فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ}
يجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى} [الإسراء: 94] جمعًا بين المانع الظاهر المعتاد من الهدى وبين المانع الحقيقي وهو حرمان التوفيق من الله تعالى، فمن أصَرّ على الكفر مع وضوح الدليل لذوي العقول فذلك لأن الله تعالى لم يوفقه.
وأسباب الحرمان غضب الله على من لا يُلقِي عقله لتلقي الحق ويتخذُ هواه رائدًا له في مواقف الجد.
ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {قل كفى باللَّه شهيدًا بيني وبينكم} [الإسراء: 96] ارتقاء في التسلية، أي لا يحزنك عدم اهتدائهم فإن الله حرمهم الاهتداء لما أخذوا بالعناد قبل التدبر في حقيقة الرسالة.
والمراد بالهُدى الهدى إلى الإيمان بما جاء به الرسول.
والتعريف في {المهتد} تعريف العهد الذهني، فالمعرف مساوٍ للنكرة، فكأنه قيل: فهو مهتدٍ.
وفائدة الإخبار عنه بأنه مهتد التوطئة إلى ذكر مقابله وهو {ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء}، كما يقال من عَرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا فُلان.
ويجوز أن تجعل التعريف في قوله: {المهتد} تعريف الجنس فيفيد قصر الهداية على الذي هداه الله قصرًا إضافيًا، أي دون من تريد أنتَ هداه وأضله الله.
ولا يحتمل أن يكون المعنى على القصر الادعائي الذي هو بمعنى الكمال لأن الهدى المراد هنا هدي واحد وهو الهدي إلى الإيمان.
وحُذفت ياء {المهتد} في رسم المصحف لأنهم وقفوا عليها بدون ياء على لغة من يقف على الاسم المنقوص غيرِ المنون بحذف الياء، وهي لغة فصيحة غير جارية على القياس ولكنها أوثرت من جهة التخفيف لثقل صيغة اسم الفاعل مع ثقل حرف العلة في آخر الكلمة.
ورسمت بدون ياء لأن شأن أواخر الكلم أن ترسم بمراعاة حال الوقف.
وأما في حال النطق في الوصل فقرأها نافع وأبو عَمرو بإثبات الياء في الوصل وهو الوجه، ولذلك كتبوا الياء في مصاحفهم باللون الأحمر وجعلوها أدق من بقية الحروف المرسومة في المصحف تفرقة بينها وبين ما رسمه الصحابة كتّاب المصحف.
والباقون حذفوا الياء في النطققِ في الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف.
وذلك وإن كان نادرًا في غير الشعر إلا أن الفصحاء يُجرون الفواصل مجرى القوافي، واعتبروا الفاصلة كل جملة ثم بها الكلام، كما دل عليه تمثيل سيبويه في كتابه الفاصلة بقوله تعالى: {والليل إذا يسر} [الفجر: 4] وقوله: {قال ذلك ما كنا نبغ} [الكهف: 64].
وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} في سورة [الرعد: 9].
والخطاب في {فلن تجد لهم أولياء من دونه} للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن هذا الكلام مسوق لتسليته على عدم استجابتهم له، فنفي وجدان الأولياء كناية عن نفي وجود الأولياء لهم لأنهم لو كانوا موجودين لوجدهم هو وعرفهم.
والأولياء: الأنصار، أي لن تجد لهم أنصارًا يخلصونهم من جزاء الضلال وهو العذاب.
ويجوز أن يكون الأولياء بمعنى متولي شأنهم، أي لن تجد لهم من يُصلح حالهم فينقلهم من الضلال كقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: 257].
وجُمع الأولياء باعتبار مقابلة الجمع بالجمع، أي لن تجد لكل واحد وليًا ولا لجماعته وليًا، كما يقال: ركب القوم دوابهم.
و{من دونه} أي غيره.
ذكر المقصود من نفي الولي أو المَئال له بذكر صورة عقابهم بقوله: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} الآية.
والحشر: جمع الناس من مواضع متفرقة إلى مكان واحد.
ولما كان ذلك يستدعي مشيهم عدي الحشر بحرف {على} لتضمينه معنى يمشون. وقد فهم الناس ذلك من الآية فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم كيف يمشون على وجوههم؟ فقال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم.
