فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} أي اتفقوا {على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان} المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة الشأن من البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى، وتخصيص الثقلين بالذكر لأن المنكر لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما والتحدي إنما كان معهما وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثًا إلى الملك كما هو مبعوث إليهما لا لأن غيرهما قادر على المعارضة فإن الملائكة عليهم السلام على فرض تصديهم لها وحاشاهم إذ هم معصومون لا يفعلون إلا ما يؤمرون عاجزون كغيرهم {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} أي هذا القرآن وأوثر الاظهار على إيراد الضمير الراجع إلى المثل المذكور احترازًا عن أن يتوهم أن له مثلا معينًا وإيذانًا بأن المراد نفي الإتيان بمثل ما أي لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات الجليلة الشأن وفيهم العرب العرباء أرباب البراعة والبيان، وقيل: المراد تعجيز الإنس وذكر الجن مبالغة في تعجيزهم لأنهم إذا عجزوا عن الإتيان بمثله ومعهم الجن القادرون على الأفعال المستغربة فهم عن الإتيان بمثله وحدهم أعجز وليسس بذاك، وقيل: يجوز أن يراد من الجن ما يشمل الملائكة عليهم السلام وقد جاء إطلاق الجن على الملائكة كما في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا} [الصافات: 158] نعم الأكثر استعماله في غير الملائكة عليهم السلام ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وزعم بعضهم أن الملائكة عليهم السلام حيث كانوا وسائط في إتيانه لا ينبغي ادراجهم إذ لا يلائمه حينئذ {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وفيه أنه ليس المراد نفي الإتيان بمثله من عند الله تعالى في شيء ممن أسند إليهم الفعل، وجملة {لاَ يَأْتُونَ} جواب القسم الذي ينبىء عنه اللام الموطئة وساد مسد جزاء الشرط ولولاها لكان {لاَ يَأْتُونَ} جزاء الشرط وإن كان مرفوعًا بناءًا على القول بأن فعل الشرط إذا كان ماضيًا يجوز الرفع في الجواب كما في قول زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ** يقول لا غائب مالي ولا حرم

لأن أداة الشرط إذا لم تؤثر في الشرط ظاهرًا مع قربه جاز أن لا تؤثر في الجواب مع بعده، وهذا القول خلاف مذهب سيبويه ومذهب الكوفيين والمبرد كما فصل في موضعه، ولا يجوز عند البصريين مع وجود هذه اللام جعل المذكور جواب الشرط خلافًا للفراء، وأما قول الأعشى:
لئن منيت بنا عن غب معركة ** لا تلفنا عن دماء الخلق تنتفل

فاللام ليست الموطئة بل هي زائدة على ما قيل فافهم، وحيت كان المراد بالاجتماع على الإتيان بمثل القرآن مطلق الاتفاق على ذلك سواء كان التصدي للمعارضة من كل واحد منهم على الانفراد أو من المجموع بأن يتألبوا على تلفيق كلام واحد بتلاحق الأفكار وتعاضد الأنظار قال سبحانه: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أي معينا في تحقيق ما يتوخونه من الإتيان بمثله، والجملة عطف على مقدر أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم لبعض ظهيرًا ولو كان الخ؛ وهي في موضع الحال كالجملة المحذوفة، والمعنى لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ولو في مثل هذه الحال المنافية لعدم الإتيان به فضلًا عن غيرها وفيه رد لليهود أو قريش في زعمهم الإتيان بمثله، فقد روي أن طائفة من الأولين قالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الحق الذي جئت به أحق من عند الله تعالى فانا لا نراه متناسقًا كتناسق التوراة فقال صلى الله عليه وسلم لهم: أما والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله تعالى قالوا: إنا نجيئك بمثل ما تأتي به فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وفيه رواية أن جماعة من قريش قالوا له صلى الله عليه وسلم: جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فانا نحن نقدر على المجيء بمثله فنزلت، ولعل مرادهم بهذه الآية الغريبة ما تضمنه الآيات بعد وهي قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} [الإسراء: 90] إلخ وحينئذ قيل يمكن أن تكون هذه الآية مع الآيات الأخر رد لجميع ما عنوه بهذا الكلام إلا أنه ابتدأ برد قولهم: نحن نقدر إلخ اهتمامًا به فإن قولهم ذلك منشأ طلبهم الآية الغريبة.
