فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه يمشِّيهم على وجوههم، وشاهِده ما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: «إِن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا، قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة».
والثاني: أن المعنى: ونحشرهم مسحوبين على وجوههم، قاله ابن عباس.
والثالث: نحشرهم مسرعين مبادرين، فعبَّر بقوله: «على وجوههم» عن الإِسراع، كما تقول العرب: قد مَرَّ القوم على وجوههم: إِذا أسرعوا، قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى: {عميًا وبكمًا وصمًا} فيه قولان.
أحدهما: عميًا لا يرون شيئًا يَسرُّهم، وبكمًا لا ينطقون بحجَّة، وصمًا لا يسمعون شيئًا يسرُّهم، قاله ابن عباس.
وقال في رواية: عميًا عن النظر إِلى ما جعل لأوليائه، وبكمًا عن مخاطبة الله، وصمًا عما مدح به أولياءه، وهذا قول الأكثرين.
والثاني: أن هذا الحشر في بعض أحوال القيامة بعد الحشر الأول.
قال مقاتل: هذا يكون حين يقال لهم: {اخسؤوا فيها} [المؤمنون: 108] فيصيرون عميًا بكمًا صمًا لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك.
قوله تعالى: {كلما خَبَتْ} قال ابن عباس: أي: سكنت.
قال المفسرون: وذلك أنها تأكلهم، فإذا لم تُبق منهم شيئًا وصاروا فحمًا ولم تجد شيئًا تأكله، سكنت، فيُعادُون خلقًا جديدًا، فتعود لهم.
وقال ابن قتيبة: يقال: خبت النار: إِذا سكن لهبها.
فالَّلهب يسكن، والجمر يعمل، فإن سكن الَّلهب، ولم يُطفَأ الجمر، قيل: خَمَدت تَخْمُدُ خُمُودًا، فإن طُفئت ولم يبق منها شيء، قيل: هَمَدت تَهْمُد هُمُودًا.
ومعنى {زدناهم سعيرًا}: نارًا تتسعر، أي: تتلهَّب.
وما بعد هذا قد سبق تفسيره [الإسراء: 49] إِلى قوله: {قادر على أن يخلق مثلهم} أي: على أن يخلقهم مرة ثانية، وأراد ب {مثلهم} إِياهم، وذلك أن مِثْل الشيءِ مساوٍ له، فجاز أن يعبّر به عن نفس الشيء، يقال: مِثْلُك لا يفعل هذا، أي: أنت، ومثله قوله: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} [البقرة: 137]، وقد تم الكلام عند قوله: {مِثلَهم}، ثم قال: {وجعل لهم أجلًا لا ريب فيه} يعني: أجل البعث {فأبى الظالمون إِلا كُفورًا} أي: جحودًا بذلك الأجل.
قوله تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي} قال الزجاج: المعنى: لو تملكون أنتم، قال المتلمِّس:
وَلَوْ غيرُ أَخْوَالِي أَرَادُوا نَقِيصَتِي ** نَصبْتُ لهم فَوْقَ العرانينِ مِيسَما

المعنى: لو أراد غير أخوالي.
وفي هذه الخزائن قولان.
أحدهما: خزائن الأرزاق.
والثاني: خزائن النِّعم، فيخرج في الرحمة قولان.
أحدهما: الرِّزق.
والثاني: النِّعمة.
وتحرير الكلام: لو ملكتم ما يملكه الله عز وجل لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفاقة.
{وكان الإِنسان} يعني: الكافر {قتورًا} أي: بخيلًا مُمْسِكًا؛ يقال: قَتَر يَقْتُرُ، وقَتَر يَقْتِرُ: إِذا قصَّر في الإِنفاق.
وقال الماوردي: لو ملك أحد من المخلوقين من خزائن الله تعالى، لما جاد كجود الله تعالى، لأمرين.
أحدهما: أنه لابد أن يُمسِك منه لنفقته ومنفعته.
والثاني: أنه يخاف الفقر، والله تعالى منزَّه في جُوده عن الحالين.
ثم إِن الله تعالى ذكر إِنكار فرعون آيات موسى، تشبيهًا بحال هؤلاء المشركين، فقال: {ولقد آتينا موسى تسع آيات} وفيها قولان.
