فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}.
أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس. أن قريشًا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} قال: هم النصارى.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} قال: هم النصارى، وكانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} الآية. قال: هم الروم، كانوا ظاهروا بختنصر على بيت المقدس. وفي قوله: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين} قال: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن تضرب عنقه، وقد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها. وفي قوله: {لهم في الدنيا خزي} قال: أما خزيهم في الدنيا فإنه إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم فذلك الخزي.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال: أولئك أعداء الله الروم، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال: إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس حرقوه، فلما بعث الله محمدًا أنزل عليه {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها} الآية. فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفًا.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: هؤلاء المشركون حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت يوم الحديبية.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي صالح قال: ليس للمشركين أن يدخلوا المسجد إلا وهم خائفون.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: {لهم في الدنيا خزي} قال: يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه عن بسر بن أرطاة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة». اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال في صفوة التفاسير:
البلاغة:
1- {تلك أمانيهم} الجملة اعتراضية وفائدتها بيان بطلان الدعوى وأنها دعوى كاذبة.
2- {قل هاتوا برهانكم} الأمر هنا للتبكيت والتقريع، فليس عندهم حجة أو برهان.
3- {من أسلم وجهه لله} خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء، فالوجه هنا استعارة عن القصد، والتوجه والإقبال على الله، ومعنى أسلم وجهه أي استسلم وخضع، وأخلص عمله لله.
4- {عند ربه} وضع اسم الرب موضع ضمير الجلالة، لإظهار مزيد اللطف به.
5- {قال الذين لا يعلمون} فيه توبيخ عظيم لأهل الكتاب لأنهم خرطوا أنفسهم- مع علمهم- في سلك من لا يعلم أصلا.
6- {ومن أظلم} الاستفهام بمعنى النفي أي لا أحد أظلم منه.
7- {لهم في الدنيا خزي} التنكير للتهويل أي خزي هائل فظيع، لا يكاد يوصف لهوله.
8- {عليم} صيغة فعيل للمبالغة، أي واسع العلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
و{مَنْ} يجوز أن تكون موصولة، فلا محلّ للجملة بعدها، وأن تكون موصوفةً فتكون الجملة محلّ جار صفة لها.
و{مَسَاجِدَ} مفعول أول بت {منع}، وهي جمع مسجد، وهو اسم مكان السجود، وكان من حقه أن يأتي على مَفْعَل بالفتح لانضمام عين مضارعة، ولكن شذّ كسره، كما شذّت ألفاظ تأتي.
وقد سمع مَسْجَد بالفتح على الأصل.
قال القرطبي رحمه الله: قال الفَرَّاء: كل ما كان على فَعَلَ يَفْعُل، مثل دَخَلَ يَدخُل، فالمَفْعَل منه بالفتح اسمًا كان أو مصدرًا، ولا يقع فيه الفرق، مثل: دخل يَدْخُل مَدْخَلًا، وهذا مَدْخَلُه، إلاَ أحرفًا من الأسماء ألزموها كسر العين، من ذلك: المَسْجِد، والمَطْلع، المَغْرِب، والمَشْرِقن والمَسْقِط، والمَفْرِق، والمْجزِر، والمَسْكِن، والمَرْفِق، من: رفَقَ يَرْفُق، والمَنْبِت، والمنْسك مَنْك نَسَكَ يَنْسُك، فجعلوا الكَسر علامة للاسم.
والمَسْجَد بالفتح جَبْهَةُ الرجل حيث يصيبه مكان السجود.
قال الجوهري رحمه الله تعالى: الأعظاء السَّبعة مَسَاجد، وقد تبدل جيمه ياء، ومنه: المَسْجد لغة.
قوله تعالى: {أَنْ يُذْكَرَ} ناصب ومنصوب، وفيه أربع أوجه:
أحدها: أنه ثاني ل {منع}، تقول: منعته كذا.
وقال أبو حيان: فتعين حذف مضاف أي دخول مساجد الله، ما أشبهه.
والثالث: أنه بدل اشتمال من {مَسَاجِدَ} أي: منع ذكر اسمه فيها.
والرابع: إنه على إسقاط حرف الجر، والأصل من أن يذكر، وحينئذ يجيء فيها مذهبان مشهوران كونها في محلّ نصب أو جر، و{في خرابها} متعلق ب {سعى}.
واختلف في خراب فقال أبو البقاء: هو اسم مصدر بمعنى التخريب كالسَّلام بمعنى التسليم، وأضيف اسم المصدر لمفعوله؛ لأنه يعمل عمل الفعل.
