فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وبالحق نزل} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، أي نزل عليه؛ كما تقول نزلت بزيد.
وقيل: يجوز أن يكون المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل، وكذلك نزل.
قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} مذهب سيبويه أن {قرآنًا} منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر.
وقرأ جمهور الناس {فَرَقناه} بتخفيف الراء، ومعناه بيناه وأوضحناه، وفرقنا فيه بين الحق والباطل؛ قاله الحسن.
وقال ابن عباس: فصلناه.
وقرأ ابن عباس وعليّ وابن مسعود وأبيّ بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبيّ {فرّقناه} بالتشديد، أي أنزلناه شيئًا بعد شيء لا جملةً واحدة؛ إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبي: {فرقناه عليك}.
واختلف في كم نزل القرآن من المدّة؛ فقيل: في خمس وعشرين سنة.
ابن عباس: في ثلاث وعشرين.
أنس: في عشرين.
وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أنه نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة.
وقد مضى هذا في البقرة.
{على مُكْثٍ} أي تطاوُل في المدّة شيئًا بعد شيء.
ويتناسق هذا القرآن على قراءة ابن مسعود، أي أنزلناه آية آية وسورةً سورة.
وأمّا على القول الأول فيكون {على مكث} أي على ترسّل في التلاوة وترتيل؛ قاله مجاهد وابن عباس وابن جريج.
فيعطي القارىء القراءة حقّها من ترتيلها وتحسينها وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين ولا تطريب مؤد إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان فإن ذلك حرام على ما تقدم أوّل الكتاب.
وأجمع القراء على ضم الميم من {مكث} إلا ابن محيصن فإنه قرأ {مكث} بفتح الميم.
ويقال.
مَكْث ومُكْث ومِكْث؛ ثلاث لغات.
قال مالك: {على مُكْث} على تثبّت وترسّلٍ.
قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم، أي أنزلناه نَجْمًا بعد نجم؛ ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا.
قوله تعالى: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا} يعني القرآن.
وهذا من الله عز وجل على وجه التبكيت لهم والتهديد لا على وجه التخيير.
{إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ} أي من قبل نزول القرآن وخروج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ في قول ابن جريج وغيره.
قال ابن جريج: معنى {إذا يتلى عليهم} كتابهم.
وقيل القرآن.
{يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} وقيل: هم قوم من ولد إسماعيل تمسّكوا بدينهم إلى أن بعث الله تعالى النبيّ عليه السلام، منهم زيد بن عمرو بن نُفيل وورقة بن نَوْفل.
وعلى هذا ليس يريد أوتوا الكتاب بل يريد أوتوا علم الدِّين.
وقال الحسن: الذين أوتوا العلم أمةُ محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: إنهم ناس من اليهود؛ وهو أظهر لقوله: {مِنْ قَبْله}.
{إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ} يعني القرآن في قول مجاهد.
كانوا إذا سمعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن سجدوا وقالوا: {سبحان ربّنا إن كان وعد ربّنا لمفعولًا}.
وقيل: كانوا إذا تلَوْا كتابهم وما أنزل عليه من القرآن خشعوا وسجدوا وسبحوا، وقالوا: هذا هو المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الإسلام؛ فنزلت الآية فيهم.
وقالت فرقة: المراد بالذين أوتوا العلم من قبله محمدٌ صلى الله عليه وسلم، والضمير في {قَبْله} عائد على القرآن حسب الضمير في قوله: {قل آمنوا به}.
وقيل: الضميران لمحمد صلى الله عليه وسلم، واستأنف ذكر القرآن في قوله: {إذا يتلى عليهم}.
{وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)} دليل على جواز التسبيح في السجود.
وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في سجوده وركوعه: «سبحانك اللهمّ ربَّنا وبحمدك اللّهمّ اغفر لي».
{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} فيه أربع مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم.
