك اللَّطيفة وحقيقته، والله سبحانه المنفرد بعلم ذلك.
والحكمة فيه إِن شاءَ الله تعالى أَن يتأَمّل الإِنسان ويُسلِّطَ قوّة فهمه وفكره، ويتحقَّق أَنَّ الرُّوح الذي جعل الله الحياة والرَّوْح والراحة والقُوّة والقدرة والحِسّ والحركة والفهم والفكر والسّمع والبصر والنُطْق والفصاحة والعلم والعقل والمعرفة من ثمراته ونتائجه، وله به نسب وإِضافة من وجوه عدّة، وهو يباشره ويعاشره مدَّة حياته وطولَ عمره، في اليقظة والمنام والقُعُود والقيام، ودوام الموافقة والمرافقة والصّحبة، ومع ذلك لا يصل عِلمُه إِلى شىءٍ من كُنْه حقيقته ودَرْكِ معرفته، فكيف يطمع في الوصول إِلى ساحة إِدراك جلال من تنزَّه من الكمّ والكيف، وتقدّس ذاتُه عن الرَيْنِ والرّيب، وبَعُدَتْ صفاته عن الشَّين والعيب في عزَّة جلاله، ولا وقوف عليه ولا وصول إِليه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
والرِّيح معروفة، وهى- فيما قيل- الهواءُ المتحرك.
وعامة المواضع الَّتى ذكر الله تعالى فيها الرِّيح بلفظ الواحد فعبارةٌ عن العذاب، وكلُّ موضع ذكر بلفظ الجمع فعبارة عن الرّحمة؛ كقوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا}، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا}.
وأَمّا قوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} فالأَظهر فيه الرَّحمة، وقرئ بلفظ الجمع وهو أَصحّ.
وقد يستعار الرِّيح للغلبة نحو: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، وفى الأَثر: «لولا الريح لأَنتنَ ما بين السّماء والأَرض».
ويقال لمن لا أَصل لكلامه: كلامه ريح في فسيح وقال:
وثقنا منك بالكرم الصّريح ** فأَقدمنا على الفعل القبيح

فأَرسلْ لى رِياح الفَضْلِ بُشْرًا ** فما بيدىَّ شىءٌ غير ريح

وقد ورد الريح في القرآن على سبعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى القوّة والدَّولة: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
الثاني: بمعنى العذاب في العقوبة: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}، {رِيحًا صَرْصَرًا}.
الثالث: بمعنى نَسَمَاتِ الرحمة: {يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}.
الرَّابع: بمعنى اللاَّقحات {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}.
الخامس: بمعنى مسخَّرات المراكب في البحار لمنافع السُّفَّار والتُجَّار: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}.
السّادس: بمعنى رياح النَّصر: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا}.
السّابع: بمعنى ريح المضَّرة والعذاب: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا}، {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ}.
وقوله تعالى: {لاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ} أي من فَرَجِه ورحمته، وذلك بعض الرّوح.
وراحَ فلان إِلى أَهله، وإِمّا لأَنه أَتاهم في السرعة كالرِّيح، أَو لأَنَّه أَستفاد برجوعه إِليهم رَوْحًا من المسرّة. والله أَعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)}.
القرآن شفاءٌ من داء الجهل للعلماء، وشفاءٌ من داء الشِّرْكِ للمؤمنين، وشفاءٌ من داء النكرة للعارفين، وشفاء من لواعج الشوق للمحبين، وشفاء من داء الشطط للمريدين والقاصدين، وأنشدوا:
وكُتْبُكَ حَوْلِي لا تفارق مضجعي ** وفيها شفاءٌ للذي أنا كاتِمُ

