فصل: تفسير الآيات (88- 93):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالنَّاسُ يَتَمَارَوْنَ فِي الشَّمْسِ لَمْ تَغِبْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: نَرَى أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغِبْ.
قَالَ: هَذَا وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ وَقْتُ هَذِهِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}؛ قَالَ: وَهَذَا دُلُوكُ الشَّمْسِ، وَهَذَا غَسَقُ اللَّيْلِ.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ: أَنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الْمَيْلُ، وَلَهُ أَوَّلٌ عِنْدَنَا وَهُوَ الزَّوَالُ، وَآخِرٌ وَهُوَ الْغُرُوبُ، وَكَذَلِكَ الْغَسَقُ هُوَ الظُّلْمَةُ، وَلَهَا ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ، فَابْتِدَاؤُهَا عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ، وَانْتِهَاؤُهَا عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، فَقَوْلُهُ: دُلُوكِ الشَّمْسِ يَتَنَاوَلُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَقَوْلُهُ: {غَسَقِ اللَّيْلِ} اقْتَضَى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَقَوْلُهُ: {قُرْآنَ الْفَجْرَ} اقْتَضَى صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَهِيَ:
المسألة الرابعة:
وَسَمَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ قُرْآنًا لِيُبَيِّنَ أَنَّ رُكْنَ الصَّلَاةِ وَمَقْصُودَهَا الْأَكْبَرُ الذِّكْرُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ}؛ مَعْنَاهُ صَلُّوا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَطْوَلُ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةً، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي».
وَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: «اقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» مَعْنَاهُ صَلُّوا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهِيَ أَطْوَلُ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةً.
المسألة الخامسة:
قَوْلُهُ: {الْفَجْرِ}: يَعْنِي سَيَلَانَ الضَّوْءِ، وَجَرَيَانَ النُّورِ فِي الْأُفُقِ، مِنْ فَجَرَ الْمَاءُ وَهُوَ ظُهُورُهُ وَسَيَلَانُهُ، فَيَكُونُ كَثِيرًا، وَمِنْ هَذَا الْفَجْرُ وَهُوَ كَثْرَةُ الْمَاءِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ النَّهَارِ وَأَوَّلُ الْيَوْمِ وَالْوَقْتُ الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ؛ وَتَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الصُّبْحِ فِعْلًا وَتَجِبُ إلْزَامًا فِي الذِّمَّةِ وَحَتْمًا، وَيُسْتَحَبُّ فِيهِ فِعْلُهَا نَدْبًا، حَسْبَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ فِيهَا مِنْ مُوَاظَبَتِهِ عَلَى صَلَاتِهَا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَنَازِلِ، لَا بِالطَّالِعِ مِنْهَا، وَلَا بِالْغَارِبِ، وَلَا بِالْمُتَوَسِّطِ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّك إذَا تَرَاءَيْت الطَّالِعَ أَوْ الْغَارِبَ فَتَرَاءَى الْفَجْرُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْأَصْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالرُّجُوعُ إلَى الْبَدَلِ؛ وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ بَيِّنَةً لِيَتَسَاوَى فِي دَرْكِهَا الْعَامِّيُّ وَالْخَاصِّيُّ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ نَصَبَهَا بَيِّنَةً لِلْأَبْصَارِ، ظَاهِرَةً دُونَ اسْتِبْصَارٍ، فَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّبَهَا خُفْيَةً؛ فَذَلِكَ عَكْسُ الشَّرِيعَةِ، وَخَلْطُ التَّكْلِيفِ وَتَبْدِيلُ الْأَحْكَامِ.
المسألة السادسة:
قَوْلُهُ: {إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}: يَعْنِي مَشْهُودًا بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ وَالْكَاتِبِينَ.
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ».
