فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال المهدوي: فتكون الجملة صفة للولد.
قال ابن عطية: وهذا معترض لأنه لا يصفه إلاّ القائل وهم ليس قصدهم أن يصفوه، والصواب عندي أنه نفى مؤتنف أخبر الله تعالى به بجهلهم في ذلك، ولا موضع للجملة من الإعراب ويحتمل أن يعود على الله تعالى، وهذا التأويل أذم لهم وأقضى في الجهل التام عليهم وهو قول الطبري انتهى.
قيل: والمعنى {ما لهم} بالله {من علم} فينزهوه عما لا يجوز عليه، ويحتمل أن يعود على القول المفهوم من {قالوا} أي {ما لهم}.
بقولهم هذا {من علم} فالجملة في موضع الحال أي {قالوا} جاهلين من غير فكر ولا روية ولا نظر في ما يجوز ويمتنع.
وقيل: يعود على الاتخاذ المفهوم من {اتخذه} أي {ما لهم} بحكمة الاتخاذ من علم إذ لا يتخذه إلاّ من هو عاجز مقهور يحتاج إلى معين يشد به عضده.
وهذا مستحيل على الله.
قال الزمخشري: اتخاذ الله ولدًا في نفسه محال، فيكف {قيل ما لهم به من علم}؟ قلت: معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته، وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به انتهى.
{ولا لآبائهم} معطوف على {لهم} وهم من تقدم من أسلافهم الذين ذهبوا إلى هذه المقالة السخيفة، بل من قال ذلك إنما قاله عن جهل وتقليد.
وذكر الآباء لأن تلك المقالة قد أخذوها عنهم وتلقفوها منهم.
وقرأ الجمهور: {كلمة} بالنصب والظاهر انتصابها على التمييز، وفاعل {كَبُرت} مضمر يعود على المقالة المفهومة من قوله: {قالوا اتخذ الله ولدًا}، وفي ذلك معنى التعجب أي ما أكبرها كلمة، والجملة بعدها صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم، فإن كثيرًا مما يوسوس به الشيطان في القلوب ويحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر، فكيف بمثل هذا المنكر وسميت {كلمة} كما يسمون القصيدة كلمة.
وقال ابن عطية: وهذه المقالة هي قائمة في النفس معنى واحدًا فيحسن أن تسمى {كلمة} وقال أيضًا: وقرأ الجمهور بنصب الكلمة كما تقول نعم رجلًا زيد، وفسر بالكلمة ووصفها بالخروج من أفواههم فقال بعضهم: نصبها على التفسير على حد نصب قوله تعالى: {وساءت مرتفقًا}.
وقالت فرقة: نصبها على الحال أي {كبرت} فريتهم ونحو هذا انتهى.
فعلى قوله كما تقول نعم رجلًا زيد يكون المخصوص بالذم محذوفًا لأنه جعل {تخرج} صفة لكلمة، والتقدير {كبرت كلمة} خارجة {من أفواههم} تلك المقالة التي فاهوا بها وهي مقالتهم {اتخذ الله ولدًا}.
والضمير في {كبرت} ليس عائدًا على ما قبله بل هو مضمر يفسره ما بعده، وهو التمييز على مذهب البصريين، ويجوز أن يكون المخصوص بالذم محذوفًا وتخرج صفة له أي {كبرت كلمة} كلمة {تخرج من أفواههم}.
وقال أبو عبيدة: نصب على التعجب أي أكبر بها {كلمة} أي من {كلمة}.
وقرئ: {كبرت} بسكون الباء وهي في لغة تميم.
وقرأ الحسن وابن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ في المعنى وأقوى، و{أن} نافية أي ما {يقولون} و{كذبًا} نعت لمصدر محذوف أي قولًا {كذبًا}.
{فلعلك باخع} لعل للترجي في المحبوب وللإشفاق في المحذور.
وقال العسكري: فيها هنا هي موضوعة موضع النهي يعني أن المعنى لا تبخع نفسك.
وقيل: وضعت موضع الاستفهام تقديره هل أنت {باخع نفسك}؟ وقال ابن عطية: تقرير وتوقيف بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك.
وقال الزمخشري: شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم برجل فارقته أحبته وأعزته، فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدًا عليهم وتلهفًا على فراقهم انتهى.
وتكون لعل للإستفهام قول كوفي، والذي يظهر أنها للإشفاق أشفق أن يبخع الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لكونهم لم يؤمنوا.
وقوله: {على آثارهم} استعارة فصيحة من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان وإعراض عن الشرع، فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في إدبارهم يحزن عليهم، ومعنى {على آثارهم} من بعدهم أي بعد يأسك من إيمانهم أو بعد موتهم على الكفر.
ويقال: مات فلان على أثر فلان أي بعده، وقرئ: {باخع نفسك} بالإضافة.
وقرأ الجمهور: {باخع} بالتنوين {نفسك} بالنصب.
قال الزمخشري: على الأصل يعني إن اسم الفاعل إذا استوفي شروط العلم فالأصل أن يعمل، وقد أشار إلى ذلك سيبويه في كتابه.
وقال الكسائي: العمل والإضافة سواء، وقد ذهبنا إلى أن الإضافة أحسن من العمل بما قررناه في ما وضعنا في علم النحو.
وقرئ: {إن لم يؤمنوا} بكسر الميم وفتحها فمن كسر.
