فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومعنى {لن نؤمن لك} لن نصدقك أنك رسول الله إلينا. والإيمان: التصديق. يقال: آمنه، أي صدقه. وكثر أن يعدى إلى المفعول باللام، قال تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا} [يوسف: 17] وقال {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26]. وهذه اللام من قبيل ما سماه في مغني اللبيب لام التنبيين. وغفل عن التمثيل لها بهذه الآية ونحوها، فإن مجرور اللام بعد فعل {نؤمن} مفعول لا التباس له بالفاعل وإنما تذكر اللام لزيادة البيان والتوكيد.
وقد يقال: إنها لدفع التباس مفعول فعل {آمن} بمعنى صدق بمفعول فعل {آمن} إذا جعله أمينًا.
وتقدم قوله تعالى؛ {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه} في سورة [يونس: 83]. والينبوع: اسم للعين الكثيرة النبع التي لا ينضب ماؤها. وصيغة يفعول صيغة مبالغة غير قياسية، والينبوع مشتقة من مادة النبع؛ غير أن الأسماء الواردة على هذه الصيغة مختلفة، فبعضها ظاهر اشتقاقه كالينبوع والينبوت، وبعضها خفي كاليعبوب للفرس الكثير الجري.
وقيل: اشتق من العَب المجازي. ومنه أسماء معربة جاء تعريبها على وزن يفعول مثل؛ يَكْسوم اسم قائد حبشي، ويرموك اسم نهر. وقد استقرى الحسن الصاغاني ما جاء من الكلمات في العربية على وزن يفعول في مختصر له مرتب على حروف المعجم. وقال السيوطي في المزهر: إن ابن دريد عقد له في الجمهرة بابًا.
والجنة، والنخيل، والعنب، والأنهار تقدمت في قوله: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار} في سورة [البقرة: 266]. وخصوا هذه الجنة بأن تكون له، لأن شأن الجنة أن تكون خاصة لملك واحد معين، فأروه أنهم لا يبتغون من هذا الاقتراح نفع أنفسهم ولكنهم يبتغون حصوله ولو كان لفائدة المقترح عليه.
والمقترح هو تفجير الماء في الأرض القاحلة، وإنما ذكروا وجود الجنة تمهيدًا لتفجير أنهار خلالها فكأنهم قالوا: حتى تفجر لنا ينبوعًا يسقي الناس كلهم، أو تفجر أنهارًا تسقي جنة واحدة تكون تلك الجنة وأنهارها لك.
فنحن مقتنعون بحصول ذلك لا بغية الانتفاع منه. وهذا كقولهم: {أو يكون لك بيت من زخرف}.
وذكر المفعول المطلق بقوله: {تفجيرًا} للدلالة على التكثير لأن {تُفجر} قد كفى في الدلالة على المبالغة في الفَجْر، فتعين أن يكون الإتيان بمفعوله المطلق للمبالغة في العدد، كقوله تعالى: {ونزلناه تنزيلًا} [الإسراء: 106]، وهو المناسب لقوله: {خلالها}، لأن الجنة تتخللها شعب النهر لسقي الأشجار.
فجمع الأنهار باعتبار تشعب ماء النهر إلى شعب عديدة. ويدل لهذا المعنى إجماع القراء على قراءة {فتفجر} هنا بالتشديد مع اختلافهم في الذي قبله. وهذا من لطائف معاني القراءات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي من أفانين إعجاز القرآن. وقولهم: {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا} انتقال من تحديه بخوارق فيها منافع لهم إلى تحديه بخوارق فيها مضرتهم، يريدون بذلك التوسيع عليه، أي فليأتهم بآية على ذلك ولو في مضرتهم. وهذا حكاية لقولهم كما قالوا.
ولعلهم أرادوا به الإغراق في التعجيب من ذلك فجمعوا بين جعل الإسقاط لنفس السماء.
وعززوا تعجيبهم بالجملة المعترضة وهي {كما زعمت} إنباء بأن ذلك لا يصدق به أحد.
وعنوا به قوله تعالى: {إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفًا من السماء} [سبأ: 9] وبقوله: {وإن يروا كسفًا من السماء ساقطًا يقولوا سحاب مركوم} [الطور: 44]، إذ هو تهديد لهم بأشراط الساعة وإشرافهم على الحساب.
وجعلوا {من} في قوله تعالى: {كسفًا من السماء} [الطور: 44] تبعيضية، أي قطعة من الأجرام السماوية، فلذلك أبوا تعدية فعل {تسقط} إلى ذات السماء. واعلم أن هذا يقتضي أن تكون هاتان الآيتان أو إحداها نزلت قبل سورة الإسراء وليس ذلك بمستبعد.
والكسف بكسر الكاف وفتح السين جمع كسْفة، وهي القطعة من الشيء مثل سِدرة وسدر.