قوله: {وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَارًا}: الخطاب خطابٌ واحد، الكتابُ كتابٌ واحد، ولكنه لقوم رحمةٌ وشفاء، ولقوم سخطٌ وشقاء، قومٌ أنار بصائرهم بنور التوحيد فهو لهم شفاء، وقوم أغشي على بصائرهم بستر الجحود فهو لهم شقاء.
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)}.
إذا نزعنا عنه موجباتِ الخوفِ، وأرخينا له حَبْلَ الإمهال، وهَيَّأْ له أسبابَ الرفاهية اعترته مغاليطُ النسيانِ، واستولت عليه دواعي العصيان، فأعرض عن الشكر، وتباعد عن بساط الوفاق.
ويقال إعراضُه في هذا الموضوع نسيانُه، ورؤية الفضل منه لا من الحقِّ، وتوهمه أنَّ ما به من النِّعم فباستحقاق طاعةٍ أخلصها أو شدةٍ قاساها.. وهذا في التحقيقق شِرْكٌ.
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)}.
كُلٌّ يترشح بمُودَع باطنه، فالأَسِرَّةُ تدل على السريرة، وما تُكِنُّه الضمائرُ يلوح على السرائر، فَمَنْ صفا مِنَ الكدورة جوهرهُ لا يفوح منه إلا نَشْرُ مناقبه، ومنْ طبِعَتْ على الكدورِة طينتُه فلا يشمُّ مَنْ يحوم حوله إلا ريحَ مثالبه.
ويقال حركات الظواهر تدُلُّ وتُخْبِرُ عن بواطنِ السرائر.
ويقال حَبُّ (...) لا يُنْبِتُ غضَّ العود.
ويقال من عُجِنَتْ بماء الشِّقْوةِ طينتُه، وطُبِعَتْ على النَكرَةِ جِبِلَّتُه لا تسمح بالتوحيد قريحتُه، ولا تنطِقُ بالتوحيد عبارتُه.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}.
أرادوا أن يجادلوه ويُغَلِّطُوه فَأَمَرَه أن ينطق بلفظٍ يُفْصِحُ عن أقسام الروح؛ لأَنَّ ما يُطْلَقُ عليه لفظُ {الرُّوحِ} يدخل تحت قوله تعالى: {قل الرُّوحُ مِنْ أَمرِ رَبّىَ}.
ويقال إن روح العبد لطيفة أودعها الله سبحانه في القالب، وجعلها محل الأحوال اللطيفة والأخلاق المحمودة، وكما يصح أن يكون البَصَرُ محلَّ الرؤية والأذنُ محلَّ السمع.. إلى آخره، والبصير والسامع إنما هو الجملة- وهو الإنسان- فكذلك محل الأوصاف الحميدة الروح، ومحل الأوصاف المذمومة النَّفْس، والحكُم أو الاسمُ راجعٌ إلى الجملة.
وفي الجملة الروح مخلوقة، والحق أجرى العادة بأنيخلق الحياة للعبد ما دام الروح في جسده.
والروح لطيفة تقررت للكافة طهارتها ولطافتها، وهي مخلوقة قبل الأجساد بألوفٍ من السنين. وقيل إنه أدركها التكليف، وإن لها صفاء التسبيح، وصفاء المواصلات، والتعريف من الحق.
{وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا}: لأن أحدًا لم يشاهد الروح ببصره.
{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)}.
سُنَّةُ الحقِّ سبحانه مع أحبائه وخواص عباده أن يُدِيمُ لهم افتقارهم إليه، ليكونوا في جميع الأحوال مُنْقادين لجريانِ حُكْمِه، وألا يتحركَ فيهم عِرقٌ بخلافِ اختياره، وعلى هذه الجملة خاطب حبيبَه- صلوات الله عليه- بقوله: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}: فمن كان استقلاله بالله يقدِّم مرادَ سيده- في العزل والولاية- على مراد نفسه.
{إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)}.
والمقصودُ من هذا إدامةُ تَفَرُّدِ سِرَّهِ صلى الله عليه وسلم به سبحانه دونَ غيره. اهـ.

.قال ابن القيم:

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
و{من} هنا لبيان الجنس لا للتبعيض فإن القرآن كله شفاء كما قال في الآية الأخرى فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والريب فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أشجع في إزالة الداء من القرآن.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء فقال: بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم فقالوا: أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه فهل عند أحد منكم شيء فقال: بعضهم نعم والله إني لأرقى ولكن والله استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه ويقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبة فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه فقال بعضهم: اقتسموا فقال الذي رقى لا نفعل حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان فننظر بما يأمرنا فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك فقال: «وما يدريك إنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم اقتسموا واضربوا لى معكم سهما» فقد أثر هذا الدواء في هذا الداء وأزاله حتى كأن لم يكن وهو أسهل دواء وأيسره ولو أحسن العبد التداوي بالفاتحة لرأى لها تأثيرا عجيبا في الشفاء ومكثت بمكة مدة تعتريني أدواء ولا أجد طبيبا ولا دواء فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأري لها تأثيرا عجيبا فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما وكان كثير منهم يبرأ سريعا.
ولكن هاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن الأذكار والآيات أوالأدعية التي يستشفى بها ويرقابها هي في نفسها نافعة شافية ولكن تستدعى قبول المحل وقوة همة الفاعل وتأثيره فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المنفعل أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول فكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام وكان للراقى نفس فعالة وهمة مؤثرة في إزالة الداء.
وكذلك الدعاء فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب ولكن قد يتخلف أثره عنه إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا وإما لحصول المانع من الاجابة من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب على القلوب واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو وغلبتها عليها كما في صحيح الحاكم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أدعو الله وأنتم موقنون بالاجابة».
واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه فهذا دواؤنا نافع مزيل للداء ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوته وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إن الله طيب لايقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يارب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك» وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه: أصاب بني إسرائيل بلاء فخرجوا مخرجا فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة وترفعون الي أكفا قد سفكتم بها الدماء وملأتم بها بيوتكم من الحرام الآن حين اشتد غضبي عليكم ولن تزدادوا مني الابعدا، وقال أبو ذر: يكفى من الدعاء البرأ ما يكفى الطعام من الملح. اهـ.