فصل: من فوائد الجصاص في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الجصاص في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}.
أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى الْجِنْسِ وَفِيهِمْ الْكَافِرُ الْمُهَانُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَرَّمَهُمْ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَعَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُكَرَّمِ بِالنِّعْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِيهِمْ مَنْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَجْرَى الصِّفَةَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ كَقَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} لِمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ أَجْرَى الصِّفَةَ عَلَى الْجَمَاعَةِ.
قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قِيلَ: إنَّهُ يُقَالُ هَاتُوا مُتَّبِعِي إبْرَاهِيمَ هَاتُوا مُتَّبِعِي مُوسَى هَاتُوا مُتَّبِعِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُومُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْأَنْبِيَاءَ وَاحِدًا وَاحِدًا فَيَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، ثُمَّ يَدْعُو بِمُتَّبِعِي أَئِمَّةِ الضَّلَالِ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: إمَامُهُ نَبِيُّهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: إمَامُهُ كِتَابُ عَمَلِهِ.
وَقَالَ أَبُو عبيدة: بِمَنْ كَانُوا يَأْتَمُّونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: {بِإِمَامِهِمْ} بِكِتَابِهِمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْفَرَائِضِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: مَنْ كَانَ فِي أَمْرِ هَذِهِ الدُّنْيَا وَهِيَ شَاهِدَةٌ لَهُ مِنْ تَدْبِيرهَا وَتَصْرِيفِهَا وَتَقْلِيبِ النِّعَمِ فِيهَا أَعْمَى عَنْ اعْتِقَادِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَاهَا، وَهُوَ فِي الْآخِرَة الَّتِي هِيَ غَائِبَةٌ عَنْهُ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
قَوْله تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السِّلْمِيِّ قَالَا: دُلُوكُهَا غُرُوبُهَا.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ مَيْلُهَا وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ قَالُوا: إنَّ الدُّلُوكَ الْمَيْلُ، وَقَوْلُهُمْ مَقْبُولٌ فِيهِ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَيْلُ لِلزَّوَالِ وَالْمَيْلُ لِلْغُرُوبِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الزَّوَالَ فَقَدْ انْتَظَمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ؛ إذْ كَانَتْ هَذِهِ أَوْقَاتًا مُتَّصِلَةً بِهَذِهِ الْفُرُوضِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ غَسَقُ اللَّيْلِ غَايَةً لِفِعْلِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فِي مَوَاقِيتِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ غَسَقَ اللَّيْلِ انْتِصَافُهُ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَأَنَّ تَأْخِيرَهَا إلَى مَا بَعْدَهُ مَكْرُوهٌ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ غُرُوبَ الشَّمْسِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بَيَانَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَنَّهُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي غَسَقِ اللَّيْلِ، فَرَوَى مَالِكٌ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: غَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ.
وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: دُلُوكُ الشَّمْسِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ حِينَ تَجِبُ الشَّمْسُ.
قَالَ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: دُلُوكُ الشَّمْسِ حِينَ تَجِبُ الشَّمْسُ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ: هَذَا غَسَقُ اللَّيْلِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: غَسَقُ اللَّيْلِ غَيْبُوبَةُ الشَّمْسِ.
وَعَنْ الحسن: {غَسَقُ اللَّيْلِ} صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ: غَسَقُ اللَّيْلِ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: غَسَقُ اللَّيْلِ انْتِصَافُهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ تَأَوَّلَ دُلُوكَ الشَّمْسِ عَلَى غُرُوبِهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ غَسَقِ اللَّيْلِ عِنْدَهُ غُرُوبَهَا أَيْضًا لِأَنَّهُ جَعَلَ الِابْتِدَاءَ الدُّلُوكَ وَغَسَقُ اللَّيْلِ غَايَةٌ لَهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ غَايَةً لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ هُوَ الِابْتِدَاءُ وَهُوَ الْغَايَةُ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالدُّلُوكِ غُرُوبَهَا فَغَسَقُ اللَّيْلِ هُوَ إمَّا الشَّفَقُ الَّذِي هُوَ آخِرُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوْ اجْتِمَاعُ الظُّلْمَةِ وَهُوَ أَيْضًا غَيْبُوبَةُ الشَّفَقِ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ إلَّا بِغَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ آخِرَ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ الْمُسْتَحَبِّ وَهُوَ انْتِصَافُ اللَّيْلِ، فَيَنْتَظِمُ اللَّفْظُ حِينَئِذٍ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ.
قَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وَتَقْدِيرُهُ: أَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ لِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ وَلَا قِرَاءَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاجِبَةٌ إلَّا فِي الصَّلَاةِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَاهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَجْعَلَ الْقِرَاءَةَ عِبَارَةً عَنْ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ لِلْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى الْمَجَازِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك} وَيَسْتَحِيلُ التَّهَجُّدُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ لَيْلًا، وَالْهَاءُ فِي قوله: {بِهِ} كِنَايَةٌ عَنْ قُرْآنِ الْفَجْرِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ الْقِرَاءَةِ لَا مَكَانُ التَّهَجُّدِ بِالْقُرْآنِ الْمَقْرُوءِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَاسْتِحَالَةُ التَّهَجُّدِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ.
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْت لَكَانَتْ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الْقِرَاءَةَ عِبَارَةً عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا وَفُرُوضِهَا.
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك} رُوِيَ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: يَحْسَبُ أَحَدُكُمْ إذَا قَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ إلَى آخِرِهِ أَنَّهُ قَدْ تَهَجَّدَ، لَا، وَلَكِنَّ التَّهَجُّدَ الصَّلَاةُ بَعْدَ رَقْدَةٍ ثُمَّ الصَّلَاةُ بَعْدَ رَقْدَةٍ ثُمَّ الصَّلَاةُ بَعْدَ رَقْدَةٍ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: وَعَنْ الْأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ قَالَا: التَّهَجُّدُ بَعْدَ النَّوْمِ.
وَالتَّهَجُّدُ فِي اللُّغَةِ السَّهَرُ لِلصَّلَاةِ أَوْ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَالْهُجُودُ النَّوْمُ، وَقِيلَ: التَّهَجُّدُ التَّيَقُّظُ بِمَا يَنْفِي النَّوْمَ.
وَقَوْلُهُ: {نَافِلَةً لَك} قَالَ مُجَاهِدٌ: وَإِنَّمَا كَانَتْ نَافِلَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَكَانَتْ طَاعَاتُهُ نَافِلَةً أَيْ زِيَادَةً فِي الثَّوَابِ وَلِغَيْرِهِ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: نَافِلَةٌ: تَطَوُّعًا وَفَضِيلَةً.
وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو غَالِبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُمَامَةَ قَالَ: إذَا وَضَعْت الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ قَعَدْت مَغْفُورًا، وَإِنْ قُمْت تُصَلِّي كَانَتْ لَك فَضِيلَةً وَأَجْرًا، فَقَالَ لَهُ رِجْلٌ: يَا أَبَا أُمَامَةَ أَرَأَيْت إنْ قَامَ يُصَلِّي يَكُونُ لَهُ نَافِلَةً؟ قَالَ: لَا إنَّمَا النَّافِلَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ نَافِلَةً وَهُوَ يَسْعَى فِي الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا يَكُونُ لَك فَضِيلَةً وَأَجْرًا فَمَنَعَ أَبُو أُمَامَةَ أَنْ تَكُونَ النَّافِلَةُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْك أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ؟ قَالَ قُلْت: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتَهُمْ فَصَلِّهَا مَعَهُمْ لَك نَافِلَةٌ».
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْوُضُوءُ يُكَفِّرُ مَا قَبْلَهُ ثُمَّ تَصِيرُ الصَّلَاةُ نَافِلَةً قِيلَ لَهُ: أَنْتَ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ غَيْرُ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ وَلَا أَرْبَعٍ وَلَا خَمْسٍ» فَأَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ النَّافِلَةَ لِغَيْرِهِ، النَّافِلَةُ هِيَ الزِّيَادَةُ بَعْدَ الْوَاجِبِ وَهِيَ التَّطَوُّعُ وَالْفَضِيلَةُ، وَمِنْهُ النَّفَلُ فِي الْغَنِيمَةِ وَهُوَ مَا يَجْعَلُهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْجَيْشِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ سِهَامِهَا، بِأَنْ يَقُولَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ.
قَوْله تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى طَبِيعَتِهِ.
وَقِيلَ: عَلَى عَادَتِهِ الَّتِي أَلِفِهَا وَفِيهِ تَحْذِيرٌ مِنْ إلْفِ الْفَسَادِ وَالْمُسَاكَنَةِ إلَيْهِ فَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: عَلَى أَخْلَاقِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: شَاكِلَتُهُ مَا يُشَاكِلُهُ وَيَلِيقُ بِهِ وَيُشْبِهُهُ، فَاَلَّذِي يُشَاكِلُ الْخَيِّرَ مِنْ النَّاسِ الْخَيْرُ وَالصَّلَاحُ وَاَلَّذِي يُشَاكِلُ الشِّرِّيرَ الشَّرُّ وَالْفَسَادُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} يَعْنِي: الْخَبِيثَاتِ مِنْ الْكَلَامِ لِلْخَبِيثِينَ مِنْ النَّاسِ {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} يَعْنِي: الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْكَلَامِ لِلطَّيِّبِينَ مِنْ النَّاسِ.
وَيُرْوَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِقَوْمٍ فَكَلَّمُوهُ بِكَلَامٍ قَبِيحٍ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَدًّا حَسَنًا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّمَا يُنْفِقُ كُلُّ إنْسَانٍ مَا عِنْدَهُ.
قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} اُخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ الَّذِي سَأَلُوا عَنْهُ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ جِبْرِيلُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفِ وَجْهٍ لِكُلِّ وَجْهٍ سَبْعُونَ أَلْفِ لِسَانٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ رُوحَ الْحَيَوَانِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ.
قَالَ قَتَادَةُ: الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ.
وَرُوحُ الْحَيَوَانِ جِسْمٌ رَقِيقٌ عَلَى بِنْيَةٍ حَيَوَانِيَّةٍ فِي كُلِّ جُزْءٍ.
مِنْهُ حَيَاةٌ، وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكُلُّ حَيَوَانٍ فَهُوَ رُوحٌ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مِنْ الْأَغْلَبِ عَلَيْهِ الرُّوحُ وَمِنْهُمْ مِنْ الْأَغْلَبِ عَلَيْهِ الْبَدَنُ.
وَقِيلَ: أَنَّهُ لَمْ يُجِبْهُمْ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُوكَلُوا إلَى مَا فِي عُقُولِهِمْ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا لِلِارْتِيَاضِ بِاسْتِخْرَاجِ الْفَائِدَةِ.
وَرُوِيَ فِي كِتَابِهِمْ أَنَّهُ إنْ أَجَابَ عَنْ الرُّوحِ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِصْدَاقًا لِمَا فِي كِتَابِهِمْ. وَالرُّوحُ قَدْ يُسَمَّى بِهِ أَشْيَاءَ، مِنْهَا الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْك رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} سَمَّاهُ رُوحًا تَشْبِيهًا بِرُوحِ الْحَيَوَانِ الَّذِي بِهِ يَحْيَى.
وَالرُّوحُ الْأَمِينُ جِبْرِيلُ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ سُمِّيَ رُوحًا عَلَى نَحْوِ مَا سُمِّيَ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أَيْ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي يَعْلَمُهُ رَبِّي.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا} يَعْنِي: مَا أُعْطِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَّا قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ بِحَسَبِ حَاجَتِكُمْ إلَيْهِ، فَالرُّوحُ مِنْ الْمَتْرُوكِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ النَّصُّ عَلَيْهِ لِلْمَصْلَحَةِ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ جَوَابِ السَّائِلِ عَنْ بَعْضِ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالِاسْتِخْرَاجِ، وَهَذَا فِي السَّائِلِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَاسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي، فَأَمَّا إنْ كَانَ مُسْتَفْتِيًا قَدْ بُلِيَ بِحَادِثَةٍ احْتَاجَ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فَعَلَى الْعَالِمِ بِحُكْمِهَا أَنْ يُجِيبَهُ عَنْهَا بِمَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآيات:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
{أَقِمْ الصَّلَاةَ}: أَيْ اجْعَلْهَا قَائِمَةً، أَيْ دَائِمَةً.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْلُهُ: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: زَالَتْ عِنْدَ كَبِدِ السَّمَاءِ؛ قَالَهُ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَائِفَةٌ سِوَاهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الْغُرُوبُ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٌّ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
المسألة الثالثة:
{غَسَقِ اللَّيْلِ}: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: إقْبَالُ ظُلْمَتِهِ.
الثَّانِي: اجْتِمَاعُ ظُلْمَتِهِ.
الثَّالِثُ: مَغِيبُ الشَّفَقِ.
وَقَدْ قَيَّدْت عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الدُّلُوكَ إنَّمَا سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَدْلُكُ عَيْنَيْهِ إذَا نَظَرَ إلَى الشَّمْسِ فِيهِ، أَمَّا فِي الزَّوَالِ فَلِكَثْرَةِ شُعَاعِهَا، وَأَمَّا فِي الْغُرُوبِ فَلِيَتَبَيَّنَهَا، وَهَذَا لَوْ نُقِلَ عَنْ الْعَرَبِ لَكَانَ قَوِيًّا، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
هَذَا مُقَامُ قَدَمَيْ رَبَاحِ ** حَتَّى يُقَالَ دَلَكْت بَرَاحِ

كَقَوْلِهِ قَطَامِ وَجَذَامِ، وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ.
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ مَيْلُهَا.
وَغَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ وَرِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْهُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ.