فصل: قال الشريف الرضي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشريف الرضي:

ومن السورة التي يذكر فيها الكهف:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.[سورة الكهف: الآيات 1- 2].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)}.
قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ}[1] وهذه استعارة. لأن حقيقة العوج أن يكون فيما يصح عليه أن ينصاب أو يميل ويضطرب ويستقيم. وهذه من صفات الأجسام، لا من صفات الكلام.
فنقول: إنما وصف القرآن- واللّه أعلم- بأنه قيّم لا عوج فيه، ذهابا إلى نفى الاختلاف عن معانيه، والتناقض في أوضاعه ومبانيه. وأنه غير ناكب عن المنهاج، ولا مستمر على الاعوجاج.

.[سورة الكهف: آية 5].

{ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا (5)}.
وقوله سبحانه: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [5] ووصف الكلمة هاهنا بالكبر استعارة. والمراد أن معناها فظيع، وفحواها عظيم. وتقدير الكلام: كبرت الكلمة كلمة.
وللنصب هاهنا وجهان: أحدهما أن يكون على تفسير المضمر. مثل قولهم: نعم رجلا زيد، وبئس صاحبا عمرو. والوجه الآخر أن يكون على التمييز في الفعل المنقول، نحو:
ساءت مرتفقا، وتصبّب عرقا.

.[سورة الكهف: آية 8].

{وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدًا جُرُزًا (8)}.
وقوله سبحانه: {وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدًا جُرُزًا} [8] وهذه استعارة.
لأن المراد بالجرز هاهنا الأرض التي لا نبات فيها، وذلك مأخوذ من قولهم:
ناقة جروز. إذا كانت كثيرة الأكل، لا يكاد لحياها يسكنان من قضم الأعلاف.

.[سورة الكهف: آية 11].

{فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)}.
وقوله سبحانه: {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [11].
وهذه استعارة. لأن المراد بها منع آذانهم من استماع الأصوات، وهمس الحركات.
قال بعضهم: وذلك كالضرب على الكتاب لتشكل حروفه، فتمتنع على القارئ قراءته.
وإنما دلّ تعالى على عدم الإحساس بالضّرب على الآذان، دون الضرب على الأبصار، لأن ذلك أبلغ في الغرض المقصود، من حيث كانت الأبصار قد يضرب عليها من غير عمى، ولا يبطل إدراك بقية الحواس جملة، وذلك عند تغميض الإنسان عينه. وليس كذلك منع الاستماع من غير صمم، لأنه إذا ضرب عليها من غير صمم بالنوم الذي هو السهو على صفة دل ذلك على عدم الإحساس من كل جارحة يصح بها الإدراك. ولأن الأذن لما كانت طريقا إلى الأنباء ثم ضرب عليها، لم يكن سبيل إلى الانتباه، فبطل استماعهم. وفى هذا القول بعض التخليط.
والذي أذهب إليه في ذلك ما ذكرته في كتابى الكبير على شرح واستقصاء، وهو أن يكون المراد بقوله تعالى: {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ} واللّه أعلم، أي أخذنا أسماعهم.
ويكون ذلك من قول القائل: قد ضرب فلان على مالى. أي أخذه وحال بينى وبينه، فأما تشبيه ذلك بالضرب على الكتاب حتى تشكل حروفه على المتأمل ففيه بعد وتعسّف.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك: وضربناهم على آذانهم، من الضرب الحقيقي، تشبيها بمن ضرب على سماخه، فهو موقوذ مأموم، ومشدوه مغمور.

.[سورة الكهف: آية 14].

{وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهًا لَقَدْ قُلْنا إِذًا شَطَطًا (14)}.
وقوله سبحانه: {وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [14]. الآية. وهذه استعارة. لأن الربط هو الشدّ. يقال: ربطت الأسير. إذا شددته بالحبل والقدّوالمراد بذلك: شددنا على قلوبهم كما تشد الأوعية بالأوكية، فتنضمّ على مكنونها، ويؤمن التبدد على ما استودع فيها. أي فشددنا على قلوبهم لئلا تنحلّ معاقد صبرها وتهفو عزائم جلدها. ومن ذلك قول القائل لصاحبه:
ربط اللّه على قلبك بالصبر.

.[سورة الكهف: الآيات 16- 17].