والمقصود من ذلك الجمعُ بين التشويه والتعذيب لأن الوجه أرق تحملًا لصلابة الأرض من الرجل.
وهذا جزاء مناسب للجرم، لأنهم روّجوا الضلالة في صورة الحق ووسموا الحق بسمات الضلال فكان جزاؤهم أن حولت وجوههم أعضاءَ مشي عِوضًا عن الأرجل.
ثم كانوا {عميا وبكما} جزاء أقوالهم الباطلة على الرسول وعلى القرآن، و{صمًّا} جزاء امتناعهم من سماع الحق، كما قال تعالى عنهم: {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} [فصّلت: 5].
وقال عنهم: {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 125- 126]، وقال عنهم: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى} [الإسراء: 72] أي من كان أعمى عن الحق فهو في الحشر يكون محرومًا من متعة النظر. وهذه حالتهم عند الحشر، والمأوى محل الأوِيِّ، أي النزول بالمأوى، أي المنزل والمقر.
وخبت النار خُبُوًّا وخَبْوًا، نقص لهيبها، والسعير: لهب النار، وهو مشتق من سعّر النارَ إذا هيج وقودها، وقد جرى الوصف فيه على التذكير تبعًا لتذكير اللهب، والمعنى: زدناهم لهبًا فيها.
وفي قوله: {كلما خبت زدناهم سعيرًا} إشكال لأن نار جهنم لا تخبو.
وقد قال تعالى: {فلا يخفف عنهم العذاب} [البقرة: 86].
فعن ابن عباس: أن الكفرة وقود للنار قال تعالى: {وقودها الناس والحجارة} [البقرة: 24] فإذا أحرقتهم النار زال اللهب الذي كان متصاعدًا من أجسامهم فلا يلبثون أن يعادوا كما كانوا فيعود الالتهاب لهم.
فالخُبُوّ وازدياد الاشتعال بالنسبة إلى أجسادهم لا في أصل نار جهنم.
ولهذه النكتة سلط فعل {زدناهم} على ضمير المشركين للدلالة على أن ازدياد السعير كان فيهم، فكأنه قيل: كلما خبت فيهم زدناهم سعيرًا، ولم يقل: زدناها سعيرًا.
وعندي: أن معنى الآية جارٍ على طريق التهكّم وبادىء الإطماع المسفر عن خيبة، لأنه جعل ازدياد السعير مقترنًا بكل زمان من أزمنة الخبُوّ، كما تفيده كلمة {كلما} التي هي بمعنى كل زمان. وهذا في ظاهره إطماع بحصول خبو لورود لفظ الخبو في الظاهر، ولكنه يؤول إلى يأس منه إذ يدل على دوام سعيرها في كل الأزمان، لاقتران ازدياد سعيرها بكل أزمان خبوها.
فهذا الكلام من قبيل التمليح، وهو من قبيل قوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف: 40]، وقول إياس القاضي للخصم الذي سأله: على من قَضيت؟ فقال: على ابن أخت خالك.
{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)}.
استئناف بياني لأن العقاب الفظيع المحكي يثير في نفوس السامعين السؤال عن سبب تركب هذه الهيئة من تلك الصورة المفظعة، فالجواب بأن ذلك بِسبب الكفر بالآيات وإنكار المعاد.
فالإشارة إلى ما تقدم من قوله: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} [الإسراء: 97] إلى آخر الآية بتأويل: المذكور.
والجزاء: العوض عن عمل.
والباء في {بأنهم كفروا} للسببية.
والظاهر أن جملة {وقالوا أإذا كنا عظاما} إلخ.
عطف على جملة {بأنهم كفروا}.
فذكر وجه اجتماع تلك العقوبات لهم، وذُكر سببان:
أحدهما: الكفر بالآيات ويندرج فيه صنوف من الجرائم تفصيلًا وجمعًا تناسبها العقوبة التي في قوله: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم} [الإسراء: 97].