وَبِهَذَا فُضِّلَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَيُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ الْعَصْرُ، فَيَكُونَانِ جَمِيعًا أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ، وَيَتَمَيَّزُ عَلَيْهَا الصُّبْحُ بِزِيَادَةِ فَضْلٍ حَتَّى تَكُونَ الْوُسْطَى، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة السابعة:
ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ يَتَمَادَى وَقْتُهَا مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ وُجُوبَهَا عَلَى الدُّلُوكِ، وَهَذَا دُلُوكٌ كُلُّهُ؛ قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي تَفْصِيلٍ، وَأَشَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: وَقْتُ الْمَغْرِبِ يَكُونُ مِنْ الْغُرُوبِ إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ؛ لِأَنَّهُ غَسَقٌ كُلُّهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَوْلُهُ فِي مُوَطَّئِهِ الَّذِي قَرَأَهُ طُولَ عُمُرِهِ، وَأَمْلَاهُ حَيَاتَهُ.
وَمِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِيهَا، وَأَشَرْنَا إلَيْهَا فِي كُتُبِنَا عِنْدَ جَرَيَانِهَا أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُعَلَّقَةَ بِالْأَسْمَاءِ، هَلْ تَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِهَا أَمْ بِآخِرِهَا؟ فَيَرْتَبِطُ الْحُكْمُ بِجَمِيعِهَا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، وَجَرَى الْخِلَافُ فِي مَسَائِلِ مَالِكٍ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ عِنْدَهُ.
وَالْأَقْوَى فِي النَّظَرِ أَنْ يَرْتَبِطَ الْحُكْمُ بِأَوَائِلِهَا، لِئَلَّا يَعُودَ ذِكْرُهَا لَغْوًا، فَإِذَا ارْتَبَطَ بِأَوَائِلِهَا جَرَى بَعْدَ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي تَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ إلَى الْآخِرِ أَمْ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى مَا يُعْطِيه الدَّلِيلُ، ولابد مِنْ تَعَلُّقِ الصَّلَاةِ بِالزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الدُّلُوكِ.
وَكُنَّا نُعَلِّقُهَا بِالْجَمِيعِ، إلَّا أَنَّ صَلَاةَ الْعَصْرِ قَدْ أَخَذَتْ مِنْهَا وَقْتَهَا، مِنْ كَوْنِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ؛ فَانْقَطَعَ حُكْمُ الظُّهْرِ لِدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، فَبَقِيَ النَّظَرُ فِي اشْتِرَاكِهِمَا مَعًا، بِدَلِيلٍ آخَرَ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ طُولٌ.
وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَأَمْرُهَا أَبْيَنُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الدُّلُوكِ، وَهُوَ الْغُرُوبُ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا صَلَاةٌ تُقْطَعُ بِهَا، وَتَأْخُذُ الْوَقْتَ مِنْهَا إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ، فَهَلْ يَتَمَادَى وَقْتُهَا إلَى دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، أَمْ يَتَعَلَّقُ بِالْأَوَّلِ خَاصَّةً؟ وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ هَذَا كُلَّهُ، فَقَالَ: {وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعِشَاءِ}.
وَقَالَ أَيْضًا فِيهِ: {وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ}؛ فَارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِبَيَانِ مُبَلِّغِ الشَّرِيعَةِ.
الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
قَوْلُهُ: {فَتَهَجَّدْ بِهِ}: يَعْنِي اسْهَرْ بِهِ.
وَالْهُجُودُ: النَّوْمُ، وَالتَّهَجُّدُ تَفَعُّلٌ، وَهُوَ لِاكْتِسَابِ الْفِعْلِ وَإِثْبَاتِهِ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ يَأْتِي لِنَفْيِهِ فِي حُرُوفٍ مَعْدُودَةٍ، جِمَاعُهَا سَبْعَةٌ: تَهَجَّدَ: نَفَى الْهُجُودَ، تَخَوَّفَ: نَفَى الْخَوْفَ، تَحَنَّثَ: نَفَى الْحِنْثَ، تَنَجَّسَ: أَلْقَى النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ.
تَحَرَّجَ، نَفَى الْحَرَجَ، تَأَثَّمَ: نَفَى الْإِثْمَ، تَعَذَّرَ: نَفَى الْعُذْرَ.
تَقَذَّرَ: نَفَى الْقَذَرَ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ: تَجَزَّعَ: نَفَى الْجَزَعَ.