وكذلك قرأه نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر. وقرأه الباقون بسكون السين بمعنى المفعول، أي المكسوف بمعنى المقطوع. والزعم: القول المستبعد أو المحال. والقبيل: الجماعة من جنس واحد. وهو منصوب على الحال من الملائكة، أي هم قبيل خاص غير معروف، كأنهم قالوا: أو تأتي بفريق من جنس الملائكة. والزخرف: الذهب. وإنما عدي {ترقى في السماء} بحرف {في} الظرفية للإشارة إلى أن الرقي تدرج في السماوات كمن يصعد في المرقاة والسلم.
ثم تفننوا في الاقتراح فسألوه إن رقى أن يرسل إليهم بكتاب ينزل من السماء يقرؤونه، فيه شهادة بأنه بلغ السماء. قيل: قائل ذلك عبد الله بن أبي أمية، قال: حتى تأتينا بكتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون لك. ولعلهم إنما أرادوا أن ينزل عليهم من السماء كتابًا كاملًا دفعة واحدة، فيكونوا قد ألحدوا بتنجيم القرآن، توهمًا بأن تنجيمه لا يناسب كونه منزلًا من عند الله لأن التنجيم عندهم يقتضي التأمل والتصنع في تأليفه، ولذلك يكثر في القرآن بيان حكمة تنجيمه.
واللام في قوله: {لرقيك} يجوز أن تكون لام التبيين.
على أن {رقيك} مفعول {نؤمن} مثل قوله: {لن نؤمن لك} فيكون ادعاء الرقي منفيًا عنه التصديق حتى ينزل عليهم كتاب. ويجوز أن تكون اللام لام العلة ومفعول {نؤمن} محذوفًا دل عليه قوله قبله: {لن نؤمن لك}. والتقدير: لن نصدقك لأجل رقيك هي تنزل علينا كتابًا.
والمعنى: أنه لو رقى في السماء لكذبوا أعينهم حتى يرسل إليهم كتابًا يرونه نازلًا من السماء.
وهذا تورك منهم وتهكم.
ولما كان اقتراحهم اقتراح مُلاجّة وعناد أمره الله بأن يجيبهم بما يدل على التعجب من كلامهم بكلمة {سبحان ربي} التي تستعمل في التعجب كما تقدم في طالع هذه السورة، ثم بالاستفهام الإنكاري، وصيغة الحصر المقتضية قصر نفسه على البشرية والرسالة قصرًا إضافيًا، أي لستُ ربًا متصرفًا أخلق ما يطلب مني، فكيف آتي بالله والملائكة وكيف أخلق في الأرض ما لم يخلق فيها.
وقرأ الجمهور: {قل} بصيغة فعل الأمر.
وقرأه ابن كثير، وابن عامر: {قال} بألف بعد القاف بصيغة الماضي على أنه حكاية لجواب الرسول صلى الله عليه وسلم عن قولهم: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا} على طريقة الالتفات. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)}.
بين جل وعلا في هذه الآيات الكريمة شدة عناد الكفار وتعنتهم، وكثرة اقتراحاتهم لأجل التعنت لا لطلب الحق. فذكر أنهم قالوا له صلى الله عليه وسلم: إنهم لن يؤمنوا له- أي لن يصدقوه- حتى يفجر لهم من الأرض ينبوعًا. وهو يفعول من نبع: أي ماء غزير. ومنه قوله تعالى: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} [الزمر: 21] {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} أي بستان من نخيل وعنب. فيجر خلالها، أي وسطها أنهارًا من الماء، أو يسقط السماء عليهم كسفًا: أي قطعًا كما زعم. أي في قوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السمآء} [سبأ: 9] الآية. أو يأتيهم بالله والملائكة قبيلًا: أي معاينة. قال قتاده وابن جريج كقوله: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21].
وقال بعض العلماء: قبيلًا: أي كفيلًا. من تقبله بكذاك إذا كفله به. والقبيل والكفيل والزعيم بمعنى واحد.
وقال الزمخشري قبيلًا: بما تقول، شاهدًا بصحته. وكون القبيل في هذه الآية بمعى الكفل مروي عن ابن عباس والضحاك. وقال مقاتل: {قبيلًا} شهيدًا. وقال مجاهد: هو جمع قبيلة. أي تأتي بأصناف الملائكة. وعلى هذا القول فهو حال من الملائكة، أو يكون له بيت من زخرف: أي من ذهب: ومنه قوله: في الزخرف: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] إلى قوله: {وَزُخْرُفًا} [الزخرف: 35] أي ذهبًا. او يرقى في السماء: أي يصعد فيه، وإنهم لن يؤمنوا لرقيه: أي من أجل صعوده، حتى ينزل عليهم كتابًا يقرؤونه. وهذا التعنت والعناد العظيم الذي ذكره جل وعلا عن الكفار هنا بينه في مواضع أخر.
وبين أنهم لو فعل الله ما اقترحوا ما آمنوا. لأن من سبق عليه الشقاء لا يؤمن. كقوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: 7]، وقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الأنعام: 111]، وقوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر: 14-15]، وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]، وقوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 96-97]، والآيات بمثل هذا كثيرة.
وقوله في هذه الآية {كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ} أي كتابًا من الله إلى كل رجل منا.
