فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الزمخشري: {من كل مثل} من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه.
وقال أبو عبد الله الرازي: {من كل مثل} إشارة إلى التحدّي به بالجهات المختلفة كالتحدي بكل القرآن كالذي هنا، وبسورة مثله وبكلام من سورة كقوله: {فليأتوا بحديث مثله} ومع ظهور عجزهم أبوا {إلاّ كفورًا} انتهى ملخصًا.
وقيل: {من كل مثل} من الترغيب والترهيب وأنباء الأولين والآخرين وذكر الجنة والنار وأكثر الناس.
قيل: من كان في عهد الرسول من المشركين وأهل الكتاب.
وقيل: أهل مكة وهو الظاهر بدليل ما أتى بعده من قوله: {وقالوا لن نؤمن لك} وتقدم القول في دخول {إلاّ} بعد {أبى} في سورة براءة.
وروي في مقالتهم هذه أخبار مطولة هي في كتب الحديث والسير ملخصها أن صناديد قريش اجتمعوا وسيروا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إليهم جرت بينهم محاورات في ترك دينهم وطلبه منهم أن يوحدوا ويعبدوا الله فأرغبوه بالمال والرئاسة والملك فأبى، فقال: لست أطلب ذلك.
فاقترحوا عليه الست الآيات التي ذكرها الله هنا، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تحداهم بأن {يأتوا بمثل هذا القرآن} فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه، وانضمت إليه معجزات أخر وبينات واضحة فلزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت المحجوج، فقالوا ما حكاه الله عنهم.
وقرأ الكوفيون: {تفجره} من فجر مخففًا وباقي السبعة من فجر مشددًا، والتضعيف للمبالغة لا للتعدية، والأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار من أفجر رباعيًا وهي لغة في فجر الأرض هنا أرض مكة وهي الأرض التي فيها تصرف العالمين ومعاشهم، روي عنهم أنهم قالوا له: أزل جبال مكة وفجر لنا {ينبوعًا} حتى يسهل علينا الحرث والزرع وأحي لنا قصيًا فإنه كان صدوقًا يخبرنا عن صدقك اقترحوا لهم أولًا هذه الآية ثم اقترحوا أخرى له عليه السلام أن {تكون} له {جنة من نخيل وعنب} وهما كانا الغالب على بلادهم، ومن أعظم ما يقتنون، ومعنى {خلالها} أي وسط تلك الجنة وأثناءها.
فتسقي ذلك النخل وتلك الكروم وانتصب {خلالها} على الظرف.
وقرأ الجمهور: {تسقط} بتاء الخطاب مضارع أسقط السماء نصبًا، ومجاهد بياء الغيبة مضارع سقط السماء رفعًا، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {كسْفًا} بسكون السين وباقي السبعة بفتحها.
وقولهم {كما زعمت} إشارة إلى قوله تعالى: {إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفًا من السماء} وقيل: {كما زعمت} إن ربك إن شاء فعل.
وقيل: هو ما في هذه السورة من قوله: {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو نرسل عليكم حاصبًا} قال أبو عليّ {قبيلًا} معاينة كقوله: {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} وقال غيره: {قبيلًا} كفيلًا من تقبله بكذا إذا كفله، والقبيل والزعيم والكفيل بمعنى واحد.
وقال الزمخشري: {قبيلًا} كفيلًا بما تقول شاهدًا لصحته، والمعنى أو تأتي بالله {قبيلًا} والملائكة {قبيلًا} كقوله:
كنت منه ووالدي بريا ** وإني وقيار بها لغريب

أي مقابلًا كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} أو جماعة حالًا من الملائكة.
وقرأ الأعرج قبلًا م المقابلة.
وقرأ الجمهور: {من زخرف} وعبد الله من ذهب، ولا تحمل على أنها قراءة لمخالفة السواد وإنما هي تفسير.
وقال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله من ذهب.
وقال الزجّاج: الزخرف الزينة وتقدم شرح الزخرف.
{وفي السماء} على حذف مضاف، أي في معارج السماء.
والظاهر أن {السماء} هنا هي المظلة.
وقيل: المراد إلى مكان عال وكل ما علا وارتفع يسمى سماء.
وقال الشاعر:
وقد يسمى سماء كل مرتفع ** وإنما الفضل حيث الشمس والقمر

قيل: وقائل هذه هو ابن أبي أمية قال: لن نؤمن حتى تضع على السماء سلمًا ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول، ويحتمل أن يكون مجموع أولئك الصناديد قالوا ذلك وغيوا إيمانهم بحصول واحد من هذه المقترحات، ويحتمل أن يكون كل واحد اقترح واحدًا منها ونسب ذلك للجميع لرضاهم به أو تكون {أو} فيها للتفضيل أي قال كل واحد منهم مقالة مخصوصة منها، وما اكتفوا بالتغيية بالرقي {في السماء} حتى غيوا ذلك بأن ينزل عليهم {كتابًا} يقرؤونه، ولما تضمن اقتراحهم ما هو مستحيل في حق الله تعالى وهو أن يأتي {بالله والملائكة قبيلًا} أمره تعالى بالتسبيح والتنزيه عما لا يليق به، ومن أن يقترح عليه ما ذكرتم فقال {سبحان ربي هل كنت إلاّ بشرًا رسولًا} أي ما كنت إلاّ بشرًا رسولًا أي من الله إليكم لا مقترحًا عليه ما ذكرتم من الآيات.