وفي إرشاد العقل السليم أن في هذه الآية حسم أطماعهم الفارغة في روم تبديل بعض آياته ببعض ولا مساغ لكونها تقريرًا لما قبلها من قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} [الإسراء: 86] كما قيل لكن لا لما قيل من أن الإتيان بمثله أصعب من استرداد عينه ونفي الشيء إنما يقرره نفي ما دونه دون نفي ما فوقه لأن أصعبية الاسترداد بغير أمره تعالى من الإتيان المذكور مما لا شبهة فيه بل لأن الجملة القسمية ليست مسوقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل إلى المكابرين من قبله عليه الصلاة والسلام انتهى، ومنه يعلم ما في قول بعضهم في وجه التقرير: أن عدم قدرة الثقلين على رده بعد إذهابه مساو لعدم قدرتهم على مثله لأن رده بعينه غير ممكن لعدم وصولهم إلى الله تعالى شأنه فلم يبق ألا رده بمثله فصرح بنفيه تقريرًا له من النظر وعدم الجدوى، هذا واستدل صاحب الكشاف بإعجاز القرآن على حدوثه إذ لم كان قديمًا لم يكن مقدورًا فلا يكون معجزًا كالمحال، وتعقبه في الكشف بأنه لا نزاع في حدوث النظم وإن تحاشى أهل السنة من إطلاق المخلوق عليه للإيهام وهو المعجز إنما النزاع في المعبر بهذه العبارة المعجزة وهو المسمى بالكلام النفسي فهو استدلال لا ينفعه وذكر نحوه ابن المنير.
وقال صاحب التقريب: الجواب منع الملازمة إذ مصحح المقدورية الإمكان وهو حاصل لا الحدوث وأيضًا المعجز لفظه ولا يقال بقدمه والقديم كلام النفس ولا يقال بإعجازه وأيضًا سلمنا أن القديم لا يقدر البشر على عينه لكن لم لا يقدر على مثله، واختار العلامة الطيبي هذا الأخير في الجواب، وقد ذكرنا في المقدمات من الكلام ما ينفعك في هذا المقام فتدبر والله تعالى ولي الأنعام ومسدد الأفهام.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} كررنا ورددنا على أساليب مختلفة توجب زيادة تقرير ورسوخ {لِلنَّاسِ} أهل مكة وغيرهم كما هو الظاهر {فِى هذا القرءان} المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة {مِن كُلّ مَثَلٍ} من كل معنى بديع هو في الحسن والغرابة واستجلاب النفوس كالمثل ومفعول {صَرَفْنَا} على ما استظهره أبو حيان محذوف أي البيان وقدره البينات والعبر، ومن لابتداء الغاية وجوز ابن عطية أن تكون سيف خطيب فكل هو المفعول وهذا مبني على مذهب الكوفيين والأخفش لأنهم يجوزون زيادة من في الإيجاب دون جمهور البصريين.
وقرأ الحسن {صَرَفْنَا} بتخفيف الراء وقراءة الجمهور أبلغ، وأيا ما كان فالمراد فعلنا ذلك للناس ليذعنوا ويتلقوه بالقبول {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا} أي جحودًا وفسر به لثبوت الصدق باصل الاعجاز، والمراد بالناس المذكورون أولًا وأوثر الإظهار على الإضمار تأكيدًا وتوضيحًا، والمراد بالأكثر قيل: من كان في عهده صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب.
واستظهر في البحر أنهم أهل مكة بدليل أن الضمائر الآتية لهم ونصب {كَفُورًا} على أنه مفعول أبى والاستثناء مفرغ وصح ذلك هنا مع أنه مشروط بتقدم النفي فلا يصح ضربت الازيدا لأن أبي قريب من معنى النفي فهو مؤول به فكأنه قيل ما قبل أكثرهم إلا كفورا وفيه من المبالغة ما ليس في أبوا الإيمان لأن فيه زيادة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفر من الإيمان والتوقف في الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الآباء، وإنما لم يجز ذلك في الإثبات لفساد المعنى إذ لا قرينة على تقدير أمر خاص والعموم لا يصح إذ لا يمكن في المثال أن تضرب كل أحد إلا زيدًا فإن صح العموم في مثال جاز التفريغ في غير تأويل بنفي فيجوز صليت إلا يوم كذا إذ يجوز أن تصلي كل يوم غيره، وجوز أن تكون الآية من هذا القبيل بأن يكون المراد أبوا كل شيء فيما اقترحوه إلا كفورًا.
{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)}.
{وَقَالُواْ} عند ظهور عجزهم ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي وغيره من المعجزات الباهرة متعللين بما لا تقتضي الحكمة وقوعه من الأمور ولا توقف لثبوت المدعي عليه وبعضه من المحالات العقلية {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ} بالتخفيف من باب نصر المتعدي وبذلك قرأ الكوفيون أي تفتح، وقرأ باقي السبعة {تَفْجُرَ} من فجر مشددًا والتضعيف للتكثير لا للتعدية.
وقرأ الأعمس.
