فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله} الآية، أهل هذه المقالة هم بعض اليهود في عزير، والنصارى في المسيح، وبعض العرب في الملائكة، والضمير في {به} يحتمل أن يعود على القول الذي يتضمنه {قالوا} المتقدم، وتكون جملة قوله: {ما لهم به من علم} في موضع الحال، أي قالوا جاهلين، ويحتمل أن يعود على الولد الذي ادعوه، فتكون الجملة صفة للولد، قاله المهدوي، وهو معترض لأنه لا يصفه إلا القائل، وهم ليس في قصدهم أن يصفوه، والصواب عندي أنه نفي مؤتنف أخبر الله تعالى بجهلهم في ذلك، فلا موضع للجملة من الإعراب، ويحتمل أن يعود على الله عز وجل، وهذا التأويل أذم لهم وأقضى بالجهل التام عليهم، وهو قول الطبري. وقوله: {ولا لآبائهم} يريد الذين أخذ هؤلاء هذه المقالة عنهم، وقرأ الجمهور: {كبرت كلمةً} بنصب الكلمة، كما تقول نعم رجلًا زيد، وفسر الكلمة ووصفها بالخروج من أفواههم، وقال بعضهم: نصبها على التفسير على حد نصب قوله تعالى: {وساءت مرتفقًا} [الكهف: 29] وقالت فرقة نصبها على الحال، والتقدير {كبرت} فريتهم أو نحو هذا {كلمة}، وسميت هذه الكلمات {كلمة} من حيث هي مقالة واحدة، كما يقولون للقصيدة كلمة، وهذه المقالة قائمة في النفس معنى واحدًا، فيحسن أن تسمى كلمة، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير {كبرت كلمةٌ} برفع الكلمة على أنها فاعلة ب {كبرت}، وقوله: {إن يقولون} أي ما يقولون. {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} هذه الآية تسلية للنبي عليه السلام، وقوله: {فلعلك} تقرير وتوفيق بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك، والباخع نفسه هو مهلكها وجدًا وحزنًا على أمر ما، ومنه قول الشاعر: الطويل:
ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه ** لشيء نحته عن يديه المقادر

يريد نحته فخفف وقوله: {على آثارهم}، استعارة فصيحة، من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان، وإعراض عن الشرع فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في آثارهم يحزن عليهم، وقوله: {بهذا الحديث} أي بالقرآن الذي يحدثك به، و{أسفًا} نصب على المصدر، قال الزجاج: والأسف المبالغة في حزن أو غضب.
قال القاضي أبو محمد: والأسف في هذا الموضع الحزن، لأنه على من لا يملكه ولا هو تحت يد الأسف ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه لكان غضبًا، كقوله تعالى: {فلما آسفونا} [الزخرف: 55] أي أغضبونا وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد، وذكره منذر بن سعيد وقال قتادة: هنا {أسفًا} غضبًا، قال مجاهد {أسفًا} جزعًا وقال قتادة أيضًا: حزنًا، ومن هذه اللفظة قول الأعشى: الطويل:
أرى رجلًا منكم أسيفًا كأنما ** يضم إلى كشحيه كفًّا مخضبا