وهذا على أحد القولين في أسم المصدر، هل يعمل أو لا؟ وأنشدوا على إعماله: الوافر:
أَكُْرًا بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي ** وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرِّتَاعَا

وقال غيره: هو مصدر: خَرِبَ المكمان يَخْرُبَ خربًان فالمعنى: سعى في أن تَخْرب هي بنفسها بعدم تَعَاهدها بالعِمَارة، ويقال: منزل خَرَاب وخَرِب؛ كقوله: البسيط:
ما رَبْعُ مَيِّةَ مَعْمُورًا يَطِيفُ بِهِ ** غَيْلاَنُ أَبْهَى رُبًا مِنْ رَبْعِها الخَرِبِ

فهو على الاول مضاف للمفعول وعلى الثاني مضاف للفاعل.
قوله تعالى: {أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا}.
{أولئك} مبتدأ، {لهم} خبر {كان} مقدّم على اسمها، واسمها {أنْ يَدْخُلُوهَا} لأنه في تأويل المصدر، أي: ما كان لهم الدخول، والجملة المنفية محلّ رفع خبر عن {أولئك}.
قوله: {إلاَّ خَائِفِينَ} حال من فاعل {يَدْخُلُوهَا} وهذا استثناء مفرّغ من الأحوال؛ لأن التقدير: ما كان لهم الدخول في جميع الأحوال، إلاَّ في حالة الخوف.
وقرأ أبي {خُيَّفًا} وهو جمع خَائِف، كضارب وضُرّب، والأصل: خُوَّف كصُوَّم، إلا أنه أبدل الواوين ياءين وهو جائز، قالوا: صوم وصيم، وحَمَل أولًا على لفظ {من}، فأفرد في قوله: منع، وسعى وعلى معناه ثانيًا، فجمع في قوله: {أولئك} وما بعده. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (115):

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أفهمت الآية أنه حصل لأولياء الله منع من عمارة بيت الله بذكره وكان الله تعالى قد منّ على هذه الأمة بأن جعل الأرض كلها لها مسجدًا سلّى المؤمنين بأنهم أينما صلوا بقصد عبادته لقيهم ثوابه، لأنه لا يختص به جهة دون جهة، لأن ملكه للكل على حدّ سواء؛ فكان كأنه قيل: فأقيموا الصلاة التي هي أعظم ذكر الله حيثما كنتم فإنه لله، كما أن المسجد الذي مُنعتموه لله؛ وعطف عليه قوله: {ولله} أي الذي له الكمال كله {المشرق} أي موضع الشروق وهو مطلع الأنوار {والمغرب} وهو موضع أفولها، فأنبأ تعالى كما قال الحرالي بإضافة جوامع الآفاق إليه إعلامًا بأن الوجهة لوجهه لا للجهة، من حيث إن الجهة له. انتهى.
ولما كان هذان الأفقان مدارًا للكواكب من الشمس وغيرها عبر بهما عن جميع الجهات، لتحول الأفلاك حال الدوران إلى كل منهما.
فلذلك تسبب عن ذكرهما قوله: {فأينما تولوا} أي فأي مكان أوقعتم فيه التولية للصلاة إلى القبلة التي أمرتم بالتولية إليها من بيت المقدس أو الكعبة أو غيرهما في النافلة {فثَم} أي فذلك الموضع، لأن ثمَّ إشارة لظرف مكان {وجه الله} أي جهته التي وجهكم إليها أو مكان استقباله والتوجه إليه وما يستقبلكم من جلاله وجماله ويتوجه إليكم من بره وإفضاله.
فإن نسبة جميع الأماكن والجهات في الإبداع والقرب والبعد وغير ذلك إليه واحدة.
قال الحرالي: وأبهم المولى ليقع تولي القلب لوجه الله حين تقع محاذاة وجه الموجه الظاهر للجهة المضافة لله. انتهى.
ولما أخبر من سعة فضله مبثوثًا في واسع ملكه بما وقفت العقول عن منتهى علمه علله بما صغُر ذلك في جنبه فقال: {إن الله} فذكره بالاسم الأعظم الجامع لجميع الأسماء {واسع} أي محيط بما لا تدركه الأوهام، فلا يقع شيء إلا في ملكه؛ وأصل الوسع تباعد الأطراف والحدود {عليم} فلا يخفى عليه فعل فاعل أي ما كان وكيف ما كان، فهو يعطي المتوجه إليه على قدر نيته بحسب بلوغ إحاطته وشمول علمه وقدرته.
قال الحرالي في شرح الأسماء: والسعة المزيد على الكفاية من نحوها إلى أن ينبسط إلى ما وراء امتدادًا ورحمة وعلمًا {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156] {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} [المائدة: 35] ولا تقع السعة إلا مع إحاطة العلم والقدرة وكمال الحلم وإفاضة الخير والنعمة لمقتضى كمال الرحمة، ولمسرى النعمة في وجوه الكفايات ظاهرًا وباطنًا خصوصًا وعمومًا لم يكد يصل الخلق إلى حظ من السعة، أما ظاهرًا فلا تقع منهم ولا تكاد «إنكم لن تسعوا الناس بمعروفكم»، وأما باطنًا بخصوص حسن الخلق فعساه يكاد.