أحدهما: أنها بمعنى المعجزات والدلالات، ثم اتفق جمهور المفسرين على سبع آيات منها، وهي: يده، والعصا، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، واختلفوا في الآيتين الآخرتين على ثمانية أقوال.
أحدها: أنهما لسانه والبحر الذي فلق له، رواه العوفي عن ابن عباس؛ يعني بلسانه: أنه كان فيه عقدة فحلَّها الله تعالى له.
والثاني: البحر والجبل الذي نُتق فوقهم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: السّنون ونقص الثمرات، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وعكرمة، وقتادة.
وقال الحسن: السِّنون ونقص الثمرات آية واحدة.
والرابع: البحر والموت أُرسل عليهم، قاله الحسن، ووهب.
والخامس: الحَجَر والبحر، قاله سعيد بن جبير.
والسادس: لسانه وإِلقاء العصا مرتين عند فرعون، قاله الضحاك.
والسابع: البحر والسِّنون، قاله محمد بن كعب.
والثامن: ذكره [محمد بن إِسحاق عن] محمد بن كعب أيضًا، فذكر السبع الآيات الأولى، إِلا أنه جعل مكان يده البحر، وزاد الطمسة والحجر، يعني قوله: {اطمس على أموالهم} [يونس: 88].
والثاني: أنها آيات الكتاب، روى أبو داود السجستاني من حديث صفوان بن عسّال، أن يهوديًا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبيّ، فقال الآخر: لا تقل: إِنه نبيٌّ، فإنه لو سمع ذلك، صارت له أربعة أعين؛ فأتَيَاه، فسألاه عن تسع آيات بيِّنات، فقال: «لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إِلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تَسرقوا، ولا تأكلوا الرِّبا، ولا تمشوا بالبريء إِلى السلطان ليقتلَه، ولا تَسْحَروا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تَفِرُّوا من الزَّحف، وعليكم خاصّةً يهودُ ألاّ تَعْدُوا في السبتِ»، قال: فقبَّلا يده، وقالا: نشهد أنك نبيّ. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} أي لو هداهم الله لاهتدوا.
{وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ} أي لا يهديهم أحد.
{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم؛ من قول العرب: قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا.
الثاني: أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه.
وهذا هو الصحيح؛ لحديث أنس أن رجلًا قال: يا رسول الله، الذين يحشرون على وجوههم، أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس الذي أمشاه على الرجلين قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» قال قتادة حين بلغه: بَلَى وعِزّة ربّنا أخرجه البخاريّ ومسلم، وحسبك {عميا وبكمًا وصمًا} قال ابن عباس والحسن: أي عُمْيٌ عمّا يسرّهم، بُكْمٌ عن التكلم بحجة، صُمٌّ عما ينفعهم؛ وعلى هذا القول حواسهم باقية على ما كانت عليه.
وقيل: إنهم يحشرون على الصفة التي وصفهم الله بها؛ ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في النار، فأبصروا؛ لقوله تعالى: {وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] وتكلموا؛ لقوله تعالى: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13] وسمعوا؛ لقوله تعالى: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12].
وقال مقاتل بن سليمان: إذا قيل لهم: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] صاروا عميًا لا يبصرون صُمًّا لا يسمعون بُكمًا لا يفقهون.
وقيل: عموا حين دخلوا النار لشدّة سوادها، وانقطع كلامهم حين قيل لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون وذهب الزفير والشهيق بسمعهم فلم يسمعوا شيئًا {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مستقرّهم ومقامهم {كُلَّمَا خَبَتْ} أي سكنت؛ عن الضحاك وغيره، مجاهد: طفئت يقال: خبت النار تخبو خبوا أي طفئت، وأخبيتها أنا، {زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} أي نارًا تتلهب.
وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم من عذابهم.
وقيل: إذا أرادت أن تخبو كقوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن}.
قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا} أي ذلك العذاب جزاء كفرهم {وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} أي ترابًا.
{أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} فأنكروا البعث فأجابهم الله تعالى فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لاَّ رَيْبَ فِيهِ} قيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض، وجعل لهم أجلًا لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم.