يريد حزينًا كأنه مقطوع اليد، وقوله: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة}، الآية بسط في التسلية أي لا تهتم للدنيا وأهلها فأمرها وأمرهم أقل بفنائه وذهابه، فإنا إنما جعلنا ما على الأرض زينة وامتحانًا وخبرة، واختلف في المراد، ب {ما}، فقال ابن جبير عن ابن عباس: أراد الرجال وقاله مجاهد، وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء، وقالت فرقة أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة، ولم يدخل في هذا الجبال الصم وكلا ما لا زين فيه كالحيات والعقارب، وقالت فرقة: أراد كل ما على الأرض عمومًا وليس شيء إلا فيه زينة من جهة خلقه وصنعته وإحكامه. وفي معنى هذه الآية، قول النبي عليه السلام: «الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء» و{زينة} مفعول ثاني أو مفعول من أجله بحسب معنى {جعل}. وقوله: {لنبلوهم أيهم أحسن عملًا} أي لنختبرهم وفي هذا وعيد ما، قال سفيان الثوري: {أحسنهم عملًا} أزهدهم فيها، وقال أبو عاصم العسقلاني: أحسن عملًا: أترك لها.
قال القاضي أبو محمد: وكان أبي رضي الله عنه يقول: أحسن العمل أخذ بحق واتفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه. وقوله: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيدًا جرزًا}، أي يرجع كل ذلك ترابًا غير متزين بنبات ونحو، والجرز الأرض التي لا شيء فيها من عمارة وزينة، فهي البلقع، وهذه حالة الأرض العامرة الخالية بالدين لابد لها من هذا في الدنيا جزءًا جزءًا من الأرض ثم يعمها ذلك بأجمعها عند القيامة، يقال: جرزت الأرض بقحط أو جراد أو نحوه إذا ذهب نباتها وبقيت لا شيء فيها ولا نفع، وأرضون أجراز، قال الزجاج: والجرز الأرض التي لا تنبت.
قال القاضي أبو محمد: وإنما ينبغي أن يقول: التي لم تنبت، والصعيد وجه الأرض وقيل الصعيد التراب خاصة، وقيل الصعيد الأرض الطيبة وقيل، الصعيد الأرض المرتفعة من الأرض المنخفضة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{وينذر} بعذاب الله {الذين قالوا اتخذ الله ولدًا} وهم اليهود حين قالوا: عزيرٌ ابن الله، والنصارى حين قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون حين قالوا: الملائكة بنات الله، {ما لهم به} أي: بذلك القول {من عِلْم} لأنهم قالوا: أفْتَرَى على الله، {ولا لآبائهم} الذين قالوا ذلك، {كَبُرَتْ} أي: عَظُمَتْ {كلمةً} الجمهور على النصب.
وقرأ ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وأبو رزين، وأبو رجاء، ويحيى بن يعمر، وابن محيصن، وابن أبي عبلة: {كلمةٌ} بالرفع.
قال الفراء: من نصب، أضمر: كُبْرتْ تلك الكلمةُ كلمةً، ومن رفع، لم يضمر شيئًا، كما تقول: عَظُم قولك.
وقال الزجاج: من نصب، فالمعنى: كبرت مقالتهم: اتخذ الله ولدًا كلمة، و{كلمةً} منصوب على التمييز.
ومن رفع، فالمعنى: عظمت كلمة هي قولهم: اتخذ الله ولدًا.
قوله تعالى: {تخرج من أفواههم} أي: إِنها قول بالفم لا صحة لها، ولا دليل عليها، {إِن يقولون} أي: ما يقولون {إِلا كذبا}.
ثم عاتبه على حُزْنِهِ لفوت ما كان يرجو من إِسلامهم، فقال: {فلعلك باخع نفسك} وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وقتادة: {باخعُ نفسِك} بكسر السين، على الإِضافة.
قال المفسرون واللغويون: فلعلك مهلك نفسك، وقاتل نفسك، وأنشد أبو عبيدة لذي الرمَّة:
ألا أيُّهَذَا الباخِعُ الوجْد نَفْسَهُ ** لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المقَادِرُ

أي: نحَّتْه.
فإن قيل: كيف قال: {فلعلك} والغالب عليها الشك، والله عالم بالأشياء قبل كونها؟
فالجواب: أنها ليست بشكّ، إِنما هي مقدَّرة تقدير الاستفهام الذي يعني به التقرير، فالمعنى: هل أنت قاتل نفسك؟! لا ينبغي أن يطول أساك على إِعراضهم، فإن من حَكَمْنَا عليه بالشِّقْوَةِ لا تجدي عليه الحسرة، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: {على آثارهم} أي: من بعد تولِّيهم عنك {إِن لم يؤمنوا بهذا الحديث} يعني: القرآن {أسفا} وفيه أربعة أقوال.
أحدها: حَزَنًا، قاله ابن عباس، وابن قتيبة.
والثاني: جَزَعًا، قاله مجاهد.
والثالث: غَضَبًا، قاله قتادة.
والرابع: نَدَمًا، قاله السدي.
وقال أبو عبيدة: نَدَمًا وتَلهُّفًا وأَسىً.
قال الزجاج: الأسف: المبالغة في الحزن، أو الغضب، يقال: قد أسف الرجل، فهو أَسيف، قال الشاعر:
أَرَى رَجُلًا مِنْهُمْ أَسِيفًا كَأَنَّما ** يَضُمُّ إِلى كَشْحَيْهِ كَفًّا مُخَضَّبا