وثانيهما: إنكارهم البعث بقولهم: {أإذا كنا عظاما ورفاتًا أئنا لمبعوثون خلقا جديدًا} المناسب له أن يُعاقبوا عقابًا يناسب ما أنكروه من تجدد الحياة بعد المصير رفاتًا، فإن رفات الإحراق أشد اضمحلالًا من رفات العظام في التراب.
والاستفهام في حكاية قولهم: {أإذا كنا عظامًا} وقوله: {أئنا لمبعوثون} إنكاري.
وتقدم اختلاف القراء في إثبات الهمزتين في قوله: {أإذا} وفي إثباتها في قوله: {أإذا لمبعوثون} في نظير هذه الآية من هذه السورة.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}
جملة {أو لم يروا} عطف على جملة {ذلك جزاؤهم} [الإسراء: 98] باعتبار ما تضمنته الجملة المعطوفُ عليها من الردع عن قولهم: {أإذا كنا عظاما ورفاتًا} [الإسراء: 98].
فبعدَ زجرهم عن إنكارهم البعث بأسلوب التهديد عطف عليه إبطال اعتقادهم بطريق الاستدلال بقياس التمثيل في الإمكان، وهو كاف في إقناعهم هنا لأنهم إنما أنكروا البعث باعتقاد استحالته كما أفصح عنه حكاية كلامهم بالاستفهام الإنكاري.
وإحالتهم ذلك مستندة إلى أنهم صاروا عظامًا ورفاتًا، أي بتعذر إعادة خلق أمثال تلك الأجزاء، ولم يستدلوا بدليل آخر، فكان تمثيل خلق أجسام من أجزاء بالية بخلق أشياء أعظم منها من عدم أوْغَل في الفناء دليلًا يقطع دعواهم.
والاستفهام في {أو لم يروا} إنكاري مشوب بتعجيب من انتفاء علمهم، لأنهم لما جرت عقائدهم على استبعاد البعث كانوا بحال من لم تظهر له دلائل قدرة الله تعالى، فيؤول الكلام إلى إثبات أنهم علموا ذلك في نفس الأمر.
والرؤية مستعملة في الاعتقاد لأنها عديت إلى كون الله قادرًا، وذلك ليس من المبصرات.
والمعنى: أو لم يعلموا أن الله قادر على أن يخلق مثلهم.
وضمير {مثلهم} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {يروا} وهو {الناس} في قوله: {وما منع الناس} [الإسراء: 94] أي المشركين.
والمِثْل: المماثل، أي قادر على أن يخلق ناسًا أمثالهم، لأن الكلام في إثبات إعادة أجسام المردود عليهم لا في أن الله قادر على أن يخلق خلقًا آخر، ويكون في الآية إيماء إلى أن البعث إعادة أجسام أخرى عن عدم، فيخلق لكل ميت جسد جديد على مِثال جسده الذي كان في الدنيا وتوضع فيه الروح التي كانت له.
ويجوز أن يكون لفظ مِثل هنا كناية عن نفس ما أضيف إليه، كقول العرب: مثلك لا يبْخل، وقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] على أحد تأويلين فيه، أي على جعل الكاف الداخلة على لفظ مثله غيرَ زائدة.
والمعنى: قادر على أن يخلقهم، أي أن يعيد خلقهم، فإن ذلك ليس بأعجب من خلق السماوات والأرض.
ولعلمائنا طرق في إعادة الأجسام عند البعث فقيل: تكون الإعادة عن عدم، وقيل تكون عن جمع ما تَفرق من الأجسام.
وقيل: يَنبت من عَجْب ذنب كل شخص جسد جديد مماثل لجسده كما تنبت من النواة شجرة مماثلة للشجرة التي أثمرت ثمرةَ تلك النواة.
ووصف اسم الجلالة بالموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر، وهو الإنكار عليهم، لأن خلق السماوات والأرض أمر مشاهد معلوم، وكونه من فعل الله لا ينازعون فيه.
وجملة {وجعل لهم أجلًا لا ريب فيه} معطوفة على جملة {أو لم يروا} لتأويلها بمعنى قد رأوا ذلك لو كان لهم عقول، أي تحققوا أن الله قادر على إعادة الخلق وقد جعل لهم أجلًا لا ريب فيه.