فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا}.
قال ابن عباس: يريد أهل مكة.
قال المفسرون: ومعنى الآية: وما منعهم من الإِيمان {إِذ جاءهم الهُدى} وهو البيان والإِرشاد في القرآن {إِلا أن قالوا} [أي: إِلا] قولهم في التعجب والإِنكار: {أَبَعَثَ الله بَشَرًا رسولًا} ؟ وفي الآية اختصار، تقديره: هلا بعث الله مَلَكًا رسولًا، فأُجيبوا على ذلك بقوله تعالى: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين} أي: مستوطنين الأرض.
ومعنى الطمأنينة: السكون؛ والمراد من الكلام أن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم.
قوله تعالى: {قل كفى بالله شهيدًا} قد فسرناه في [الرعد: 43] {إِنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا} قال مقاتل: حين اختص الله محمدًا بالرسالة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى} يعني الرسل والكتب من عند الله بالدعاء إليه.
{إِلاَّ أَن قالوا} جهلًا منهم.
{أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} أي الله أجل من أن يكون رسوله من البشر.
فبيّن الله تعالى فرط عنادهم لأنهم قالوا: أنت مثلنا فلا يلزمنا الانقياد، وغفلوا عن المعجزة.
ف {أنْ} الأولى في محل نصب بإسقاط حرف الخفض.
و{أن} الثانية في محل رفع ب {منع} أي وما منع الناس من أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا قولهم أبعث الله بشرًا رسولًا.
{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)}.
أعلم الله تعالى أن المَلك إنما يُرسل إلى الملائكة؛ لأنه لو أرسل ملكًا إلى الآدميّين لم يقدروا أن يروه على الهيئة التي خلق عليها، وإنما أقدر الأنبياء على ذلك وخلقَ فيهم ما يقدرون به؛ ليكون ذلك آية لهم ومعجزة.
وقد تقدّم في الأنعام نظير هذه الآية؛ وهو قوله: {وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمر ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 8-9] وقد تقدّم الكلام فيه.
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)}.
يروى أن كفار قريش قالوا حين سمعوا قوله: {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 93]: فمن يشهد لك أنك رسول الله؟ فنزل: {قُلْ كفى بالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)}.
الظاهر أن قوله: {وما منع الناس} إخبار من الله تعالى عن السبب الضعيف الذي منعهم من الإيمان، إذ ظهر لهم المعجز وهو استبعاد أن يبعث الله رسولًا إلى الخلق واحدًا منهم ولم يكن ملكًا، وبعد أن ظهر المعجز فيجب الإقرار والاعتراف برسالته فقولهم: لابد أن يكون من الملائكة تحكم فاسد، ويظهر من كلام ابن عطية أن قوله: {وما منع الناس} هو من قول الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذه الآية على معنى التوبيخ والتلهف من النبيّ عليه الصلاة والسلام كأنه يقول متعجبًا منهم ما شاء الله كان {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاّ} هذه العلة النزرة والاستبعاد الذي لا يسند إلى حجة، وبعثة البشر رسلًا غير بدع ولا غريب فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما لو كان في الأرض ملائكة يسكنونها مطمئنين لكان الرسول إليهم من الملائكة ليقع الإفهام، وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طبائعهم من رؤيته ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم، وإنما الله أجرى أحوالهم على معتادها انتهى.
و{أن يؤمنوا} في موضع نصب و{أن قالوا}: في موضع رفع، و{إذ} ظرف العامل فيه منع والناس كفار قريش القائلون تلك المقالات السابقة و{الهدى} هو القرآن ومن جاء به، وليس المراد مجرد القول بل قولهم الناشىء عن اعتقاد والهمزة في {أبعث} للإنكار و{رسولًا} ظاهره أنه نعت، ويجوز أن يكون {رسولًا} مفعول بعث، و{بشرًا} حال متقدمة عليه أي {أبعث الله رسولًا} في حال كونه {بشرًا}، وكذلك يجوز في قوله: {ملكًا رسولًا} أي {لنزلنا عليهم من السماء} {رسولًا} في حال كونه {ملكًا}.
وقوله: {يمشون} يتصرفون فيها بالمشي وليس لهم صعود إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلمون ما يجب علمه، بل هم مقيمون في الأرض يلزمهم ما يلزم المكلفين من عبادات مخصوصة وأحكام لا يدرك تفصيلها بالعقل، {لنزلنا عليهم} من جنسهم من يعلمهم ذلك ويلقيه إليهم.