وهذه الآية يشير بها إِلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحرص على إيمان قومه لئلا يؤدّي ذلك إِلى هلاك نفسه بالأسف.
قوله تعالى: {إِنا جعلنا ما على الأرض زينة لها}.
فيه أربعة أقوال.
أحدها: أنهم الرجال.
رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: العلماء، رواه مجاهد عن ابن عباس فعلى هذين القولين تكون {ما} في موضع مَنْ لأنها في موضع إِبهام، قاله ابن الانباري.
والثالث: أنَّه ما عليها من شيء، قاله مجاهد.
والرابع: النبات والشجر، قاله مقاتل.
وقول مجاهد أعمُّ، يدخل فيه النبات، والماء، والمعادن، وغير ذلك.
فإن قيل: قد نرى بعض ما على الأرض سَمِجًا وليس بزينة.
فالجواب: أنا إِن قلنا: إِن المراد به شيء مخصوص، فالمعنى: إِنا جعلنا بعض ما على الأرض زينةً لها، فخرج مخرج العموم، ومعناه الخصوص.
وإِن قلنا: هم الرجال أو العلماء، فلعبادتهم أو لدلالتهم على خالقهم.
وإِن قلنا: النبات والشجر، فلأنه زينة لها تجري مجرى الكسوة والحلية.
وإِن قلنا: إِنه عامّ في كل ما عليها، فلكونه دالًا على خالقه، فكأنَّه زينة الأرض من هذه الجهة.
قوله تعالى: {لنبلوهم} أي: لنختبر الخلق، والمعنى: لنعاملهم معاملة المبتلى.
قال ابن الأنباري: من قال: إِن {ما على الأرض} يعني به النبات، قال: الهاء والميم ترجع إِلى سكان الأرض المشاهِدين للزينة، ومن قال: {ما على الأرض} الرجال، ردَّ الهاء والميم على {ما} لأنها بتأويل الجميع، ومعنى الآية: لنبلوهم فنرى أيُّهم أحسن عملًا، هذا، أم هذا.
قال الحسن: أيُّهم أزهد في الدنيا.
وقد ذكرنا في هذه الآية أربعة أقوال في سورة [هود: 7].
ثم أعلم الخلقَ أنه يفني جميع ذلك، فقال تعالى: {وإِنا لجاعلون ما عليها صعيدًا} قال الزجاج: الصعيد: الطريق الذي لا نبات فيه.
وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الصعيد: التراب، ووجه الأرض.
فأما الجُرُز، فقال الفراء: أهل الحجاز يقولون: أرض جُرُزٌ، وجَرْزٌ.
وأسد تقول: جَرَز، وجُرُز، وتميم تقول: أرض جُرْز، وجَرْز، بالتخفيف، وقال أبو عبيدة: الصعيد الجُرُز: الغليظ الذي لا يُنْبِتُ شيئًا.
ويقال للسَّنَةِ المُجْدِبة: جُرُز، وسِنُون أجراز، لجدوبتها، وقلَّة مطرها، وأنشد:
قَدْ جَرّفَتْهُنَّ السِّنُون الأجْرَازْ

وقال الزجاج: الجرز: الأرض التي لا ينبت فيها شيء، كأنها تأكل النبت أكلًا.
وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الجرز: الأرض التي لا يبقى بها نبات، تحرق كل نبات يكون بها.
وقال المفسرون: وهذا يكون يوم القيامة، يجعل الله الأرض مستويةً لا نبات فيها ولا ماء. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا}.
وهم اليهود، قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله.
فالإنذار في أوّل السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد.
{مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} {من} صلة، أي ما لهم بذلك القول علم؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل.
{وَلاَ لآبَائِهِمْ} أي أسلافهم.
{كَبُرَتْ كَلِمَةً} {كلمة} نصب على البيان؛ أي كبرت تلك الكلمة كلمةً.
وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق {كلمةٌ} بالرفع؛ أي عظمت كلمة؛ يعني قولهم اتخذ الله ولدًا.
وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار.
يقال: كبر الشيء إذا عظم، وكبر الرجل إذا أسنّ.
{تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} في موضع الصفة.
{إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} أي ما يقولون إلا كذبًا.
قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ}.
{باخع} أي مُهلك وقاتل؛ وقد تقدّم.
{آثارهم} جمع أثر، ويقال إثر.
والمعنى: على أثر تولّيهم وإعراضهم عنك.
{إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث} أي القرآن.
{أَسَفًا} أي حزنًا وغضبًا على كفرهم؛ وانتصب على التفسير.
قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} {ما} و{زينةً} مفعولان.
والزينة كل ما على وجه الأرض؛ فهو عموم لأنه دال على بارئه.
وقال ابن جبير عن ابن عباس: أراد بالزينة الرجال؛ قال مجاهد.
وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} قال: العلماء زينة الأرض.