فصل: مطلب إبليس من الجن لا من الملائكة وانواع ذريته وما جاء فيهم من الأخبار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ونظير هذه الآية في المعنى الآية 34 من سورة يونس المارة.
قال تعالى: {الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا} يتفاخر بها أهلها {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ} زينة الحياة الآخرة وهذه {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا} من زينة الدنيا {وَخَيْرٌ أَمَلًا} ممّا يؤمله الإنسان من جميع خيرات الدنيا لعظيم جزائها عند اللّه، وهو نائلكم حقا، لأن وعد اللّه بها صادق، وأكثر آمال الدنيا كاذبة قد لا ينالها الإنسان، روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأن أقول سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس.
وأخرج مالك في الموطأ أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات، والحقيقة أنها كل عمل صالح.
قال تعالى: وَاذكر يا محمد لقومك {يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ} عن مواقعها هذه فتجعلها هباء منثورا، راجع الآية 107 من سورة طه والآية 4 من سورة الواقعة، وأمثالها كثير في القرآن {وَتَرَى الْأَرْضَ} بعد ذلك {بارِزَةً} ظاهرة للعيان لا بناء فيها يسترها ولا شجر يحجبها ولا جبل يغطيها ولا خلق عليها ولا فيها، راجع الآية 4 من سورة الإنشقاق والآية 2 من سورة الزلزلة ولا أنهار ولا بحار، وذلك عند النفخة الأولى {وَحَشَرْناهُمْ} الموتى المدفونين فيها أحياء بعد ذلك وسقناهم إلى الموقف فأحضرناهم فيه بعد النفخة الثانية {فَلَمْ نُغادِرْ} نترك في بطن الأرض والماء والحيوان والحوت والهواء {مِنْهُمْ أَحَدًا} 47 إلا أحضرناه في أرض المحشرَ {عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا} للحساب والجزاء كما يستعرض القائد العام جنوده لا يخفى عليه منهم أحد، أما القائد فقد يخفى عليه آحاد وشتان بين الخالق والمخلوق فيقول لهم اللّه عزّ وجل «وعزتي وجلاليَ قَدْ جِئْتُمُونا أيها الخلقَ ما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ في الدنيا وحدانا لا مال ولا ولد ولا نشب ولا رياش عندكمَ لْقد زَعَمْتُمْ في الدنياَل أّلَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا».
48 في الآخرة نلاقيكم فيه ونقاضيكم على أعمالكم من صدق وإيمان وكفر وخسران.
ونظير هذه الآية الآية 94 من سورة الأنعام المارة.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى اللّه حفاة عراة غرلا قلفا- لأن الغرلة القطعة التي تقطع من جلدة الذكر وهي موضع الختان- كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين، ألا وان أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا رب أصحابي، فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح- يريد عيسى عليه السلام-: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم} إلى قوله: {العزيز الحكيم}، قال فيقال لي إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، زاد في رواية فأقول سحقا سحقا».
قال بعض العلماء المراد بهم- واللّه أعلم- هم الذين ارتدوا بعده ومنعوا الزكاة من العرب، ولكن الحديث عام فيشمل هؤلاء وغيرهم من أمثالهم، وان من خصّه فيهم استنبط اختصاصه من قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «أصحابي» إذ لا يسمى صاحبا إلا من شاهد حضرة الرسول أو شاهده الرسول ليدخل الأعمى ومات على ذلك {وَوُضِعَ الْكِتابُ} أل فيه للجنس إذا أريد به أهل اليمين وأهل الشمال، وظاهر ما بعده تخصيصه بأهل الشمال فقط، فتكون أل فيه للعهد أي الكتاب المعهود الذي فيه صحف أعمالهم، قال صاحب الجوهرة في منظومته:
وواجب أخذ العباد الصحفا ** كما من القرآن نصا عرفا

وقال بدء الأمالي:
وتعطى الكتب بعضا نحو يمنى ** وبعضا نحو ظهر أو شمال

والحكم الشرعي: وجوب اعتقاد هذا، ومن أنكره فهو كافر لإنكاره كلام اللّه دون تأويل أو تفسير، قدمنا ما يتعلق بهذا في الآيتين 36: 37 من سورة الإسراء المارة، وله صلة في الآية 9 فما بعدها من سورة المطففين الآتية، {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} خائفين من سوء أعمالهم {وَيَقُولُونَ} عند مشاهدته {يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ} استفهام تعجب من كونه {لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} من أعمال بني آدم وغيرهم {إِلَّا أَحْصاها} أثبتها ودونها فيه {وَوَجَدُوا} فيه كل {ما عَمِلُوا} في دنياهم {حاضِرًا} بحيث يخيل إليهم فعلهم وقولهم كما أوقعوه في الدنيا بتخييل حقيقي وتمثيل واقعي بحيث ينطق كل بما وقع منه، بخلاف تمثيل أهل الدنيا سينما فإنه صوري وما يسمعونه من الكلام ليس من كلام الأشباح المخيلة نفسها بل من الشريط المعروض كالأسطوانات التي تمر عليها الإبرة، ونظير هذه الآية الآية 21 من آل عمران، فيسمعون كلامهم أنفسهم وكلام من تكلموا معه ويسمعون نطق جوارحهم بما عملت وبأي مكان وزمان يرونه أيضا ويرون جزاءه مهيأ بنسبته {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} 49 بحيث لا ينقص ثوابا ولا يزيد عقابا ولا يعذب أحدا بغير جرم، ولا يثيب أحدا بغير عمل صالح، وهذا لا على سبيل الوجوب إذ له جل جلاله إثابة العاصي وعقاب الطائع إذ لا يسأل عما يفعل وإنما يعامل العاصي بمقتضى العدل والطائع بحسب الفضل، فمن أين لكم أيها الناس بعد هذا تنكرون إعادة خلقكم وتكذبون رسلكم، وقد ضرب لكم الأمثال الحقيقية عليه وقص عليكم رسله نتيجة ما تؤولون إليه.