وحقّ لكل من توسّم بالعلم وحصّل منه شيئًا أن يجري إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل. وفي مسند الدّارميّ أبي محمد عن التَّيْميّ قال: من أوتيَ من العلم ما لم يبكّه لخليق ألا يكون أوتي علمًا؛ لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية. ذكره الطبري أيضًا. والأذقان جمع ذقن، وهو مجتمع اللِّحيين. وقال الحسن: الأذقان عبارة عن اللِّحَى؛ أي يضعونها على الأرض في حال السجود، وهو غاية التواضع. واللام بمعنى على؛ تقول سقط لِفِيه أي على فيه.
وقال ابن عباس: {ويخرون للأذقان سُجّدًا} أي للوجوه، وإنما خص الأذقان بالذكر لأن الذقن أقرب شيء من وجه الإنسان. قال ابن خُوَيْز منداد: ولا يجوز السجود على الذقن؛ لأن الذقن ها هنا عبارة عن الوجه، وقد يعبّر بالشيء عما جاوره وببعضه عن جميعه؛ فيقال: خر لوجهه ساجدًا وإن كان لم يسجد على خدّه ولا عينه.
ألا ترى إلى قوله:
فخرّ صَرِيعًا لليدين ولِلفَم

فإنما أراد: خر صريعًا على وجهه ويديه.
الثانية:
قوله تعالى: {يَبْكُونَ} دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى، أو على معصيته في دين الله، وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها. ذكر ابن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البُنَانيّ عن مُطَرِّف بن عبد الله بن الشَّخِّير عن أبيه قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزِيز كأزير المِرْجل من البكاء.
وفي كتاب أبي داود: وفي صدره أزير كأزير الرحى من البكاء.
الثالثة:
واختلف الفقهاء في الأنين؛ فقال مالك: الأنين لا يقطع الصلاة للمريض، وأكرهه للصحيح؛ وبه قال الثوري. وروى ابن الحكم عن مالك: التنحنحُ والأنين والنفخ لا يقطع الصلاة، وقال ابن القاسم: يقطع. وقال الشافعيّ: إن كان له حروف تُسمع وتُفهم يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع. وروي عن أبي يوسف أن صلاته في ذلك كلّه تامةٌ؛ لأنه لا يخلو مريض ولا ضعيف من أنين.
الرابعة:
قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} تقدّم القول في الخشوع في البقرة ويأتي. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}.
{وبالحق أنزلناه} هو مردود على قوله: {لئن اجتمعت الإنس والجن} الآية وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولًا، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في {أنزلناه} عائد على موسى عليه السلام وجعل منزلًا كما قال {وأنزلنا الحديد} أو عائد على الآيات التسع، وذكر على المعنى أو عائد على الوعد المذكور قبله.
وقال أبو سليمان الدمشقي {وبالحق أنزلناه} أي بالتوحيد، {وبالحق نزل} أي بالوعد والوعيد والأمر والنهي.
وقال الزهراوي: بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس، {وبالحق نزل} أي بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره.
وقال الزمخشري: وما أنزلنا القرآن إلاّ بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلاّ ملتبسًا بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير، وما أنزلناه من السماء إلاّ بالحق محفوظًا بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلاّ محفوظًا بهم من تخليط الشياطين انتهى.
وقد يكون {وبالحق نزل} توكيدًا من حيث المعنى لما كان يقال أنزلته فنزل، وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من نزوله جاء، {وبالحق نزل} مزيلًا لهذا الاحتمال ومؤكدًا حقيقة، {وبالحق نزل} وإلى معنى التأكيد نحا الطبري.
وانتصب {مبشرًا ونذيرًا} على الحال أي {مبشرًا} لهم بالجنة ومنذرًا من النار ليس لك شيء من إكراههم على الدين.
وقرأ الجمهور: {فرقناه} بتخفيف الراء أي بيَّنا حلاله وحرامه قاله ابن عباس، وعن الحسن فرقنا فيه بين الحق والباطل.
وقال الفراء: أحكمناه وفصلناه كقوله: {فيها يفرق كل أمر حكيم} وقرأ أبيّ وعبد الله وعليّ وابن عباس وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمرو بن قائد وزيد بن عليّ وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه بشد الراء أي {أنزلناه} نجمًا بعد نجم، وفصلناه في النجوم.
