فصل: مطلب من هو ذو القرنين وسيرته وأعماله والآيات المدنيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن الذي وقع مني كله بأمر اللّه {وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ولا باختياري ورأبي {ذلِكَ} الذي ذكرته لك {تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} 82 واعترضت به علي، هذا وفي قول الخضر عليه السلام عند ذكر العيب {أردت} أضافه إلى نفسه على سبيل الأدب مع ربه، وفي الحقيقة إن ذلك من اللّه لأنه بأمره فعل ما فعل كما قضاه في الأزل عز وجل، وفي ذكر القتل قال: {أردنا} بلفظ الجمع تنبيه على أنه من العارفين بعلمه تعالى، العاملين بأمره فيما يؤول إليه الأمر، وأنه لم يقدم على فعل القتل إلا لحكمة عالية بإلهام من ربه، ولذلك أذعن والداه كما مر آنفا، وقال ثالثا {فَأَرادَ رَبُّكَ} لأن حفظ الأنبياء وصلاح أحوالهم لرعاية حق الآباء ليس إلا للّه وحده، ولذلك أضافه إليه.
هذا، وقد استدل بعض العلماء بقوله تعالى: {ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} إلخ على أن الخضر نبي لأن النبي من لم يفعل بأمره بل بالوحي، والوحي من شأن الأنبياء، وأول هذا المستدل قوله تعالى: {آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا} بأنها النبوة لأن لفظ الرحمة أطلقت في مواضع كثيرة على الرحمة والنبوة والرسالة في القرآن العظيم، وقد أخرج هذا القول ابن ابي حاتم عن ابن عباس، ولذلك مشى عليه جمهور من العلماء على أنه نبي لا رسول، وقال القشيري وجماعة أنه ولي وهو الصحيح، وأجابوا عن قوله تعالى: {ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} بأنه إلهام من اللّه والأولياء ملهمون والإلهام من درجات الأنبياء لأنهم أول ما يرون الرؤيا الصالحة الصادقة، ثم الإلهام، ثم الوحي بواسطة الملك، وعن قوله: {آتيناه رحمة} إلخ أنه علم الباطن، وعلى هذا أكثر العارفين وأهل العلم.
وكما اختلفوا في نبوته وولايته اختلفوا في حياته ومماته فقال أكثر العلماء أنه حي واتفقت الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة على حياته وذكروا عنه حكايات كثيرة وأجمعوا على رؤيته والاجتماع به ووجوده في المواقع الشريفة كما ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته المكية وأبو طالب المكي في كتبه والحكيم الترمذي في نوادره وغيرهم من المحققين الذين لا يتصور اجتماعهم على الكذب لاسيما وفيهم الإمام النووي.
وقال الشيخ عمر بن الصلاح في فتاواه: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين، وقالوا إنه يجتمع بالناس كل سنة بالموسم وأنه شرب من عين الحياة وإذ ثبت وجوده بنص القرآن وإجماع المفسرين على أنه هذا العبد الذي أرشد اللّه رسوله موسى إليه هو الخضر، وقد اكتسب هذا القول درجة التواتر في أقوال الكثيرين فلا يكون عدمه إلا بدليل على موته، ولا نص فيه في كتاب أو سنة أو إجماع أو نقل عن بعض الثقات، وقد وردت أحاديث كثيرة في حياته ضربنا عنها صفحا لعدم وجود ما يقابلها في مماته من صحة السند وثقة الرواة المشهورين من الرجال.
هذا وقد احتج من قال بوفاته دون أن يعين زمانا أو مكانا أو معاصرا له من ملك أو مملوك أو حادثة أو واقعة ما، بأن البخاري سئل عنه وعن الياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فقال كيف يكون هذا، وقد قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم قبل وفاته بقليل لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد.
وما جاء في صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قبل موته: ما من نفس منفوسة يأتي عليها مئة سنة وهي يومئذ حية.