وعبد الله بن مسلم بن يسار {تَفْجُرَ} من أفجر رباعيًا وهي لغة في تجر {لَنَا مِنَ الأرض} أي أرض مكة لقلة مياهها فالتعريف عهدي {يَنْبُوعًا} مفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر وكثر موجه فالياء زائدة للمبالغة، والمراد عينا لا ينضب ماؤها، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى أن الينبوع هو النهر الذي يجري من العين، والأول مروى عن مجاهد وكفى به.
{أَوْ تَكُونَ لَكَ} خاصة {جَنَّةُ} بستان تستر أشجارها ما تحتها من العرصة {مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ} خصوهما بالذكر لأنهما كانا الغالب في هاتيك النواحي مع جلالة قدرهما {فَتُفَجّرَ الأنهار} أي تجريها {خِلاَلَهَا} نصب على الظرفية أي وسط تلك الجنة واثنائها {تَفْجِيرًا} كثيرًا والمراد اما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها أو إدامة إجرائها كما ينبىء الفاء.
{أَوْ تُسْقِطَ السماء} الجرم المعلوم {كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} جمع كسفة كقطعة وقطع لفظًا ومعنى وهو حال من السماء والكاف في {كَمَا} في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف أي إسقاطًا مماثلًا لما زعمت يعنون بذلك قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مّنَ السماء} وزعم بعضهم أنهم يعنون ما في هذه السورة من قوله تعالى: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الإسراء: 68] وليس بشيء، وقيل: أن المعنى كما زعمت أن ربك إن شاء فعل وسيأتي ذلك أن شاء الله تعالى في خبر ابن عباس، وقرأ مجاهد: {فِى السماء} بياء الغيبة ورفع {السماء} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب: {كِسَفًا} بسكون السين في جميع القرآن إلا في الروم وابن عامر إلا في هذه السورة ونافع وأبو بكر في غيرهما وحفص فيما عدا الطور في قول وفي النشر إنهم اتفقوا على إسكان السين في الطور وهو إما مخفف من المفتوح لأن السكون من الحركة مطلقًا كسدر وسدر أو هو فعل صفة بمعنى مفعول كالطحن بمعنى المطحون أي شيئًا مكسوفًا أي مقطوعًا {أَوْ تَأْتِىَ بالله والملائكة قَبِيلًا} أي مقابلا كالعشير والمعاشر وأرادوا كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس عيانًا وهذا كقولهم {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] وفي رواية أخرى عن الحبر والضحاك تفسير القبيل بالكفيل أي كفيلًا بما تدعيه يعنون شاهدًا يشهد لك بصحة ما قلته وضامنًا يضمن ما يترتب عليه وهو على الوجهين حال من الجلالة وحال الملائكة محذوفة لدلالة الحال المذكورة عليها أي قبلاء كما حذف الخبر في قوله:
ومن يك أمسى في المدينة رحله ** فإني وقيار بها لغريب

وذكر الطبرسي عن الزجاج أنه فسر قبيلًا بمقابلة ومعاينة، وقال إن العرب تجريه في هذا المعنى مجرى المصدر فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث فلا تغفل، وعن مجاهد القبيل الجماعة كالقبيلة فيكون حالًا من الملائكة، وفي الكشف جعله حالًا من الملائكة لقرب اللفظ وسداد المعنى لأن المعنى تأتي بالله تعالى وجماعة من الملائكة لا تتي بهما جماعة ليكون حالًا على الجمع إذ لا يراد معنى المعية معه تعالى ألا ترى إلى قوله سبحانه حكاية عنهم {أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] والقرآن يفسر بعضه بعضًا انتهى.
وقرأ الأعرج {قُبُلًا} من المقابلة وهذا يؤيد التفسير الأول.