.مطلب إبليس من الجن لا من الملائكة وانواع ذريته وما جاء فيهم من الأخبار:

قال تعالى: وَاذكر يا محمد لقومك بعد قصة أهل الكهف وأصحاب الجنة وحال البعث ومنكريه {إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} وهذا السجود للتحية والتكريم لا للعبادة، لأن سجودها خاص بالمعبود العظيم وحده، وكان اسمه عليه اللعنة بالسريانية عزازيل، وبالعربية الحارث، فلمّا عصى سمي إبليس لأنه أبلس وأيس من رحمة اللّه وغيرت صورته إلى السمرة والزرقة بعد البياض والصفرة والحمرة.
وهذا الخبيث الذي لم يتمثل أمر ربه {كانَ مِنَ الْجِنِّ} وهذا كلام مستأنف كأنه قيل لم لم يسجد مع الملائكة، فقيل لأن أصله من الجن لا من الملائكة إذ لو كان منهم لما تخلف عن أمر ربه لأنهم لا يعصون اللّه فيما يأمرهم طرفة عين ولا يغفلون عن ذكره، فثبت أنه من الجن بنص هذه الآية التي لا تقبل التأويل.
واعلم أن قبيلة إبليس انقرضت ولم يبق منها غيره فهو أصل الجن والشياطين، كما أن آدم أصل البشر، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال: قاتل اللّه أقواما زعموا أن إبليس من الملائكة واللّه تعالى يقول كان من الجن.
وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ في العظمة أنه قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وأنه الأصل الجن كما أن آدم أصل البشر فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس من غير تشبيه، لأن نوحا أبو البشر الثاني بسبب إهلاك من قبله من ذرية آدم، وإبليس أبو الجن الثاني بسبب انقراض الجن قبله من ذرية أبيهم الجان.
ومن هذا يعلم أن ما قيل إنه من الملائكة لا يستند إلى دليل صحيح، وهو قيل مخالف لصراحة القرآن، وإن من قال أنه منهم عده من أقربهم إلى اللّه، وهذا يقدح في عصمة الملائكة الذين لا خلاف في عصمتهم، راجع الآية 158 من الصافات المارة وما ترشدك إليه فقيه ما تريده، ولهذا فإن الاستثناء في هذه الآية منقطع على حد قوله تعالى: {إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} الآية 58 من الزخرف المارة على العكس في المعنى أي في المستثنى والمستثنى منه، ومثله في قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا إِلَّا سَلامًا} الآية 63 من سورة مريم، لأن المستثنى فيها ليس من جنس المستثنى منه.