وقال الزمخشري: وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلاّ العناد واللجاج، ولو جاءتهم كل آية لقالوا هذا سحر كما قال عز وعلا {ولو نزلنا عليك كتابًا في قرطاس} {ولو فتحنا عليهم بابًا من السماء فظلوا فيه يعرجون} وحين أنكروا.
الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم لم يكن انتهى وشق القمر أعظم من شق الأرض ونبع الماء من بين أصابعه أعظم من نبع الماء من الحجر.
وقرأ ابن كثير وابن عامر قال {سبحان ربي} على الخبر تعجب عليه الصلاة والسلام من اقتراحاتهم عليه، ونزه ربه عما جوزوا عليه من الإتيان والانتقال وذلك في حق الله مستحيل {هل كنت إلاّ بشرًا} مثلهم {رسولًا}، والرسل لا تأتي إلاّ بما يظهره الله عليهم من الآيات وليس أمرها إليهم إنما ذلك إلى الله. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قُلْ} للذين لا يعرِفون جلالةَ قدرِ التنزيل ولا يفهمون فخامةَ شأنه الجليل، بل يزعُمون أنه من كلام البشر {لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن} أي اتفقوا {على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان} المنعوتِ بما لا تدركه العقولُ من النعوت الجليلةِ في البلاغة وحسنِ النظم وكمالِ المعنى. وتخصيصُ الثقلين بالذكر لأن المنكِرَ لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما لا لأن غيرَهما قادرٌ على المعارضة {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} أوثر الإظهارُ على إيراد الضميرِ الراجع إلى المِثْل المذكورِ احترازًا عن أن يُتوَّهم أن له مِثْلًا معينًا وإيذانًا بأن المرادَ نفيُ الإتيانِ بمثْلٍ ما، أي لا يأتون بكلام مماثلٍ له فيما ذكر من الصفات البديعةِ وفيهم العربُ العاربة أربابُ البراعةِ والبيانِ، وهو جوابٌ للقسم الذي ينبىء عنه اللامُ الموطئةُ وسادٌّ مسدَّ جزاءِ الشرطِ ولولاها لكان جوابًا له بغير جزمٍ لكون الشرط ماضيًا كما في قول زهير:
وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألة ** يقول لا غائبٌ مالي ولا حرِمُ

وحيث كان المرادُ بالاجتماع على الإتيان بمثل القرآنِ مطلقَ الاتفاقِ على ذلك سواءٌ كان التصدِّي للمعارضة من كل واحدٍ منهم على الانفراد، أو من المجموع بأن يتألّبوا على تلفيق كلامٍ واحد بتلاحق الأفكارِ وتعاضُدِ الأنظار قيل: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أي في تحقيق ما يتوخَّوْنه من الإتيان بمثله وهو عطفٌ على مقدّر، أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضُهم ظهيرًا لبعض ولو كان الخ، وقد حُذف المعطوفُ عليه حذفًا مطّردًا لدِلالة المعطوفِ عليه دِلالةً واضحةً فإن الإتيانَ بمثله انتفى عند التظاهرِ فلأَنْ ينتفيَ عند عدِمه أولى، وعلى هذه النكتةِ يدور ما في إن ولو الوصليتين من التأكيد كما مر غيرَ مرة، ومحلُّه النصبُ على الحالية حسبما عُطف عليه، أي لا يأتون بمثله على كل حال مفروضٍ ولو في هذه الحال المنافيةِ لعدم الإتيانِ به فضلًا عن غيرها وفيه حسمٌ لأطماعهم الفارغةِ في رَوْم تبديل بعض آياتِه ببعض، ولا مساغَ لكون الآية تقريرًا لما قبلها من قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} كما قيل، لكن لا لِما قيل من أن الإتيانَ بمثله أصعبُ من استرداد عينِه، ونفيُ الشيء إنما يقرره نفيُ ما دونه لا نفيُ ما فوقه فإن أصعبيةَ الاستردادِ بغير أمرِه تعالى من الإتيان بمثله مما لا شُبهةَ فيه بل لأن الجملةَ القسميةَ ليست مَسوقةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل إلى المكابرين من قِبَله عليه السلام.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} كررنا وردّدنا على أنحاءٍ مختلفةٍ توجب زيادةَ تقريرٍ وبيان ووَكادةِ رسوخٍ واطمئنان {لِلنَّاسِ في هذا القرءان} المنعوتِ بما ذكر من النعوت الفاضلة {مِن كُلّ مَثَلٍ} من كل معنى بديعٍ هو الحسنُ والغرابةُ واستجلابُ النفسِ كالمَثَل ليتلقَّوْه بالقبول {فأبى أَكْثَرُ الناس} أوثر الإظهارُ على الإضمار تأكيدًا وتوضيحًا {إِلاَّ كُفُورًا} أي إلا جُحودًا، وإنما صح الاستثناءُ من الموجبُ مع أنه لا يصِح ضربتُ إلا زيدًا لأنه متأوّل بالنفي كأنه قيل: ما قَبِل أكثرُهم إلا كفورًا، وفيه من المبالغة ما ليس في أبَوْا الإيمانَ لأن فيه دِلالةً على أنهم لم يرضَوا بخَصلة سوى الكفورِ من الإيمان والتوقفِ في الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبةَ الإباءِ.