ولما دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وتحدى على صدق نبوته بالمعجز الموافق لداعوه، أمره تعالى أن يعلمهم بأنه تعالى هو الشهيد بينه وبينهم على تبليغه وما قام به من أعباء الرسالة وعدم قبولهم وكفرهم، وما اقترحوا عليه من الآيات على سبيل العناد، وأردف ذلك بما فيه تهديد وهو قوله: {إنه كان بعباده خبيرًا} بخفيات أسرارهم {بصيرًا} مطلقًا على ما يظهر من أفعالهم وأقوالهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَا مَنَعَ الناس} أي الذين حُكيت أباطيلُهم {أَن يُؤْمِنُواْ} مفعولٌ ثانٍ لمنع وقوله: {إِذْ جَاءهُمُ الهدى} أي الوحيُ ظرفٌ لمنع أو يؤمنوا أي وما منعهم وقت مجيءِ الوحي المقرونِ بالمعجزاتِ المستدعيةِ للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوّتك أو ما منعهم أن يؤمنوا بذلك وقت مجيءِ ما ذكر {إِلاَّ أَن قَالُواْ} في محل الرفعِ على أنه فاعلُ منع أي إلا قولُهم: {أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} منكِرين أن يكون رسولُ الله تعالى من جنس البشرِ، وليس المرادُ أن هذا القولَ صدر عن بعضهم فمنع بعضًا آخرَ منهم، بل المانعُ هو الاعتقادُ الشاملُ للكل المستتبعُ لهذا القول منهم، وإنما عبرّ عنه بالقول إيذانًا بأنه مجردُ قولٍ يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهومٌ ومِصْداقٌ، وحصرُ المانعِ من الإيمان فيما ذكر مع أن لهم موانعَ شتّى لِما أنه معظمُها أو لأنه هو المانعُ بحسب الحال، أعني عند سماعِ الجواب بقوله تعالى: {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا} إذ هو الذي يتشبّثون به حينئذ من غير أن يخرِمَ ببالهم شبهةً أخرى من شبههم الواهيةِ، وفيه إيذانٌ بكمال عنادِهم حيث يشير إلى أن الجوابَ المذكورَ مع كونه حاسمًا لموادّ شُبَهِهم ملجئًا إلى الإيمان يعكُسون الأمرَ ويجعلونه مانعًا منه.
{قُلْ} لهم أولًا من قِبلنا تبيينًا للحكمة وتحقيقًا للحق المُزيحِ للرَّيب {لَّوْ كَانَ} أي لو وجد واستقر {فِى الأرض} بدل البشر {ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ} قارّين فيها من غير أن يعرُجوا في السماء ويعلموا ما يجب أن يُعلم {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولًا} يهديهم إلى الحق ويُرشِدُهم إلى الخير لتمَكُّنهم من الاجتماع والتلقي منه، وأما عامةُ البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملكية فكيف لا وهي منوطةٌ بالتناسب والتجانس، فبعثُ الملكِ إليهم مزاحِمٌ للحكمة التي عليها مبنى التكوينِ والتشريع، وإنما يُبعث الملَك من بينهم إلى الخواصّ المختصين بالنفوس الزكية المؤيَّدين بالقوة القُدسية المتعلقين بكِلا العالَمَين الروحاني والجُسماني ليتلقَّوا من جانب ويُلْقوا إلى جانب، وقوله تعالى: {مَلَكًا} يحتمل أن يكون حالًا من رسولًا وأن يكون موصوفًا به وكذلك بشرًا في قوله تعالى: {أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} والأولُ أولى.
{قُلْ} لهم ثانيًا من جهتك بعد ما قلت لهم من قِبلنا ما قلتَ وبينتَ لهم ما تقضيه الحكمةُ في البعثة ولم يرفعوا إليه رأسًا {كفى بالله} وحده {شَهِيدًا} على أني أدّيتُ ما عليّ من مواجب الرسالةِ أكملَ أداءٍ وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعِناد، وتوجيهُ الشهادةِ إلى كونه عليه السلام رسولًا بإظهار المعجزةِ على وفق دعواه كما اختير لا يساعده قوله تعالى: {بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} وما بعده من التعليل، وإنما لم يقل: بيننا تحقيقًا للمفارقة وإبانةً للمباينة، وشهيدًا إما حالٌ أو تمييزٌ {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ} من الرسل والمرسَلِ إليهم {خَبِيرَا بَصِيرًا} محيطًا بظواهر أحوالِهم وبواطنها فيجازيهم على ذلك وهو تعليلٌ للكفاية، وفيه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدٌ للكفار. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} أي الذين حكيت أباطيلهم {أَن يُؤْمِنُواْ} مفعول منع وقوله تعالى: {إِذْ جَاءهُمُ الهدى} ظرف منع أو يؤمنوا أي ما منعهم وقت مجيء الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للايمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك أو ما منعهم أن يؤمنوا وقت مجيء ما ذكر {إِلاَّ أَن قَالُواْ} فاعل منع أي إلا قولهم: {أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} ؟ منكرين أن يكون رسول الله عليه الصلاة والسلام من جنس البشر وليس المراد أن هذا القول صدر عن بعض فمنع آخرين بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل المستتبع لهذا القول منهم.