{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ} {من ذهب} كما روى عن ابن عباس وقتادة وغيرهما، وأصله الزينة وإطلاقه على الذهب لأن الزينة به أرغب وأعجب، وقرأ عبد الله {مّن ذَهَبٍ} وجعل ذلك في البحر تفسيرًا لا قراءة لمخالفته سواد المصحف {أَوْ ترقى في السماء} أي تصعد في معارجها فحذف المضاف يقال رقى في السلم والدرجة والظاهر أن السماء هنا المظلة، وقيل: المراد المكان العالي وكل ما ارتفع وعلا يسمى سماء قال الشاعر:
وقد يسمى سماء كل مرتفع ** وإنما الفضل حيث الشمس والقمر

{وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ} أي لأجل رقيك فيها وحده أو لن نصدق رقيك فيها {حَتَّى تُنَزّلَ} منها {عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ} بلغتنا على أسلوب كلامنا وفيه تصديقك {قُلْ} تعجبًا من شدة شكيمتهم وفرط حماقتهم {سبحان رَبّى} أو قل ذلك تنزيهًا لساحة الجلال عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الاقتراحات التي تضمنت ما هو من أعظم المستحيلات كاتيان الله تعالى على الوجه الذي اقترحوه أو عن طلب ذلك، وفيه تنبيه على بطلان ما قالوه.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر: {قَالَ سبحانك رَبّى} أي قال النبي صلى الله عليه وسلم: {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا} كسائر الرسل عليهم السلام وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله تعالى على أيديهم حسبما تقتضيه الحكمة من غير تفويض إليهم فيه ولا تحكم منهم عليه سبحانه، و{بَشَرًا} خبر كان و{رَسُولًا} صفته وهو معتمد الكلام وكونه بشرًا توطئة لذلك ردًا لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرًا ودلالة على أن الرسل عليهم السلام من قبل كانوا كذلك ولهذا قال الزمخشري هل كنت إلا رسولًا كسائر الرسل بشرًا مثلهم، وزعم بعض أن ذكر {بَشَرًا} ليس للتوطئة فإن طلب القوم منه عليه الصلاة والسلام ما طلبوه يحتمل أن يكون طلب أن يأتي به بقرة نفسه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون طلب أن يأتي به بقدرة الله تعالى فذكر {بَشَرًا} لنفي أن يأتي بذلك بقدرة نفسه كأنه قال: هل كنت إلا بشرًا والبشر لا قدرة له على الإتيان بذلك، وذكر رسولًا لنفي أن يأتي به بقدرة الله تعالى كأنه قيل هل كنت إلا رسولًا والرسول لا يتحكم على ربه سبحانه.
وتعقب بأن هذا مع ما فيه من مخالفة الآثار كما ستعلمه قريبًا إن شاء الله تعالى ظاهر في جعل الاسمين خبرين وهو مما يأباه الذوق السليم، وقال الخفاجي: إن كون الاسمين خبرين غير متوجه لأنه يقتضي استقلالها وأنهم أنكروا كلا منهما حتى رد عليهم بذلك ولم ينكر أحد بشريته صلى الله عليه وسلم، وتعقب بأنهم لما طلبوا منه عليه الصلاة والسلام ما لا يتأتى من البشر كالرقي في السماء كانوا بمنزلة من أنكر بشريته وهو كما ترى.
وجوز بعضهم كون بشرًا حالًا من النكرة وسوغ ذلك تقدمه عليها وهو ركيك لأنه يقتضي أنه له صلى الله عليه وسلم حالًا آخر غير البشرية ولا يقول بذلك أحد اللهم إلا أن يكون من الوجودية.
هذا والظاهر اتحاد القائل لجميع ما تقدم ويحتمل عدم الاتحاد بأن يكون بعض اقترح شيئًا وبعض آخر اقترح آخر لكن نسب القول إلى الجميع لرضا كل بما اقترح الآخر.
وأخرج سعيد بن منصور، وغيره عن ابن جبير أن قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} [الإسراء: 90] إلخ نزل في عبد الله بن أبي أمية وهو ظاهر في أنه القائل ولا يعكر عليه ضمير الجمع لما أشرنا إلينا، وأخرج ابن إسحق وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف وناسًا آخرين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة فقال بعضهم لبعض؛ ابعثوا إلى محمد فكلموه حتى تعذروه فيه فبعثوا إليه فجاءهم صلى الله عليه وسلم سريعًا وهو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصًا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك وإنا والله ما نعلم رجلًا من الغرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا وقد جثته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب ما لا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيًا تراه قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جثتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله تعالى بعثني إليكم رسولًا وأنزل علي كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جتئكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادًا ولا أقل مالًا ولا أشد عيشًا منا فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من قد مضى من آياتنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخًا صدوقًا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلته عند الله تعالى وأنه بعثك رسولًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله تعالى بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكًا يصدقك بما تقول فيراجعنا عنك وتسأله أن يجعل لك جنانًا وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة يغنيك عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولًا كما تزعم فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله تعالى بعثني بشيرًا ونذيرًا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا: فتسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك إلى الله تعالى إن شاء فعل بكم ذلك فقالوا: يا محمد فاعلم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وأنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدًا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا وقال قائهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلًا فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورًا يتعرفوا بها منزلتك من الله تعالى فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فوالله لا نؤمن بك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سلمًا ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة معك بأربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك لظنن إني لأصدقك ثم انصرف وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينًا أسفًا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم فأنزل عليه هذه الآيات وقوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ} [الرعد: 30] الآية وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] الآية. اهـ. والله تعالى أعلم. اهـ.