ويوضح هذا قوله تعالى في المدثر: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52] كما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} [الأنعام: 124] الاية. وقوله في هذه الأية الكريمة: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا} أي تنزيهًا لربي جل وعلى عن كل ما لا يليق بهن ويدخل فيه تنزيهه عن العجز عن فعل ما اقترحتم. فهم قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء، وأنا بشر أتبع ما يوحيه إليّ ربي.
وبين هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} [الكهف: 110]، وقوله: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ فاستقيموا إِلَيْهِ واستغفروه} [فصلت: 6] الآية. وكقوله تعالى عن جميع الرسل: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ {تَفْجُر} الأولى عاصم وحمزة والكسائي بفتح التاء وإسكان الفاء وضم الجيم. والباقون بضم التاء وفتح الفاء وتشديد الجيم مكسورة. واتفق الجميع على هذا في الثانية. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم: {كِسَفاَ} بفتح السين والباقون بإسكانها. وقرأ أبو عمرو: {نُنْزِل} بإسكان النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وشد الزاي. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}.
{قُلْ} لا يقولها الحق سبحانه بينه وبين رسوله، بل المراد: أعلنها يا محمد على الملأ، وأسمِعْ بها الناس جميعًا؛ لأن القضية قضية تَحَدٍّ للجميع. {لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ..} [الإسراء: 88] وهما الثَّقَلان اللذان يكونان أمة التكليف لما منحهما الله من نعمة الاختيار الذي هو منَاطُ التكليف. وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهما جميعًا، وقد استمعت الجن إلى القرآن كما استمعت إليه البشر: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا} [الجن: 1-2]
والتحدِّي معناه الإتيان بآية معجزة يعجز عنها المعارض، لكن من جنس ما نبغ فيه المعارض، فلا يتحدّاهم بشيء لا عِلْم لهم به، ولا خبرة لهم فيه؛ لأنه لا معنى للتحدي في هذه الحالة ولا جدوى منه، كما لو تحدَّيْتَ إنسانًا عاديًا برفع الأثقال ولم يسبق له أن ارتاض هذه الرياضة، إنما تتحدَّى بها بطلًا معروفًا عنه ممارسة هذه العملية.
لذلك جاءت كل معجزات الرسل من جنس ما نبغ فيه القوم ليكون التحدِّي في محلِّه، ولا يعترضون عليه بأنه خارج عن نطاق علمهم ومقدرتهم، فكانت معجزة موسى- عليه السلام- العصا واليد، وهي من جنس ما نبغ فيه قومه من السِّحْر، وجاءت معجزة عيسى- عليه السلام- إحياء الموتى بإذن الله، وإبراء الأكمة والأبرص؛ لأن قومه نبغوا في الطب، وكانت معجزته صلى الله عليه وسلم في البلاغة والفصاحة التي نبغ فيها العرب.
وقد اقترح كفار مكة على رسول الله آيات معينة لإثبات صِدْق رسالته، لكن الآيات لا تُقترح على الله تعالى؛ لأنه سبحانه هو الذي يختار الآيات التي تناسب الطباع وتكون معجزة تثبت صِدْق رسوله، وقد اقترحوا على رسول الله آيات ومعجزاتٍ في مجالات لا عِلْم لهم بها، فكيف يتحدّاهم الله في مجال لا نبوغَ لهم فيه، وليس لهم دراية به؟
والحق سبحانه أنزل القرآن، وجعله المعجزة الوحيدة لصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المعجزة الوحيدة لكل أمة الإسلام من لَدُن رسول الله إلى قيام الساعة. وهذا لا يمنع أن توجد معجزات كونية حدثتْ لرسول الله ليراها القوم الذي عاصروه، ومِثْل هذه المعجزات لا نطالب بها نحن، ولا نطالب بالإيمان بها، إلا إذا وردتْ من صادق معصوم؛ لأن الهدف من هذه المعجزات تثبيت الإيمان برسول الله في نفوس مَنْ شاهدوها، فنُبوع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وكَوْنُ الشجرة تسعى إليه والحيوان يُكلِّمه، فالمقصود بهذه المعجزات مَنْ شاهدها وعاصرها، لا مَنْ أتى بعد عصره صلى الله عليه وسلم.
وفي القرآن خاصية تفرّد بها عن الكتب السابقة، حيث نزل جامعًا بين أمرين: أنه منهج سماوي يُنظِّم حركة الحياة، وهو في الوقت نفسه معجزة مصاحبة للمنهج لا تنفكّ عنه إلى قيام الساعة.
أما الكتب السابقة فكانت تأتي بمنهج فقط، أما المعجزة فشيء آخر منفصل عن الكتاب، فمعجزة موسى العصا واليد وكتابه التوراة، ومعجزة عيسى إبراء الأكمة والأبرص، وكتابه الإنجيل، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد انفرد بأن تكون معجزته هي منهجه.
لذلك لما طلب كفار مكة من رسول الله أنْ يُفسِح لهم جبال مكة، ويُوسِّع عليهم الأرض، وأنْ يُحيي لهم موتاهم ليشهدوا بصدقه، خاطبهم الحق سبحانه بقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا..} [الرعد: 31]