وإنما عبر عنه بالقول إيذانًا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهوم ومصداق، وحصر المانع فيما ذكر مع أن لهم موانع شتى لما أنه معظمها أو لأنه هو المانع بحسب الحال أعني عند سماع الجواب بقوله تعالى: {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 93] إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية، وفيه على هذا إيذان بكمال عنادهم حيث يشير إلى أن الجواب المذكور مع كونه حاسمًا لمواد شبههم مقتضيًا للإيمان يعكسون الأمر ويجعلونه مانعًا قاله بعض المحققين، وظاهر ذلك أن القول لا يقولون برسالة أحد من الرسل المشهورين كإبراهيم وموسى عليهما السلام أصلًا، وصرح بعضهم بأنهم لم ينكروا إرسال غيره صلى الله عليه وسلم منهم وبأن قولهم هذا كان تعنتًا وهذا خلاف الظاهر هنا، ولعل القوم كانوا في ريب وتردد لا يستقيمون على حال فتدبر.
والظاهر أن الآية أخبار منه عز مجده عن الأمر المانع إياهم عن الإيمان، ويظهر من كلام ابن عطية أن هذا الكلام منه عليه الصلاة والسلام قاله على معنى التوبيخ والتلهف وحاشا من له أدنى ذوق من أن يذهب إلى ذلك.
{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)}.
{قُلْ} لهم أولًا من قبلنا تبيينا للحكمة وتحقيقًا للحق المزيح للريب {لَّوْ كَانَ} أي لو وجد {فِى الأرض} بدل البشر {ملائكة يَمْشُونَ} كما يمشي البشر ولا يطيرون إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه {مُطْمَئِنّينَ} ساكنين مقيمين فيها، وقال الجبائي: أي مطمئنين إلى الدنيا ولذاتها غير خائفين ولا متعبدين بشرع لأن المطمئن من زال الخوف عنه {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولًا} يعلمهم ما لا تستقل قدرهم بعلمه ليسهل عليهم الاجتاع به والتلقي منه وأما عامة البشر فلا يسهل عليهم ذلك لبعد ما بين الملك وبين فلا يبعث إليهم وإنما يبعث إلى خواصهم لأن الله تعالى قد وهبهم نفوسًا زكية وأيدهم بقوى قدسية وجعل لهم جهتين جهة ملكية بها من الملك يستفيضون وجهة بشرية بها على البشر يفيضون، وجعل كل البشر كذلك مخل بالحكمة، وإنزال الملك عليهم على وجه يسهل التلقي منه بأن يظهر لهم بصورة بشر كما ظهر جبريل عليه السلام مرارًا في صورة دحية الكلبي.
وقد صح أن إعرابيًا جاء وعليه أثر السفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وغيرها فأجابه عليه الصلاة والسلام بما أجابه ثم انصرف ولم يعرفه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم» مما لا يجدي نفعًا لأولئك الكفرة كما قال تعالى جده {وَلَوْ جعلناه مَلَكًا لجعلناه رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] وقيل علة تنزيل الملك عليهم أن الجنس إلى الجنس أميل وهو به آنس، ولعل الأول أولى وإن زعم خلافه.
وحكى الطبرسي عن بعضهم أنه قال في الآية: إن العرب قالوا كنا ساكنين مطمئنين فجاء محمد صلى الله عليه وسلم فازعجنا وشوش علينا أمرنا فبين سبحانه أنه لو كان ملائكة مطمئنين لاوجبت الحكمة إرسال الرسل إليهم ولم يمنع اطمئنانهم الإرسال فكذلك الناس لا يمنع كونهم مطمئنين إرسال الرسل إليهم، وأنت تعلم أن هذا بمراحل عن السياق ولا يصح فيه أثر كما لا يخفى على المتتبع.
