فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)}.
بَقي قولهم: {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا} [الإسراء: 92] غيرَ مردود عليهم، لأن له مخالفة لبقية ما اقترحوه بأنه اقتراح آية عِذاب ورعب، فهو من قبيل آيات موسى عليه السلام التسع.
فكان ذكر ما آتاه الله موسى من الآيات وعدم إجداء ذلك في فرعون وقومه تنظيرًا لما سأله المشركون.
والمقصود: أننا آتينا موسى عليه السلام تسع آيات بيّناتتِ الدلالة على صدقه فلم يهتد فرعون وقومه وزعموا ذلك سحرًا، ففي ذلك مَثلٌ للمكابرين كلهم وما قريش إلا منهم.
ففي هذا مثَل للمعاندين وتسلية للرسول.
والآيات التسع هي: بياض يده كلما أدخلها في جيبه وأخرجَها، وانقلاب العصا حية، والطوفان، والجراد، والقُمّل، والضفادع، والدم، والرجز وهو الدمل، والقحط وهو السنون ونقص الثمرات، وهي مذكورة في سورة الأعراف.
وجمعها الفيروزآبادي في قوله: عَصًا، سَنَةٌ، بَحْر، جراد، وقُمّل، يَدٌ، ودَمٌ، بعد الضفادع طُوفَانُ فقد حصلت بقوله: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} الحجة على المشركين الذين يقترحون الآيات.
ثم لم يزل الاعتناء في هذه السورة بالمقارنة بين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالة موسى عليه السلام إقامةً للحجة على المشركين الذين كذبوا بالرسالة بعلة أن الذي جاءهم بشر، وللحجة على أهل الكتاب الذين ظاهروا المشركين ولقنوهم شُبه الإلحاد في الرسالة المحمدية ليصفو لهم جَوّ العلم في بلاد العرب وهم ما كانوا يحسبون لما وراء ذلك حسابًا.
فالمعنى: ولقد آتينا موسى تسع آيات على رسالته.
وهذا مثل التنظير بين إيتاء موسى الكتاب وإيتاء القرآن في قوله في أول السورة {وآتينا موسى الكتاب} [الإسراء: 2] الآيات، ثم قوله: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9].
فتكون هذه الجملة عطفًا على جملة {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولًا} [الإسراء: 93] أو على جملة {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي} الآية [الإسراء: 100].
ثم انتقل من ذلك بطريقة التفريع إلى التسجيل ببني إسرائيل استشهادًا بهم على المشركين، وإدماجًا للتعريض بهم بأنهم سَاووا المشركين في إنكار نبوءة محمد ومظاهرتهم المشركين بالدس وتلقين الشبه، تذكيرًا لهم بحال فرعون وقومه إذ قال {له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورًا}.
والخطاب في قوله: {فسئل} للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد: سؤال الاحتجاج بهم على المشركين لا سؤال الاسترشاد كما هو بين.
وقوله: {مسحورًا} ظاهره أن معناه متأثرًا بالسحر، أي سحَركَ السحرة وأفسدوا عقلك فصُرت تهرف بالكلام الباطل الدال على خلل العقل مثل المَيْمون والمشؤوم.
وهذا قول قاله فرعون في مقام غير الذي قال له فيه {يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره} [الشعراء: 35]، والذي قال فيه {إن هذا لساحر عليم}، [الشعراء: 34] فيكون إعراضًا عن الاشتغال بالآيات وإقبالًا على تطلع حال موسى فيما يقوله من غرائب الأقوال عندهم.
ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنه قال {لمن حوله ألا تستمعون} [الشعراء: 25].
وكل تلك أقوال صدرت من فرعون في مقامات محاوراته مع موسى عليه السلام فحكي في كل آية شيء منها.
و{إذا} ظرف متعلق بـ {آتينا}.
والضمير المنصوب في {جاءهم} عائد إلى بني إسرئيل.
وأصل الكلام: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات إذ جاء بني إسرائيل، فاسألْهم.
وكان فرعون تعلق ظنه بحقيقة ما أظهر من الآيات فرجح عنده أنها سحر، أوْ تعلق ظنه بحقيقة حال موسى فرجح عنده أنه أصابه سحر، لأن الظن دون اليقين، قال تعالى: {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32]. وقد يستعمل الظن بمعنى العلم اليقين.
ومعنى و{لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض} أن فرعون لم يبق في نفسه شك في أن تلك الآيات لا تكون إلا بتسخير الله إذ لا يقدر عليها غيرُ الله، وأنه إنما قال: {إني لأظنك يا موسى مسحورًا} عنادًا ومكابرة وكبرياء.
وأكد كلام موسى بلام القسم وحرف التحقيق تحقيقًا لحصول علم فرعون بذلك.
وإنما أيقن موسى بأن فرعون قد علم بذلك: إما بوحي من الله أعلمه به، وإما برأي مُصيب، لأن حصول العلم عند قيام البرهان الضروري حصول عقلي طبيعي لا يتخلف عن عقل سليم.
وقرأ الكسائي وحده {لقد علمتُ} بضم التاء، أي أن تلك الآيات ليست بسحر كما زعمتَ كناية على أنه واثق من نفسه السلامة من السحر.
والإشارة بـ {هؤلاء} إلى الآيات التسع جيء لها باسم إشارة العاقل، وهو استعمال مشهور.