المسألة الثانية:
قَوْلُهُ: {نَافِلَةً لَك}: وَالنَّفَلُ هُوَ الزِّيَادَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ؛ وَفِي وَجْهِ الزِّيَادَةِ هَاهُنَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى فَرْضِهِ خَاصَّةً دُونَ النَّاسِ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ: {نَافِلَةً لَك}؛ أَيْ زِيَادَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ شَيْئًا؛ إذْ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ فَاسِدٌ؛ إذْ نَفْلُهُ وَفَرْضُهُ لَا يُصَادِفُ ذَنْبًا، ولَا صَلَاةُ اللَّيْلِ وَلَا صَلَاةُ النَّهَارِ تُكَفِّرَانِ خَطِيئَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي حَدِّهِ وُجُودًا، مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ مُؤَاخَذَةً لَوْ كَانَ لِفَضْلِ الْمَغْفِرَةِ مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَمِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامُ اللَّيْلِ، {وَكَانَ يَقُومُ حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ}؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سورة الْأَحْزَاب وَفِي سورة الْمُزَّمِّلِ.
المسألة الثالثة:
فِي صِفَةِ هَذَا التَّهَجُّدِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ النَّوْمُ، ثُمَّ الصَّلَاةُ، ثُمَّ النَّوْمُ، ثُمَّ الصَّلَاةُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ الصَّلَاةُ بَعْدَ النَّوْمِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ.
وَهَذَا دَعَاوَى مِنْ التَّابِعِينَ فِيهَا، وَلَعَلَّهُمْ إنَّمَا عَوَّلُوا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنَامُ وَيُصَلِّي، وَيَنَامُ وَيُصَلِّي، فَعَوَّلُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ كَانَ امْتِثَالًا لِهَذَا الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
فِي وَجْهِ كَوْنِ قِيَامِ اللَّيْلِ سَبَبًا لِلْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَارِئَ يَجْعَلُ مَا شَاءَ مِنْ فِعْلِهِ سَبَبًا لِفَضْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ، أَوْ بِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فِيهِ الْخَلْوَةُ مَعَ الْبَارِئِ وَالْمُنَاجَاةُ دُونَ النَّاسِ؛ فَيُعْطَى الْخَلْوَةَ بِهِ وَمُنَاجَاتُهُ فِي الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ مَقَامًا مَحْمُودًا، وَيَتَفَاضَلُ فِيهِ الْخَلْقُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ؛ فَأَجَلُّهُمْ فِيهِ دَرَجَةً مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْ الْمَحَامِدِ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ، وَيَشْفَعُ وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا}.
قَدْ أَطَلْنَا النَّفَسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ وَشَرْحِ الصَّحِيحِ بِمَا يَقِفُ بِكُمْ فِيهَا عَلَى الْمَعْرِفَةِ، فَأَمَّا الْآنَ فَخُذُوا نَبْذَةً تُشْرِفُ بِكُمْ عَلَى الْغَرَضِ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ قَالَ بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ إذْ مَرَّ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ فَقَالَ: مَا رَابَكُمْ إلَيْهِ؟ لَا يَسْتَقْبِلْنَكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ قَالُوا: سَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَعَلِمْت أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ، فَقُمْت مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ} الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: لَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ جَوَابٌ، وَقَدْ قَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ: إنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَهُوَ نَبِيٌّ، فَسَأَلُوهُ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ الْخَلْقِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، وَلَا يُفِيضُونَ مَعَهُمْ فِي الْمُشْكِلَاتِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ فِي الْبَيِّنِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَاتِ، وَالرُّوحُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْأَجْسَامِ، فَأَحْيَاهَا بِهِ، وَعَلِمَهَا وَأَقْدَرَهَا، وَبَنَى عَلَيْهَا الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةَ، وَالْأَخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ، وَقَابَلَهَا بِأَضْدَادِهَا لِنُقْصَانِ الْآدَمِيَّةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ إنْكَارَهَا لَمْ يَقْدِرْ لِظُهُورِ آثَارِهَا، وَإِذَا أَرَادَ مَعْرِفَتَهَا وَهِيَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ لَمْ يَسْتَطِعْ؟؛ لِأَنَّهُ قَصُرَ عَنْهَا وَقَصُرَ بِهِ دُونَهَا.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ سُبْحَانَهُ رَكَّبَ ذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةً، كَمَا قَالَ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} لِيَرَى أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى لَا يُقْدَرُ عَلَى جَحْدِهِ لِظُهُورِ آيَاتِهِ فِي أَفْعَالِهِ: فَفِي كُلِّ شَيْءٍ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِ لِكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَإِذَا وَقَفَ مُتَفَكِّرًا فِي هَذَا نَادَاهُ الِاعْتِبَارُ: لَا تَرْتَبْ، فَفِيك مِنْ ذَلِكَ آثَارٌ، اُنْظُرْ إلَى مَوْجُودٍ فِي إهَابِك لَا تَقْدِرُ عَلَى إنْكَارِهِ لِظُهُورِ آثَارِهِ، وَلَا تُحِيطُ بِمِقْدَارِهِ، لِقُصُورِك عَنْهُ فَيَأْخُذُهُ الدَّلِيلُ، وَتَقُومُ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْهِ. اهـ.