وما قاله بعض الأئمة عند سؤاله عنه أنه قرأ: {وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ} الآية 31 من الأنبياء الآتية، ولا يخفى على ذي الرّوية أن هذه الأحاديث والآية في معرض العام، وما من عام إلا وخصص وما يدرينا لعل اللّه خصه من ذلك، على أن الآية قد يدخل فيها الخضر لأنه لابد سيموت، وما قاله ابن تيمية لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي إلى الرسول ويجاهد بين يديه، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم يوم بدر: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، وكانوا ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلا، معروفين بأسمائهم وأنسابهم، ولم يكن الخضر معهم، لهذا أصح وأقوى ما جاء في هذا الباب على أنه يجوز أن يكون مخصوصا من عموم ما جاء في ذلك كله كما ذكرنا آنفا، إذ لا عامّ إلا وخصص ولا مطلق إلا وقيد، أو أنه كان يعبد اللّه تعالى على الماء أو في الهواء لا على الأرض فلا يشتمله قوله صلّى اللّه عليه وسلم لا تعبد على الأرض، ولا يبعد أنه جاء إلى الرسول وبايعه وجاهد معه إلا أنه لم يره أحد كالملائكة، ولم يخبر الرسول عنه لأمر ما وكم من مؤمن في زمانه صلّى اللّه عليه وسلم موجودا ولم يتيسر له الوصول إليه والجهاد معه، وهذا أويس القرني من أخيار التابعين لم يتيسر له الوصول إليه والمرافقة له في الجهاد ولا التعليم، وكذا النجاشي رضي اللّه عنهما، أما الخبر القائل: لو كان الخضر حيا لرآني، فقد قال الحافظ إنه موضوع لا أصل له، ولا مانع من القول إنه كان يأتي الرسول ويتعلم منه خفية، لأنه غير مأمور بالظهور لحكمة إلهية، على أن كثيرا من الأصحاب والتابعين رأوه وصافحوه حتى في الجهاد منهم عبد اللّه بن المبارك الشائع الصيت دفين هيت رضي اللّه عنه الذي لا يشك أحد في صدقه.
قال تعالى مبينا القسم الثاني مما سألوه عنه {وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} اعلم أن ما قالوه بأن اسمه مزربان ابن مرزية بن قيلقوس بن يافث بننوح عليه السلام، وما قالوا بأنه الإسكندر المشهور غير صحيح، وان اللّه تعالى لم يسمه الإسكندر وإنما سماه ذا القرنين الذي ملك الدنيا إذ قالوا ملكها مؤمنان هذا وسليمان، وكافران نمروذ وبختنصر واختلف في نبوته ونبوة لقمان وعزيز على أقوال لم يترجح أحدها على الآخر عند الأكثر خوفا من إدخال من لم يكن نبيا مع الأنبياء أو إخراج من كان نبيا منهم وهو أمر عظيم لم يقدم عليه الكاملون العارفون، على أنه رجح صاحب بدء الأمالي عدم نبوتهم بقوله:
وذو القرنين لم يعرف نبا ** كذا لقمان فاحذر عن جدال

راجع الآية 20 من سورة لقمان لماره، وللبحث صلة في الآية 260 من سورة البقرة نوضحه فيها إن شاء اللّه، هذا ومن قال بنبوة ذى القرنين استدل بقوله تعالى: {قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ} الآية الآتية بأن خطاب اللّه تعالى لا يكون إلا مع الأنبياء، وهو غير وجيه، لأن اللّه تعالى خاطب مريم في آل عمران، راجع الآية 17 منها وليست نبية بالاتفاق، راجع الآية 57 من سورة مريم، وقال في بدء الأمالي:
ولم تكن نبيا قط أنثى ولا ** عبد وشخص ذو افتعال

ومن قال إنه ملك احتج بقول عمر رضي اللّه عنه حين سمع رجلا يقول لآخر يا ذا القرنين، فقال تسميتم بأسماء الأنبياء فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة، لأن الرسول قال: خير الأسماء ما عبد وحمد، وان الرسول كان ينهى عن التسمية ببعض الأسماء مثل فلاح ونافع وشبههما، فساغ لعمر أن ينهى عن ذلك، وهذا لا حجة فيه، لاحتمال علم سيدنا عمر بأن أحد الملائكة اسمه ذو القرنين، فنهى عن ذلك، ولو فرض أن اسمه وافق أسماء الملائكة فلا يفرض أنه ملك، والقصد من قول عمر على فرض صحته عدم رغبته بأن يسمى الناس بغير ما حبذه حضرة الرسول.

.مطلب من هو ذو القرنين وسيرته وأعماله والآيات المدنيات:

وأصح الأقوال أنه عبد صالح ملكه اللّه تعالى أرضه والبسه الهيبة وأعطاه العلم والحكمة والشجاعة، وسبب تسميته بذلك طوافه قرني الدنيا شرقها وغربها، وكما اختلف في تسميته ونبوته اختلف في نسبه، فمنهم من قال إنه من حمير ومنهم من قال إنه من الفرس ومنهم من قال إنه من الروم، وأصح الأقوال في نسبه واسمه ومن هو على الحقيقة ما سيأتي في الآية 99 الآتية، فراجعها، وقد ذكرنا في المقدمة أن كل قول يصدر بلفظ قالوا دليل على ضعفه وعدم تحققه.