وقال في تفسيره: قدم تعالى: {المشرق} لأنه موطن بدو الأنوار التي منها رؤية الأبصار، وأعقبه بالمغرب الذي هو مغرب الأنوار الظاهرة وهو مشرق الأنوار الباطنة، فيعود التعادل إلى أن مشرق الأنوار الظاهرة هو مغرب الأنوار الباطنة «الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان- وأشار بيده نحو المشرق»، «لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق». انتهى.
قلت: ومن ذلك حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله بالمغرب بابًا- وفي رواية: باب التوبة مفتوح من قبل المغرب- مسيرة عرضه سبعون عامًا، لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله».
أخرجه الطبراني والبغوي في تفسيره، وقد ظهر أن المغرب في الحديث المتقدم هو في الصحيح ما عدا المشرق الذي أشار إليه بالفتنة في الحديث الآخر، فالمغرب حينئذ المدينة وما ينسب إليها من جهة المشرق وما وراء ذلك من جهة الجنوب والشمال وما وراء ذلك من جهة الغرب إلى منتهى الأرض، فلا يعارض حينئذ حديث: «وهم بالشام» فإنها من جملة المغرب على هذا التقدير، فدونك جمعًا طال ما دارت فيه الرءوس وحارت فيه الأفكار في المحافل والدروس- والله الموفق. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، الضابط أن الأكثرين زعموا أنها إنما نزلت في أمر يختص بالصلاة ومنهم من زعم أنها إنما نزلت في أمر لا يتعلق بالصلاة، أما القول الأول فهو أقوى لوجهين، أحدها: أنه هو المروي عن كافة الصحابة والتابعين وقولهم حجة.
وثانيهما: أن ظاهر قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} يفيد التوجه إلى القبلة في الصلاة، ولهذا لا يعقل من قوله: {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 144] إلا هذا المعنى إذا ثبت هذا فنقول: القائلون بهذا القول اختلفوا على وجوه:
أحدها: أنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة، فبين تعالى أن المشرق والمغرب وجميع الجهات والأطراف كلها مملوكة له سبحانه ومخلوقة له، فأينما أمركم الله باستقباله فهو القبلة، لأن القبلة ليست قبلة لذاتها، بل لأن الله تعالى جعلها قبلة، فإن جعل الكعبة قبلة فلا تنكروا ذلك لأنه تعالى يدبر عباده كيف يريد وهو واسع عليم بمصالحهم فكأنه تعالى ذكر ذلك بيانًا لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر، فيصير ذلك مقدمة لما كان يريد تعالى من نسخ القبلة.
وثانيها: أنه لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت الآية ردًا عليهم وهو قول ابن عباس وهو نظير قوله: {قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِى مَن يَشَاءُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142].
وثالثها: قول أبي مسلم وهو أن اليهود والنصارى كل واحد منهم قال: إن الجنة له لا لغيره، فرد الله عليهم بهذه الآية لأن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصخرة والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى عليه السلام إنما ولد هناك على ما حكى الله ذلك في قوله تعالى: {واذكر في الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًا} [مريم: 16] فكل واحد من هذين الفريقين وصف معبوده بالحلول في الأماكن ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق، فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق.
ورابعها: قال بعضهم: إن الله تعالى نسخ بيت المقدس بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية، فكان للمسلمين أن يتوجهوا إلى حيث شاءوا في الصلاة إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختار التوجه إلى بيت المقدس مع أنه كان له أن يتوجه حيث شاء، ثم أنه تعالى نسخ ذلك بتعيين الكعبة، وهو قول قتادة وابن زيد.
وخامسها: أن المراد بالآية من هو مشاهد للكعبة فإن له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد.
وسادسها: ما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة فجعل كل رجل منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه، ثم صلينا فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا الحديث يدل على أنهم كانوا قد نقلوا حينئذ إلى الكعبة لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ قبلة بيت المقدس.
وسابعها: أن الآية نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث تتوجه به راحلته.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه قال: إنما نزلت هذه الآية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر.
وكان عليه السلام إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعًا يوميء برأسه نحو المدينة، فمعنى الآية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم: {فَثَمَّ وَجْهُ الله} فقد صادفتم المطلوب: {إِنَّ الله واسع} الفضل غني، فمن سعة فضله وغناه رخص لكم في ذلك لأنه لو كلفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحال لزم أحد الضررين، إما ترك النوافل، وإما النزول عن الراحلة والتخلف عن الرفقة بخلاف الفرائض، فإنها صلوات معدودة محصورة فتكليف النزول عن الراحلة عند أدائها واستقبال القبلة فيها لا يفضي إلى الحرج بخلاف النوافل، فإنها غير محصورة، فتكليف الاستقبال يفضي إلى الحرج.