.تفسير الآيات (88- 93):

قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان بمعرض أن يقولوا: إن ذهب عليك من شيء فائت بمثله من عند نفسك ومما اكتسبته منه من الأساطير، أمره أن يجيبهم عن هذا بقوله دلالة على مضمون ما قبله: {قل}.
ولما أريد هنا المماثلة في كل التفصيل إلى جميع السور في المعاني الصادقة، والنظوم الرائقة، كما دل عليه التعبير بالقرآن، زاد في التحدي قيد الاجتماع من الثقلين وصرف الهمم للتظاهر والتعاون والتظافر بخلاف ما مضى في السور السابقة، فقال تعالى: مؤكدًا باللام الموطئة للقسم لادعائهم أنهم لو شاؤوا أتوا بمثله، والجواب حينئذ للقسم، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم: {لئن اجتمعت الإنس} الذين تعرفونهم وتعرفون ما أتوا من البلاغة والحكمة والذين لا تعرفونهم، وقدمهم لسهولة اجتماعهم بهم ولأنهم عندهم الأصل في البلاغة {والجن} الذين يأتون كهانكم ويشجعون لهم ويعلمونهم ببعض المغيبات عنهم، وترك الملائكة لأنهم لا عهد لهم بشيء من كلامهم {على أن يأتوا} أي يجددوا إيتاءً ما في وقت ما في حال اجتماعهم {بمثل هذا القرآن} أي جميعه على ما هو عليه من التفصيل، وخصه بالإشارة تنبيهًا على أن ما يقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الله وحي من الله، ليس فيه شيء من عند نفسه، وأن المراد في هذا السياق المتحدى به الذي اسمه القرآن خاصة {لا يأتون}.
ولما كانت هذه السورة مكية، فكان أكثر ما يمكن في هذه الآية أن يكون آخر المكي فيختص التحدي به، وكان المظهر إذا أعيد مضمرًا أمكن فيه الخصوص، وكان المراد إنما هو الشمول، ومتى أريد الشمول استؤنف له إحاطة باستئناف إظهار محيط كما يأتي عن الحرالي في أواخر سورة الكهف، لم يقل هنا {به} لذلك، ولئلا يظن أنه يعود على القرآن لا على مثله، بل أظهر فقال دالًا على أن المراد جميع المكي والمدني: {بمثله} أي لا مع التقيد بمعانيه الحقة الحكيمة حتى يأتوا بكلام في أعلى طبقات البلاغة، مبينًا لأحسن المعاني بأوضح المباني، ولا مع الانفكاك عنها إلى معانٍ مفتراة؛ ثم أوضح أن المراد الحكم لعجزهم مجتمعين ومنفردين متظاهرين وغير متظاهرين فقال تعالى: {ولو} ولما كان المكلفون مجبولين على المخالفة وتنافي الأغراض قال تعالى: {كان} أي جبلة وطبعًا على خلاف العادة {بعضهم لبعض ظهيرًا} أي معينًا بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه، وقد تقدم في السور المذكور فيها التحدي ما يتم هذا المعنى.