قال تعالى: {قُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين {سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ} من حاله وقصته {ذِكْرًا} 83 من أنبائه صحيحا لوروده في الذكر الحكيم القرآن الذي لا أصح منه، ولا يوجد في الكتب القديمة ما هو مفصل مثله لكونه منزلا من اللّه بلفظه ومعناه.
قال تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} وثبتناه فيها وقدرناه على أهلها ومهدنا له سبلها {وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ} يحتاجه لإصلاح الدنيا {سَبَبًا} 84 بإرشادنا إليه وهدايتنا لأتباعه {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} 85 أي سلك طريقا {حَتَّى إِذا بَلَغَ} منتهى الغمار مما يلي {مَغْرِبَ الشَّمْسِ} بحيث لا يمكن لأحد إذ ذاك مجاوزة الحد الذي وصل إليه {وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ذات طين أسود، أي في مطمح نظره رآها كأنها تغرب في هوة مظلمة كما أن راكب البحر يرى أن الشمس تغيب فيه وتطلع منه، إذ لم ير الساحل وهي في الحقيقة تغيب وراءه وتطلع أمامه، لأن الشمس أكبر من الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف مرة وهي في الفلك الرابع فكيف يمكن دخولها في عين من عيون الأرض، على أن اللّه تعالى قادر على أكثر من ذلك، وليس عليه بكثير أن يدخل الجسم الكبير في الأصغر ولا يبعد أن يطوي الأرض لعباده حتى يقطعوا منها ما لا تقطعه الطائرات ولا غيرها، وان اللّه تعالى لم يخبر أحدا عن حقيقة غروبها في تلك العين، وإنما أخبر عن وجدان ذى القرنين غروبها فيها، لأنه ركب البحر متجها إلى الغرب إلى أن بلغ موضعا لم يتمكن معه من السير فيه، فنظر إلى الشمس عند غروبها فوجدها بنظره كذلك {وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْمًا} 86 أي عند تلك العين في الموضع الذي وقف به سيره {قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} من لم يسلم منهم {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} 87 بأن نأسرهم ونعلمهم الإيمان تدريجيا {قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} بقي على ظلمه ولم يتب من كفره بل بقي مصرا {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} بالقتل الآن {ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ} في الآخرة {فَيُعَذِّبُهُ عَذابًا نُكْرًا} 88 فظيعا متجاوزا الحد {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى} الجنة في الآخرة والعفو عما اقترفه في الدنيا {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْرًا} 89 فنعامله باللين والعطف.
قال تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} سلك طريقا آخر {حَتَّى إِذا بَلَغَ} منتهى العمار مما يلي {مَطْلِعَ الشَّمْسِ} أي منتهى الأرض المعمورة في زمنه التي تطلع عليها الشمس قبل غيرها من جهتها إذ لا يمكن أن يبلغ موضع الطلوع لنفسه {وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْرًا} 90 بحيث لا يوجد جبل ولا شجر يظللهم منها، وان الأرض هناك رخوة جدا لا تحمل البناء، وإنما فيها أسراب يدخلونها عند طلوعها تظلهم منها، حتى إذا زالت وبعدت عنهم خرجوا لمعاشهم الذي هيأه اللّه لهم هنالك {كَذلِكَ} حكم فيهم كما حكم بالذين وجدهم عند غروبها، ولم نتكلم على هؤلاء وأولئك، كما قيل إن الأولين من قوم صالح، والآخرين من قوم هود، إذ لا دليل يعتمد عليه ولا نقل يوثق به، قال الأصوليون إذا كنت مدعيا فالدليل، وإذا كنت ناقلا فصحة النقل.
ولا يوجد دليل قاطع ولا نقل صحيح في ذلك ولذلك نكل علمهم إلى اللّه القائل {وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْرًا} 91 به وبما وعده وبمن معه وعدته وآلاته وعدد جنده وبما عمل في ذلك وما فعل وقصد ونوى وحدثته به نفسه أو خطر بباله.
هذا ولم يقص اللّه تعالى علينا ما وقع بينه وبين أهل المغرب والمشرق غير تلك المكالمة.