فإن قيل: فأي هذه الأقاويل أقرب إلى الصواب.
قلنا: إن قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} مشعر بالتخيير والتخيير لا يثبت إلا في صورتين.
أحدهما: في التطوع على الراحلة.
وثانيهما: في السفر عند تعذر الاجتهاد للظلمة أو لغيرها، لأن في هذين الوجهين المصلي مخير فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير وقول من يقول: إن الله تعالى خير المكلفين في استقبال أي جهة شاءوا بهذه الآية، وهم كانوا يختارون بيت المقدس لا لأنه لازم، بل لأنه أفضل وأولى بعيد لأنه لا خلاف أن لبيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة اختصاصًا في الشريعة ولو كان الأمر كما قالوا: لم يثبت ذلك الاختصاص وأيضًا فكان يجب أن يقال: إن بيت المقدس صار منسوخًا بالكعبة فهذه الدلالة تقتضي أن يكون حمل الآية على الوجه الثالث والرابع، وأما الذين حملوا الآية على الوجه الأول فلهم أن يقولوا: إن القبلة لما حولت تكلم اليهود في صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صوابًا في ذلك الوقت والتوجه إلى الكعبة صواب في هذا الوقت، وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القبلتين في المأذون فيه فثم وجه الله، قالوا: وحمل الكلام على هذا الوجه أولى، لأنه يعم كل مصل، وإذا حمل على الأول لا يعم لأنه يصير محمولًا على التطوع دون الفرض، وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر، وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه فهو أولى من التخصيص، وأقصى ما في الباب أن يقال: إن على هذا التأويل لابد أيضًا من ضرب تقييد وهو أن يقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} من الجهات المأمور بها: {فَثَمَّ وَجْهُ الله} إلا أن هذا الإضمار لابد منه على كل حال، لأنه من المحال أن يقول تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} بحسب ميل أنفسكم {فَثَمَّ وَجْهُ الله} بل لابد من الإضمار الذي ذكرناه، وإذا كان كذلك فقد زالت طريقة التخيير ونظيره: إذا أقبل أحدنا على ولده وقد أمره بأمور كثيرة مترتبة فقال له: كيف تصرفت فقد اتبعت رضائي، فإنه يحمل ذلك على ما أمره على الوجه الذي أمره من تضييق أو تخيير، ولا يحمل ذلك على التخيير المطلق فكذا ههنا.
القول الثاني: وهو قول من زعم أن هذه الآية نزلت في أمر سوى الصلاة فلهم أيضًا وجوه: أولها: أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجدي أن يذكر فيها اسمي وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا، ثم أنهم أينما ولوا هاربين عني وعن سلطاني فإن سلطاني يلحقهم، وقدرتي تسبقهم وأنا عليم بهم، لا يخفى علي مكانهم وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر عن ارتكابها، وقوله تعالى: {إِنَّ الله واسع عَلِيمٌ} نظير قوله: {إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بسلطان} [الرحمن: 33] فعلى هذا يكون المراد منه سعة العلم، وهو نظير: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] وقوله: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيء رَّحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] وقوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيء عِلْمًا} [طه: 98] أي عم كل شيء بعلمه وتدبيره وإحاطته به وعلوه عليه.
وثانيها: قال قتادة: إن النبي عليه السلام قال: «إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه، قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم» فنزل قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خاشعين للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بئايات الله ثمنًا قليلًا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب} [آل عمران: 199] فقالوا: إنه كان يصلي إلى غير القبلة، فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} ومعناها أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب وما بينهما، كلها لي فمن وجه وجهه نحو شيء منها بأمر يريدني ويبتغي طاعتي وجدني هناك أي وجد ثوابي فكان في هذا عذر للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبالهم المشرق وهو نحو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} [البقرة: 143].
وثالثها: لما نزل قوله تعالى: {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قالوا: أين ندعوه فنزلت هذه الآية، وهو قول الحسن ومجاهد والضحاك.
ورابعها: أنه خطاب للمسلمين، أي لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه فلله المشرق والمغرب والجهات كلها، وهو قول علي بن عيسى.
وخامسها: من الناس من يزعم أنها نزلت في المجتهدين الوافين بشرائط الاجتهاد سواء كان في الصلاة أو في غيرها، والمراد منه أن المجتهد إذا رأى بشرائط الاجتهاد فهو مصيب. اهـ.