وقال بعض من اختار ذلك: لم ينزل في يوم ولا يومين ولا شهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين.
قال ابن عباس: كان بين أوله وآخره عشرون سنة، هكذا قال الزمخشري عن ابن عباس.
وحكي عن ابن عباس في ثلاث وعشرين سنة.
وقيل: في خمس وعشرين، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في سنه عليه السلام، وعن الحسن نزل في ثمانية عشر سنة.
قال ابن عطية: وهذا قول مختل لا يصح عن الحسن.
وقيل معنى: {فرّقناه} بالتشديد فرقنا آياته بين أمر ونهي، وحكم وأحكام، ومواعظ وأمثال، وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي.
وانتصب {قرآنًا} على إضمار فعل يفسره {فرقناه} أي وفرقنا {قرآنًا فرقناه} فهو من باب الاشتغال وحسن النصب، ورجحه على الرفع كونه عطفًا على جملة فعلية وهي قوله: {وما أرسلناك}.
ولابد من تقدير صفة لقوله: {وقرآنًا} حتى يصح كونه كان يجوز فيه الابتداء لأنه نكرة لا مسوغ لها في الظاهر للابتداء بها، والتقدير {وقرآنًا} أي قرآن أي عظيمًا جليلًا، وعلى أنه منصوب بإضمار فعل يفسره الظاهر بعده خرّجه الحوفي والزمخشري.
وقال ابن عطية وهو مذهب سيبويه.
وقال الفراء: هو منصوب بأرسلناك أي {ما أرسلناك إلاّ مبشرًا ونذيرًا وقرآنًا} كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة وهذا إعراب متكلف وأكثر تكلفًا منه قول ابن عطية، ويصح أن يكون معطوفًا على الكاف في {أرسلناك} من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا المعنى واحد.
وقرأ أُبيّ وعبد الله {فرّقناه} عليك بزيادة عليك و{لتقرأه} متعلق بفرقناه، والظاهر تعلق على مكث بقوله: {لتقرأه} ولا يبالي بكون الفعل يتعلق به حرفًا جر من جنس واحد لأنه اختلف معنى الحرفين الأول في موضع المفعول به، والثاني في موضع الحال أي متمهلًا مترسلًا.
قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج: {على مكث} على ترسل في التلاوة.
وقيل: {على مكث} أي تطاول في المدة شيئًا بعد شيء.
وقال الحوفي: {على مكث} بدل من {على الناس} وهذا لا يصح لأن قوله: {على مكث} هو من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القارىء، أو صفات المقروء في المعنى وليس من صفات الناس فيكون بدلًا منهم.
وقيل يتعلق {على مكث} بقوله: {فرقناه} ويقال مكث بضم الميم وفتحها وكسرها.
وقال ابن عطية: وأجمع القراء على ضم الميم من {مكث}.
وقال الحوفي: والمكث بالضم والفتح لغتان، وقد قرئ بهما وفيه لغة أخرى كسر الميم.
{ونزلناه تنزيلًا} على حسب الحوادث من الأقوال والأفعال.
{قل آمنوا به أو لا تؤمنوا} يتضمن الإعراض عنهم والاحتقار لهم والازدراء بهم وعدم الاكثرات بهم وبإيمانهم وبامتناعهم منه، وأنهم لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرًا منهم وأفضل هم العلماء الذي قرؤوا الكتاب وعلموا ما الوحي وما الشرائع، قد آمنوا به وصدقوه وثبت عندهم أنه النبيّ العربي الموعود في كتبهم، فإذا تُلي عليهم خروا {سُجَّدًا} وسبحوًا الله تعظيمًا لوعده ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله: {إن كان وعد ربنا لمفعولًا}.
و{إن الذين أوتوا العلم من قبله} يجوز أن يكون تعليلًا لقوله: {آمنوا به أو لا تؤمنوا} أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم، وأن يكون تعليلًا لقل على سبيل التسلية كأنه قيل {قل} عن إيمان الجاهلية بإيمان العلماء انتهى من كلام الزمخشري، وفيه بعض تلخيص.