قال تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} سلك طريقا آخر أيضا {حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} هما جبلان في ناحية الشمال مرتفعان، قالوا إن الواثق باللّه العباسي بعث من يثق به لمعاينتهما فخرجوا من باب الأبواب وشاهدوه وأخبروه بأنهم رأوه بناء من لبن حديد مشدود بالنحاس، إلا أنه حتى الآن لم يطلع عليه أحد، كمدينة إرم التي لم يطلع عليها إلا رجل واحد كما قيل، راجع الآية 8 من سورة الفجر، ولابد أن يحين الوقت للعثور عليهما لاسيما وأن يأجوج ومأجوج من وراء السد، وخروجهما من أمارات الساعة، وهم المعنيون بقوله تعالى: {وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْمًا لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} 93 إلا بجهد شديد، لذلك فهم منهم مرادهم بمشقة وبالإشارة وهو ما قصه اللّه تعالى بقوله: {قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} يقرآن بالهمزة وبغيره، ولم يأت ذكرهما في القرآن إلا هنا وفي سورة الأنبياء في الآية 66 الآتية {مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} التي هم فيها، إذ يأكلون عشبهم ويحملون كلاهم ويتعدون عليهم {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} جعلا وأجرة من أموالنا {عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} 94 يمنعهم من الوصول إلينا لنأمن تجاوزهم على حدودنا، لأن لهم ما بين الجبلين، فلما رأى صحة قولهم {قالَ} لا أريد منكم شيئا وإني لم آخذ على إحقاق الحق أجرا، وإن {ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي} من القوة والغلبة والمال {خَيْرٌ} مما تعطونه لي، وإن من واجبي أن أصونكم وغيركم من التعدي، لاسيما وقد دخلتم في حوزتي، لذلك لا أكلفكم بمال ما ولكن إذا أردتم الاستعجال فيه {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} من أبدانكم وأشخاصكم {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}.
99 جدارا منيعا مرتفعا حصينا يحول دون وصولهم إليكم، قالوا فما هذه القوة التي تريدها منّا والتي تعنيها بقولك من أبداننا؟ قالَ لهم {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} قطعه وعملة وبنائين وحطبا لأريكم ماذا أفعل، فأحضروا له ما شاء، قالوا وقد حفر الأساس ما بين الجبلين حتى بلغ الماء وجعل فيه الصخر وبناه بلبن الحديد، وجعل بينه الفحم والحطب، وكان بطول فرسخ وعرض خمسين ذراعا وبعلو ذروة الجبلين.
قال تعالى: {حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} جانبي الجبلين لأنهما متصادفان، أي متقابلان ومتقاربان في العلو، أعطى الحطب النار و{قالَ انْفُخُوا} عليه بالمنافيخ ففعلوا وسبت النار والفحم تدريجا ولم يزالوا كذلك {حَتَّى إِذا جَعَلَهُ} أي البناء {نارًا} بأن صار كله نار {قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} 96 نحاسا مذابا فأتوه به فأفرغه على البناء فتداخل فيه حتى صار كأنه قطعة واحدة، قال تعالى: {فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} يعلموا عليه ولا يتسوروه لارتفاعه وملاسته {وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبًا} 97 لصلابته وسمكه، وكان الجبلان مما يليهم قائمين بصورة مستقيمة كانهما مشقوقان بمنشار لا يتمكنون من الصعود إلى قمتهما، قال ذو القرنين لأولئك القوم الذين هم أمام السد بعد أن طرد أولئك المشكو منهم إلى ما وراءه وعمر عليهم ذلك البناء العظيم {قالَ هذا} السد المنيع الذي سويته لكم {رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} بكم تفيكم شر أعدائكم الآن {فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي} بخروجهم بعد {جَعَلَهُ} أي هذا البناء العظيم {دَكَّاءَ} أرضا مستوبة لكم منخفضة من الأرض كأنه لم يكن لأن اللّه لا يعجزه شيء {وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} 98 واقعا لا مرية فيه {وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ} يوم تم إنشاء السدّ {يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} فيبقون كذلك إلى اليوم الذي يأذن فيه اللّه بخروجهم فيندك إذ ذاك وينفلتون، فتراهم يسعون في الأرض فسادا ويعبثون في البلاد والعباد، ولا يزالون كذلك إلى أن يحين الوقت المقدر لتدميرهم فيهلكوا {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} بعد ذلك، لأن خروجهم من علامات الساعة الكبرى، فيموت كل الخلق الموجودين على وجه الأرض وفي البحار وغيرها، وتبقى الحال على هذه مدة أربعين سنة، أو إلى ما شاء اللّه، ثم ينفخ النفخة الثانية فيحيون كلهم الأولون والآخرون ويساقون إلى المحشر المعني بقوله تعالى: {فَجَمَعْناهُمْ جَمْعًا} 99 للحساب والجزاء.