أما إطلاق لفظ الجن على الملائكة في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} الآية 158 من سورة الصافات المارة على قول من قال إن المراد بالجنة فيها الملائكة، لأن العرب تقول إن الملائكة بنات اللّه، لأنه مأخوذ من الاجتنان وهو الستر، ومنه سمي الجنين لاستتاره في بطن أمه، فتدخل الملائكة في هذا اللفظ من هذه الحيثية فقط، وعليه يجوز إطلاق لفظ الجن على كل الملائكة على هذا المعنى، وإلا فالجنّ جنس والملك جنس آخر مخالف، وقد أثبت اللّه في قوله الآتي أنه له ذرية بنص لا يقبل التأويل ولا يحتمله، وأنت خبير بأن الملائكة لا يتوالدون فلا ذرية لهم، وأنهم خلقوا من نور اللّه، والجن من ناره بنص القرآن، فلا مشابهة بينهم في أصل الخلقة، تدبر {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} بعدم الامتثال تكبرا لزعمه أنه أفضل منه، راجع هذا البحث في الآية 12 من سورة الأعراف، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} يا بني آدم {أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي} بعد أن خالف أمري وطرد من رحمتي {وَهُمْ} إبليس وذريته {لَكُمْ عَدُوٌّ} أيها الناس ثابت العداوة مع أبيكم آدم بالنص القطعي، فإذا كنتم إليه ولذريته ظلمتم أنفسكم بدل أن ترحموها، واللّه تعالى يقول: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ} المتخذين أعداءهم أولياء {بَدَلًا} 50 من اللّه تعالى، قيل إن إبليس يوسوس للعبد بترك الصلاة ويوسوس له فيها أيضا ليقطعها عليه، وله من نوع الذرية خمس:
(1) الأعر يحبب للناس الزنى (2) ووتير يجزّعهم على المصائب (3) ومسوط يلقي في قلوبهم الأراجيف (4) وداسم يأكل ويشرب مع من لم يسم اللّه تعالى (5) وذو بنور الذي يرغب الناس للدخول في الأسواق.
وقد أخرج ما بمعناه ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن مجاهد، وروى مسلم عن عثمان ابن أبي العاص قال: قلت يا رسول اللّه إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها عليّ، قال فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «ذلك شيطان يقال له جثرب فإذا أحسسته فتعوذ باللّه منه واتفل على يسارك ثلاثا»، قال ففعلت ذلك فأذهبه اللّه عني.
وروى مسلم عن جابر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا، ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت». قال الأعمش أراه قال فيلتزمه أي يضمه إلى صدره تحيذا لفعله، عليه وعلى ذريته الكافرة اللعنة والغضب.
وروى ابن زيد أن اللّه تعالى قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها، فليس يولد لآدم ولدا إلا ولد معه شيطان يقرن به، ولا علينا أن نعلم كيفية توالده، لأن كثيرا من الأشياء لم يطلع اللّه عليها خلقه، والقصد وجوب الاعتقاد بحصول الذرية له، سواء أكان ذلك كالبشر أم كالحيوان أو كالطير أو الحوت أو الحشرات وغيرها.
قال تعالى: {ما أَشْهَدْتُهُمْ} أي إبليس وجنوده وذريتهم {خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} أي ما أطلعتهم على ذلك، لأني خلقتها قبل خلقهم، فافردوني أيها الناس بالعبادة كما انفردت بالخلق، وإياكم أن تشركوا في ذلك غيري فتظلموا أنفسكم {وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} 51 أعوانا أستعين بهم على خلقهما أو خلق شيء مما فيهما وعليهما فكيف تتخذونهم أولياء من دوني أيها الكفرة {وَ} اذكر يا محمد لقومك حالة أولئك المتخذين شريكا معي {يَوْمَ يَقُولُ} لهم يوم القيامة {نادُوا شُرَكائِيَ} الذين عبدتموهم في الدنيا {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم شركائي وأنهم يشفعون لكم في الآخرة هذه {فَدَعَوْهُمْ} واستغاثوا بهم هلم انقذونا مما نحن فيه واشفعوا لنا كما وعدتمونا في الدنيا {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} لأنهم إن كانوا من الملائكة أو عزيز وعيسى وعلي عليهم السلام أو غيرهم من البشر فإنهم يتبرءون منهم ويستعيذون باللّه من عبادتهم ويتضرعون إلى اللّه بالعفو عنهم من هذه النسبة الباطلة، وإن كانوا من الأصنام فهي حجارة أو خشب أو غيرها من الجماد الذي لا يسمع ولا يتكلم، ثم يحال بينهم وبين ما يعبدون لقوله تعالى: {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ} وبين أوثانهم {مَوْبِقًا} 52 مهلكا، قال ابن عباس هو واد في النار يجتمعون فيه في جهنم {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا} أيقنوا وتحققوا {أَنَّهُمْ مُواقِعُوها} مدفعون إليها وداخلون فيها وذلك بعد أن أراهم عجز أوثانهم وتبرأ الأولين وإهلاك الآخرين في الموقف بعد الحساب والقضاء {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفًا} 53 لأنهم بعد أن أوقعوا فيها أحاطت بهم من كل جانب فلا محيص لهم غير الاحتراق فيها.
قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} ليتعظوا فلم ينجع بهم {وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} في الباطل، وقيل إن هذه الآية نزلت في النّضر بن الحارث، وقيل في أبي بن خلف، لأنهما أكثر الكفرة جدالا في القرآن، والآية عامة فيهما وفي غيرهما ممن عمل ويعمل عملهما إلى يوم القيامة، وفي كل من يجادل في آيات اللّه بالباطل.
روى البخاري ومسلم عن علي كرم اللّه وجهه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلا، فقال ألا تصليان؟ فقلت يا رسول اللّه أنفسنا بيد اللّه، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا أي لما تريده منا فانصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا، ثم سمعته يقول وهو مول يضرب فخذه بيده {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}.
وهذا الحديث لا يعني أن الآية نزلت في ذلك، وإنما ذكرها حضرة الرسول بمناسبة ما قاله علي تعجبا من سرعة جوابه وعدم موافقته له على القيام إلى الصلاة، وفيه إيماء إلى عدم قبول قوله، ولهذا ضرب فخذه.
قال تعالى: {وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} مما هم عليه {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} هلاك الاستئصال {أَوْ} انتظار لأن {يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا} 55 عيانا مقابلا لهم يشاهدونه بأعينهم، وهو جمع قبيل، وإذ ذاك لم يقبل منهم الإيمان، لأن الحالة حالة يأس وبأس، راجع الآية 158 من سورة الأنعام المارة، أي أنهم لا يؤمنون بأحد هذين الشيئين، وذلك ليس من شأن العاقل، إذ عليه أن يؤمن بمجرد وضوح الدلائل على الإيمان، وقرئ: {قبلا} بضم القاف والباء، وبكسر القاف وفتح الباء، والمعنى ضروب من أنواع العذاب وبفتحتين مستقبلا، وهو ما يجوز فيه ثلاث لغات كالعمر والقصر والدهر والولد والرغم والشط والسقط والفتك والشرب والفم والضر والزعم والوجد والقلب والضب والطب والقطب والحرض.
قال تعالى: {وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} الأمم بعقاب العاصي وثواب الطائع {وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أنبياءهم {بِالْباطِلِ} مثل قولهم {ما أنتم إلا بشر مثلنا} وقولهم {لو نشاء لقلنا مثل هذا} {ولو شاء اللّه لأنزل ملائكة}.
{ولولا أنزل هذا القرآن على رجل} الآية، وأشباه هذه الآيات كقولهم ساحر وكاهن وشاعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين واختلاق وافتراء إلى غير ذلك {لِيُدْحِضُوا} يزيلوا ويبطلوا ويمحقوا {بِهِ} بجدالهم هذا {الْحَقَّ} الذي جاءهم من عندنا على أيدي رسلهم {وَاتَّخَذُوا} أولئك الكفرة {آياتِي} التي أنزلتها إليهم بواسطة رسلى {وَما أُنْذِرُوا} به منها وما فيها من التهديد والوعيد والتقريع والتوبيخ والتبكيت {هُزُوًا} 56 سخرية بضم الزاي وإسكانها {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ} يريد القرآن خاصة بدليل تذكير الضمير فيما يأتي {فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ} من الكفر والعصيان، أي لا أظلم من هذا أبدا {إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ} أي الذين ذكروا فأعرضوا {أَكِنَّةً} أغطية كثيفة {أَنْ يَفْقَهُوهُ} لئلا يعوه ويفهموه {وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا} لئلا يسمعوه ويعقلوه {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى} الذي تريده لهم يا سيد الرسل {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} 57 لسابق سقائهم وإحقاق الكلمة عليهم، لأن هذه الآية خاصة في أقوام منهم علم اللّه تعالى أنهم لا يؤمنون أبدا {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ} على كفرهم، ولكن من مقتضى رحمته تأخيره، ولذلك جاء الإضراب بعده بقوله: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ} لتعذيبهم في الدنيا كما لهم موعد لعذابهم في الآخرة لا خلف فيه {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} 58 منجى وملجأ قال الأعشى:
وقد أخالس رب الدار غفلته ** وقد يحاذر مني ثم مائيل

ينجو.
قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} أعاد الضمير لأهلها، والمراد بهم هنا الذين يعلمونهم أكثر أهل مكة وهم قوم نوح فما بعده، لأن القرى لا تهلك إلا بهلاك أهلها، وإلا فما داموا فيها فهي عامرة بهم، وكان سبب إهلاكهم الظلم {وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} 59 أجلا فاجأناهم به، والمراد به هلاك الاستئصال عقابا لهم على ظلمهم لأن غيره يحصل لكل الأمم، أي وكذلك قومك يا محمد إن لم يؤمنوا فيحل بهم ما حل بهم.