ونصب {مَلَكًا} يحتمل أن يكون على الحالية من رسولًا صفة له، وكذا الكلام في قوله تعالى: {أبعث الله بشرًا رسولًا} [الإسراء: 94]، ورجح غير واحد الأول بأنه أكثر موافقة للمقام وأنسب، ووجه ذلك القطب وصاحب التقريب بأنه على الحالية يفيد المقصود بمنطوقه وعلى الوصفية يفيد خلاف المقصود بمفهومه، أما الأول: فلأن منطوقه ابعث الله تعالى رسولًا حال كونه بشرًا لا ملكًا ولنزلنا عليهم رسولًا حال كونه ملكًا لا بشرًا وهو المقصود، وأما الثاني: فلأن التقييد بالصفة يفيد أبعث الله تعالى بشرًا مرسلًا لا بشرًا غير مرسل ولنزلنا عليهم ملكًا مرسلًا لا ملكًا غير مرسل وهو خلاف المقصود بل غير مستقيم، وقال صاحب الكشف تبعًا لشيخه العلامة الطيبي في ذلك: لأن التقديم إزالة عن موضعه الأصلي دلالة على أنه مصب الإنكار في الأول أعني {أبعث الله بشرًا رسولًا} [الإسراء: 94] فيدل على أن البشرية منافية لهذا الثابت أعني الرسالة كما تقول أضربت قائمًا زيدًا ولو قلت أضربت زيدًا قائمًا أو القائم لم يفد تلك الفائدة لأن الأول يفيد أن المنكر ضربه قائمًا لا الضرب مطلقًا، والثاني يفيد أن المنكر ضرب زيد لاتصافه بهذه المانعة ولا يفيد أن أصل الضرب حسن ومسلم والجهة منكرة هذا إن جعل التقديم للحصر وإن جعل للاهتمام دل على كونه مصب الإنكار وإن لم يدل على ثبوت مقابله، وعلى التقديرين فائدة التقديم لائحة اه، وهو أكثر تحقيقًا.
واستشكل بعضهم هذه الآية بأنها ظاهرة في أنه إنما يرسل إلى كل قبيل ما يناسبه ويجانسه كالبشر للبشر والملك للملك ولا يرسل إلى قبيل ما لا يناسبه ولا يجانسه وهو ينافي كونه صلى الله عليه وسلم مرسلًا إلى الجن الإنس إجماعًا معلومًا من الدين بالضرورة فيكفر منكره ومن نازع في ذلك فقد وهم وأجيب بمنع كونها ظاهرة في ذلك بل قصارى ما تدل عليه أن القوم أنكروا أن يبعث الله تعالى إلى البشر بشرًا وزعموا أنه يجب أن يكون المبعوث إليهم ملكًا ومرامهم نفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثًا إليهم فأجيبوا بما حاصله أن الحكمة تقتضي بعث الملك إلى الملائكة لوجود المناسبة المصححة للتلقي لا إلى عامة البشر لانتفاء تلك المناسبة فأمر الوجوب الذي يزعمونه بالعكس وليس في هذا أكثر من الدلالة على أن أمر البعث منوط بوجود المناسبة فمتى وجدت صح البعث ومتى لم توجد لا يصح البعث وأنها موجودة بين الملك والملك لا بينه وبين عامة البشر كالمنكرين المكورين وهذا لا ينافي بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الجن لأنه عليه الصلاة والسلام متى صح فيه المناسبة المصححة للاجتماع مع الملك والتلقي منه صح فيه المناسبة المصححة للاجتماع مع الجن والإلقاء إليهم كيف لا وهو عليه الصلاة والسلام نسخة الله تعالى الجامعة وآيته الكبرى الساطعة وإذا قلنا أن اجتمتعه عليه الصلاة والسلام بالجن وإلقاءه عليهم بعد تشكلهم له فأمر المناسبة أظهر وليس تشكل الملك لو أرسل إلى البشر بمجد لما سمعت آنفًا، ويقال نحو هذا في إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الملائكة لما فيه عليه الصلاة والسلام من قوة الإلقاء إليهم كالتلقي منهم، وإلى كونه عليه الصلاة والسلام مرسلًا إليهم ذهب من الشافعية تقي الدين السبكي والبارزي والجلال المحلي في خصائصه، ومن الحنابلة ابن تيمية وابن مفلح في كتاب الفروع، ومن المالكية عبد الحق وقال كابن تيمية لا نزاع بين العلماء في جنس تكليفهم بالأمر والنهي.