ومنه قوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} [الإسراء: 36]، وقول جرير:
ذُم المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيشَ بعد أولئِك الأيام

والأكثر أن يشار بـ أولاء إلى العاقل.
والبصائر: الحجج المفيدة للبصيرة، أي العلم، فكأنها نفس البصيرة.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {هذا بصائر من ربكم} في آخر سورة [الأعراف: 203].
وعبر عن الله بطريق إضافة وصف الرب للسماوات والأرض تذكيرًا بأن الذي خلق السماوات والأرض هو القادر على أن يخلق مثل هذه الخوارق.
والمثبور: الذي أصابه الثُبور وهو الهلاك.
وهذا نذارة وتهديد لفرعون بقرب هلاكه.
وإنما جعله موسى ظنًا تأدبًا مع الله تعالى، أو لأنه علم ذلك باستقراء تام أفاده هلاك المعاندين للرسل، ولكنه لم يدر لعل فرعون يقلع عن ذلك وكان عنده احتمالًا ضعيفًا، فلذلك جعل توقع هلاك فرعون ظنًا.
ويجوز أن يكون الظن هنا مستعملًا بمعنى اليقين كما تقدم آنفًا.
وفي ذكر هذا من قصة موسى إتمام لتمثيل حال معاندي الرسالة المحمدية بحال من عاند رسالة موسى عليه السلام.
وجاء في جواب موسى عليه السلام لفرعون بمثل ما شافهه فرعون به من قوله: {إني لأظنك يا موسى مسحورًا} مقارعة له وإظهارًا لكونه لا يخافه وأنه يعامله معاملة المثل قال تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194].
{فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)}.
أكملت قصة المثل بما فيه تعريض بتمثيل الحالين إنذارًا للمشركين بأن عاقبة مكرهم وكيدهم ومحاولاتهم صائرة إلى ما صار إليه مكر فرعون وكيده، ففرع على تمثيل حالي الرسالتين وحالي المرسل إليهما ذكر عاقبة الحالة الممثل بها نذارة للممثلين بذلك المصير.
فقد أضمر المشركون إخراج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مكة، فمثلت إرادتهم بإرادة فرعون إخراج موسى وبني إسرائيل من مصر، قال تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا} [الإسراء: 76].
والاستفزاز: الاستخفاف، وهو كناية عن الإبعاد.
وتقدم عند قوله تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض} في هذه السورة [الإسراء: 76].
والمراد بمن معه جنده الذين خرجوا معه يتبعون بني إسرائيل.
والأرض الأولى هي المعهودة وهي أرض مصر، والأرض الثانية أرض الشام وهي المعهودة لبني إسرائيل بوعد الله إبراهيمَ إياها.
ووعد الآخرة ما وعد الله به الخلائق على ألسنة الرسل من البعث والحشر.
واللفيف: الجماعات المختلطون من أصناف شتى، والمعنى: حكمنا بينهم في الدنيا بغرق الكفرة وتمليك المؤمنين، وسنحكم بينهم يوم القيامة. ومعنى {جئنا بكم} أحضرناكم لدينا. والتقدير: جئنا بكم إلينا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} الآية.
قال بعض أهل العلم: هذه الآيات التسع، هي: العصا، واليد، والسنون. والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدمن ىيات مفصلات.
وقد بين جل وعلا هذه الآيات في مواضع أخر. كقوله: {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 107-108]، وقوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات} [الأعراف: 130] الآية، وقوله: {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63]، وقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ} [الأعراف: 133] إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما ذكرنا.
وجعل بعضهم الجبل بدل {السنين} وعليه فقد بين ذلك قوله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف: 171] ونحوها من الآيات.
قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ} الآية.
بين جل وعلا في هذه الآية الكرييمة: أن فرعون عالم بأن الآيات المذكورة ما أنزلها إلا رب السموات والأرض بصائر: أي حججًا واضحة. وذلك يدل على أن قول فرعون {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} [طه: 49]، وقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23] كل ذلك منه تجاهل عارف.
وقد اوضح جل وعلا هذا المعنى مبينًا سبب جحوده لما علمه في سورة النمل بقوله: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 12-14] الآية. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)}.
وقد سبق أن اقترح كفار مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة آيات ذُكرَتْ في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 90-93]
فأراد الحق سبحانه أنْ يُلفِت نظره أن سابقيهم من اليهود أتتهم تسع آيات ونزلت عليهم دون أنْ يطلبوها، ومع ذلك كفروا، فالمسألة كلها تعنّت وعناد من أهل الكفر في كل زمان ومكان.
ومعنى {بَيِّنَاتٍ..} [الإسراء: 101] أي: واضحات مشهورات بَلْقَاء كالصبح، لأنها حدثت جميعها على مَرْأىً ومشهد من الناس.
والمراد بالآيات التسع هنا هي الآيات الخاصة بفرعون؛ لأن كثيرين يخلطون بين معجزات موسى إلى فرعون، ومعجزاته إلى بني إسرائيل.
إذن: فقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ..} [الإسراء: 101] هي الآيات التي أُرسِل بها إلى فرعون وقومه وهي: العصا التي انقلبتْ حية، واليد التي أخرجها من جيبه بيضاء مُنورة، وأَخْذ آل فرعون بالسنين ونَقْصٍ من الأموال والأنفس والثمرات، ثم لما كذَّبوا أنزل الله عليهم الطوفان، والجراد، والقُمّل، والضفادع، والدم، هذه تسع آيات خاصة بما دار بين موسى وفرعون.