{وَقَالُواْ} عند ظهور عجزهم ووضوحِ مغلوبيّتِهم بالإعجاز التنزيليّ وغيرِه من المعجزات الباهرةِ متعللين بما لا يمكن في العادة وجودُه ولا تقتضي الحكمةُ وقوعَه من الأمور كما هو دَيدَنُ المبهوتِ المحجوج {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ} وقرئ بالتشديد {لَنَا مِنَ الأرض} أرضِ مكة {يَنْبُوعًا} عينًا لا ينضُب ماؤُها، يفعولٌ من نبع الماءُ كيعْبوب من عبّ الماءَ إذا زحَر.
{أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} أي بستانٌ تسترُ أشجارُه ما تحتها من العَرْصة {مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنهار} أي تجريها بقوة {خلالها تَفْجِيرًا} كثيرًا، والمرادُ إما إجراءُ الأنهارِ خلالها عند سقْيها أو إدامةُ إجرائِها كما ينبىء عنه الفاءُ لا ابتداؤه {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} جمع كِسْفة كقطعة وقِطَع لفظًا ومعنى، وقرئ بالسكون كسِدْرة وسِدْر وهي حالٌ من السماء والكاف في كما في محل النصبِ على أنه صفةُ مصدرٍ محذوف أي إسقاطًا مماثلًا لما زعمتَ يعنُون بذلك قولَه تعالى: {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مّنَ السماء}.
{أَوْ تَأْتِىَ بالله والملائكة قَبِيلًا} أي مقابلًا كالعشير والمعاشِر أو كفيلًا يشهد بصِحة ما تدعيه، وهو حالٌ من الجلالة وحالُ الملائكةِ محذوفةٌ لدِلالتها عليها أي والملائكةِ قُبَلأَ كما حذف الخبرُ في قوله:
فإني وقيّارٌ بها لغريب

أو جماعةً فيكون حالًا من الملائكة.
{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ} {من ذهب} وقد قرئ به وأصلُه الزينة {أَوْ ترقى في السماء} أي في معارجها فحُذف المضافُ، يقال: رقيَ في السُّلّم وفي الدرجة {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ} أي لأجل رُقيِّك فيها وحده أو لن نصدق رقيَّك فيها {حَتَّى تُنَزّلَ} منها {عَلَيْنَا كِتَابًا} فيه تصديقُك {نَّقْرَءهُ} نحن من غير أن يُتلقّى من قِبلك. عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال عبدُ اللَّه بنُ أمية: لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سُلّمًا ثم ترقى فيه وأنا أنظُر حتى تأتيَها وتأتَي معك بصك منشورٍ معه أربعةٌ من الملائكة يشهدون أنك كما تقول، وما كانوا يقصِدون بهاتيك الاقتراحاتِ الباطلة إلا العنادَ واللَّجاجَ ولو أنهم أُوتوا أضعافَ ما اقترحوا من الآيات ما زادهم ذلك إلا مكابرةً وإلا فقد كان يكفيهم بعضُ ما شاهدوا من المعجزات التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال.
{قُلْ} تعجبًا من شدة شكيمتِهم وتنزيهًا لساحة السُّبحات عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الاقتراحاتِ الشنيعة التي تكاد السمواتُ يتفطّرن منها أو عن طلبك ذلك وتنبيهًا على بطلان ما قالوه {سبحان رَبّى} وقرئ قال: سبحان ربي {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا} لا ملَكًا حتى يُتصور مني الرقيُّ في السماء ونحوُه {رَسُولًا} مأمورًا من قبل ربي بتبليغ الرسالةِ من غير أن يكون لي خِيَرةٌ في الأمر كسائر الرسلِ وكانوا لا يأتون قومَهم إلا بما يظهره الله على أيديهم حسبما يلائم حالَ قومِهم ولم يكن أمرُ الآياتِ إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله سبحانه بشيء منها، وقولُه بشرًا خبرٌ لكنت ورسولًا صفتُه. اهـ.