والأجل: مدّة قيامهم في الدنيا ثم موتهم، وذلك ما لا شك فيه إذ هو مشاهد.
وقيل: هو جواب قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا}.
وقيل: هو يوم القيامة.
{فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُورًا} أي المشركون إلا جحودًا بذلك الأجل وبآيات الله.
وقيل: ذلك الأجل هو وقت البعث، ولا ينبغي أن يشكّ فيه.
قوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} أي خزائن الأرزاق.
وقيل: خزائن النّعم، وهذا أعم.
{إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق} من البخل، وهو جواب قولهم: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا} حتى نتوسّع في المعيشة.
أي لو توسعتم لبخلتم أيضًا.
وقيل: المعنى لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله لما جاد بها كجود الله تعالى؛ لأمرين:
أحدهما: أنه لابد أن يمسك منها لنفقته وما يعود بمنفعته.
الثاني: أنه يخاف الفقر ويخشى العدم.
والله تعالى يتعالى في وجوده عن هاتين الحالتين.
والإنفاق في هذه الآية بمعنى الفقر؛ قاله ابن عباس وقتادة.
وحكى أهل اللغة أنفق وأصرم وأعدم وأقتر إذا قلّ ماله.
{وَكَانَ الإنسان قَتُورًا} أي بخيلًا مضيقًا.
يقال: قَتَر على عياله يَقْتِر ويَقْترُ قترًا وقتورًا إذا ضيق عليهم في النفقة، وكذلك التقتير والإقتار، ثلاث لغات.
واختلف في هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في المشركين خاصة؛ قاله الحسن.
والثاني: أنها عامة، وهو قول الجمهور؛ وذكره الماورديّ. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَمَن يَهْدِ الله}.
والظاهر أن قوله: {ومن يهد الله} إخبار من الله تعالى وليس مندرجًا تحت {قل} لقوله: {ونحشرهم} ويحتمل أن يكون مندرجًا لمجيء {ومن} بالواو، ويكون {ونحشرهم} إخبارًا من الله تعالى.
وعلى القول الأول يكون التفاتًا إذ خرج من الغيبة للتكلم، ولما تقدم دعوة الرسول إلى الإيمان وتحدى بالمعجز الذي آتاه الله، ولجوّا في كفرهم وعنادهم ولم يجد فيهم ما جاء به من الهدى أخبر بأن ذلك كله راجع إلى مشيئته تعالى وأنه هو الهادي وهو المفضل، فسلاه تعالى بذلك وأخبر تعالى على سبيل التهديد لهم والوعيد الصدق لحالهم وقت حشرهم يوم القيامة.
وقال الزمخشري: {ومن يهد الله} ومن يوفقه ويلطف به {فهو المهتدي} لأنه لا يلطف إلاّ بمن عرف أن اللطف ينفع فيه {ومن يضلل} ومن يخذل {فلن تجد لهم أولياء} أنصارًا انتهى.
وهو على طريقة الأعتزال ومن مفعول بيهد وبيضلل، وحمل على اللفظ في قوله: {فهو المهتدي} فأفرد ملاحظة لسبيل الهدى وهي واحدة فناسب التوحيد التوحيد، وحمل على المعنى في قوله: {فلن تجد لهم أولياء} لا على اللفظ ملاحظة لسبيل الضلال فإنها متشعبة متعددة فناسب التشعيب والتعديد الجمع، وهذا من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداءً من غير أن يتقدّم الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن، والظاهر أن قوله: {على وجوههم} حقيقة كما قال تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوههم} الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم. وفي هذا حديث قيل: يا رسول الله كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال: «أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادرًا أن يمشيه في الآخرة على وجهه» قال قتادة: بلى وعزة ربنا.
وقيل: {على وجوههم} مجاز يقال للمنصرف عن أمر خائبًا مهمومًا انصرف على وجهه، ويقال للبعير كأنما يمشي على وجهه. وقيل: هو مجاز عن سحبهم على وجوههم على سرعة من قول العرب قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا.
والظاهر أن قوله: {عميًا وبكمًا وصمًا} هو حقيقة وذلك عند قيامهم من قبورهم، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم.
وقيل: هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينطقون بحجة.