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)}.
وقوله سبحانه: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [16]. وفى هذه الآية استعارتان: إحداهما قوله تعالى: {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} والرحمة هاهنا بمعنى النعمة. ولم يكن هناك مطوى فينشر، ولا مكنون فيظهر. وإنما المراد بذلك: يسبغ اللّه عليكم نعمته، على وجه الظهور والشياع، دون الإخفاء والإسرار. فيكون ذلك كنشر الثوب المطوى وإظهار الشيء الخفي، في شياع الأمر، وانتشار الذكر. والاستعارة الأخرى قوله تعالى: {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [16]. وأصل المرفق ما ارتفق به. وهو مأخوذ من المرفقة. وهى التي يرتفق عليها، أي يعتمد عليها بالمرفق.
ويقال مرفق، ومرفق بمعنى واحد. وقد قرئ بهما جميعا بمعنى واحد. فكأنه قال:
يهيئ لكم من أمركم ما تعتمدون عليه وتستندون إليه، ويكون لظهوركم عمادا، ولأعضادكم سنادا.
وقوله سبحانه: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [17]. وفى هذه الآية استعارتان: أولاهما قوله تعالى في ذكر الشمس: {تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ} لأن التزاور أصله الميل، وهو مأخوذ من الزّور، وهو الصدر. فكأنه سبحانه قال: إن الشمس تميل عن هذا الموضع، كما يميل المتزاور عن الشيء بصدره ووجهه. ويبين بذلك عن موضع الكهف المشار إليه من جهات المشرق والمغرب أن الشمس لا يلحقه ثوبها عند الشروق، ولا ينفض عليه... آخر الغروب.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى: {وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمال}. وفى ذلك قولان: أحدهما أن يكون المراد أنها تقرضهم في ذات الشمال، أي أنها تجوزهم عادلة بمطرح شعاعها عنهم. من قولهم: قرضت الشيء بالمقراض. إذا قطعته به. والمقراض متجاوز لأجزائه أولا حتى ينتهى إلى آخره. والقول الثاني: أن يكون المراد أنها تعطيهم القليل من شعاعها عند مرها بهم، ثم تسترجعه عند انصرافها عنهم. تشبيها بقرض المال الذي يعطيه المعطى ليستردّه، ويقدمه ليرتجعه. ومعنى قرض المال أيضا مأخوذ من القطع، لأن المقرض يعطى للمقترض شقة من ماله، وقطعة من حاله.

.[سورة الكهف: الآيات 21- 22].

{وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)}.
وقوله سبحانه: {وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [21].
وهذه استعارة. والمراد- واللّه أعلم- وكذلك أطلعنا عليهم. إلا أن في لفظ الإعثار فائدة، وهى مصادفة الشيء عن غير طلب له ولا إحساس به، وهو أفعلنا من الإعثار.
وأصله أن الساعي في طريقه إذا صدّ قدمه، أو نكب أصبعه شيء، ففى الأغلب أنه يقف عليه متأملا له، وناظرا إليه. فكأنه استفاد علم ذلك من غير أن تتقدم معرفته به. ومن ذلك قول القائل لغيره: لأعثرنّ عليك بخطيئة فأعاقبك. أي لأقفن على ذلك منك.
وعلى هذا قوله سبحانه: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا. أي اطّلع على ذلك منهما، واستفيد العلم به من باطن أمرهما.
وقوله سبحانه: {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [22].
وهذه استعارة لأن الرجم هاهنا هو القذف بالظن والقول بغير علم. ومن عادة العرب أن تسمى القائل بالظن راجما وقاذفا، وتسمى السّابّ الشاتم راميا راجما.
ويقولون: هذا الأمر غيب مرجّم. أي يرميه الناس بظنونهم، ويقدرونه بحسابهم.
ومرجّم إنما جاء لتكثير العمل، كأنه يرمى من هاهنا، ومن هاهنا. وإنما سمى الظان راجما لأنه يوجه الظن إلى غير جهة مطلوبة، بل يظن هذا، ويظن هذا، كالراجم الذي لا يعلم مواقع أحجاره إذا رمى بها في الجهات. فتارة تقع يمينا وتارة تقع شمالا.

.[سورة الكهف: الآيات 28- 29].

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقًا (29)}.
وقوله سبحانه: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [28] وهذه استعارة. على أحد التأويلات في هذه الآية. وهو أن يكون المراد بذلك: أننا تركنا قلبه غفلا من السّمات التي تتسم بها قلوب المؤمنين، فتدل على زكاء أعمالهم، وصلاح أحوالهم. كقوله سبحانه: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وذلك تشبيه بالبعير إذا أغفل فترك بلا سمة يعرف بها، على عادة العرب في إقامة السّمات مقام العلامات المميزة بين أموالهم في الموارد والمراعى وتعريف الضوالّ.
وفى هذه الآية أقوال أخر، القول الذي قدمناه أدخلها في باب الاستعارة. منها أن يكون معنى أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي نسبناه إلى الغفلة. كقول القائل أكفرت فلانا. إذا نسبته إلى الكفر، وأبخلته إذا نسبته إلى البخل.
ومنها أن يكون المراد: سميناه غافلا بتعرضه للغفلة، فكأن المعنى: حكمنا عليه بأنه غافل. كما يقول القائل: قد حكمت على فلان بأنه جاهل. أي لما ظهر الجهل منه وجب هذا القول فيه.
ومنها أن يكون ذلك من باب المصادفة. فيكون المعنى: صادفنا قلبه غافلا. كقول القائل أحمدت فلانا. أي وجدته محمودا. وذلك يؤول إلى معنى العلم. فكأنه تعالى قال: علمناه غافلا. وعلى هذا قول عمرو بن معديكرب لبنى سليم: للّه درّكم يا بنى سليم! واللّه لقد قاتلناكم فما أجبنّاكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم، وسألناكم فما أبخلناكم. أي لم نصادفكم على هذه الصفات، من الجبن عند النزال، والبخل عند السؤال، والعىّ عند المقال.
وعلى ذلك قول نافع بن خليفة الغنوىّ:
سألنا فأحمدنا ابن كلّ مرزّأ ** جواد وأبخلنا ابن كلّ بخيل

أي: وجدنا هذا محمودا، ووجدنا هذا بخيلا مذموما.
وفيما علقته عن قاضى القضاة أبى الحسين عبد الجبار بن أحمد- أدام اللّه توفيقه- عند قراءتى عليه كتابه الموسوم بتقريب الأصول في أخريات من الكلام في التعديل والتجوير، أنه لو لم يكن الأمر على ما قلناه في إغفال القلب من أن المراد بذلك مصادفته غافلا، وكان على ما قاله الخصوم من أنه تعالى صدف به عن أمره، وصرفه عن ذكره لوجب أن يقول سبحانه: فاتّبع هواه. لقول القائل: أعطيته فأخذ، وبسطته فانبسط، وأكرهته فأذل. أي كانت هذه الأفعال منه مسببة عن أفعالى به.
لأن هذا وجه الكلام في الأغلب الأعرف. فلما جاء بالواو صار كأنه قال: ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه. لأنه إذا وجد غافلا فهو الذي غفل، والفعل حينئذ له ومنسوب إليه.
وقوله سبحانه: {إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقًا} [29]. وفى هذه الآية استعارتان: أولاهما قوله تعالى: {أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها} والسرادق هو الفسطاط المحيط به. فوصفه- سبحانه- النار بالإحاطة والاشتمال فلا ينجو منها ناج، ولا يطلق منها عان. وذلك كقوله تعالى: {وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا}.
أي حبسا تحصرهم، وطولا تقصرهم، ومثل قوله سبحانه: {أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها} قوله: {إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} والمؤصدة: المغلقة المطبقة. من قولهم أوصدت الباب وأصّدته. إذا أغلقته وأطبقته. وقرئ: {عمد} و{عمد}.
والمراد بقوله سبحانه: {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} مثل المراد في قوله: {أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها} تشبيها بتمديد الأخبية والسرادقات بالأطناب، وإقامتها على الأعماد.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى: {وَساءَتْ مُرْتَفَقًا} والمرتفق: المتكأ، وهو ما يعتمد عليه بالمرفق، ومنه المرفقة وهى المخدّة. وذلك نظير قوله سبحانه: {وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ} فلما جاء سبحانه بذكر السرادق جاء بذكر المرافق، ليتشابه الكلام.