فقال الزمخشري: هو يعني اسم الفاعل للإستقبال، ومن فتح فللمضي يعني حالة الإضافة، أي لأن {لم يؤمنوا} والإشارة بهذا الحديث إلى القرآن.
قال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا} و{أسفًا} قال مجاهد: جزعًا.
وقال قتادة: غضبًا وعنه أيضًا حزنًا.
وقال السدّي: ندمًا وتحسرًا.
وقال الزجاج: الأسف المبالغة في الحزن والغضب.
وقال منذر بن سعيد: الأسف هنا الحزن لأنه على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه كان غضبًا كقوله تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} أي أغضبونا.
قال ابن عطية: وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد انتهى.
وانتصاب {أسفًا} على أنه مفعول من أجله أو على أنه مصدر في موضع الحال، وارتباط قوله: {إنّا جعلنا} الآية بما قبلها هو على سبيل التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه تعالى أخبر أنه خلق ما على الأرض من الزينة للإبتلاء والاختبار أي الناس {أحسن عملًا} فليسوا على نمط واحد في الاستقامة واتباع الرسل، بل لابد أن يكون فيهم من هو أحسن عملًا ومن هو أسوأ عملًا، فلا تغتم وتحزن على من فضلت عليه بأنه يكون أسوأ عملًا ومع كونهم يكفرون بي لا أقطع عنهم موادّ هذه النعم التي خلقتها. و{جعلنا} هنا بمعنى خلقنا، والظاهر أن ما يراد بها غير العاقل وأنه يراد به العموم فيما لا يعقل. و{زينة} كل شيء بحسبه.
وقيل: لا يدخل في ذلك ما كان فيه إيذاء من حيوان وحجر ونبات لأنه لا زينة فيه، ومن قال بالعموم قال فيه {زينة} من جهة خلقه وصنعته وإحكامه. وقيل: المراد بما هنا خصوص ما لا بعقل. فقيل: الأشجار والأنهار، وقيل: النبات لما فيه من الاختلاف والأزهار، وقيل: الحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال. وقيل: الذهب والفضة والنحاس والرصاص والياقوت والزبرجد والجوهر والمرجان وما يجري مجرى ذلك من نقائس الأحجار. وقال الزمخشري: {ما على الأرض} يعني ما يصلح أن يكون {زينة لها} ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها.
وقالت: فرقة أراد النعيم والملابس والثمار والخضرة والمياه.
وقيل: {ما} هنا لمن يعقل، فعن مجاهد هو الرجال وقاله ابن جبير عن ابن عباس وروى عكرمة أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء. وانتصب {زينة} على الحال أو على المفعول من أجله إن كان {جعلنا} بمعنى خلقنا، وأوجدنا، وإن كانت بمعنى صيرنا فانتصب على أنه مفعول ثان.
واللام من {لنبلوهم} تتعلق بجعلنا، والابتلاء الاختبار وهو متأوّل بالنسبة إلى الله تعالى.
والضمير في {لنبلوهم} إن كانت ما لمن يعقل فهو عائد عليها على المعنى، وأن لا يعود على ما يفهم من سياق الكلام وهو سكان الأرض المكلفون و{أيهم} يحتمل أن يكون الضمير فيها إعرابًا فيكون {أيهم} مبتدأ و{أحسن} خبره.
والجملة في موضع المفعول {لنبلوهم} ويكون قد علق {لنبلوهم} إجراءً لها مجرى العلم لأن الابتلاء والاختبار سبب للعلم، كما علقوا سل وانظر البصرية لأنهما سببان للعلم وإلى أن الجملة استفهامية مبتدأ وخبر ذهب الحوفي، ويحتمل أن تكون الضمة فيها بناء على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء في أي.
وهو كونها مضافة قد حذف صدر صلتها، فأحسن خبر مبتدأ محذوف فتقديره هو {أحسن} ويكون {أيهم} في موضع نصب بدلًا من الضمير في {لنبلوهم}، والمفضل عليه محذوف تقديره ممن ليس {أحسن عملًا}.
وقال الثوري أحسنهم عملًا أزهدهم فيها.
وقال أبو عاصم العسقلاني: أََترك لها.
وقال الزمخشري: حسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها.
وقال أبو بكر غالب بن عطية: أحسن العمل أخذ بحق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه.
وقال الكلبي: أحسن طاعة.
وقال القاسم بن محمد ما عليها من الأنبياء والعلماء ليبلوَ المرسل إليهم والمقلدين للعلماء أيهم أحسن قبولًا وإجابة.
وقال سهل: أحسن توكلًا علينا فيها.
وقيل: أصفى قلبًا وأحسن سمتًا.
وقال ابن إسحاق: أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي.
و{إنّا لجاعلون} أي مصيرون {ما عليها} مما كان زينة لها أو {ما عليها} مما هو أعم من الزينة وغيره {صعيدًا} ترابًا {جرزًا} الأنبات فيه، وهذا إشارة إلى التزهيد في الدنيا والرغبة عنها وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن ما تضمنته أيدي المترفين من زينتها، إذ مآل ذلك كله إلى الفناء والحاق.
وقال الزمخشري: {ما عليها} من هذه الزينة {صعيدًا جرزًا} يعني مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته وإماطة حسنة وإبطال ما به كان زينة من إماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار ونحو ذلك انتهى.
قيل: والصعيد ما تصاعد على وجه الأرض.
وقال مجاهد: الأرض التي لا نبات بها.
وقال السدّي الأملس المستوي.
وقيل: الطريق.
وفي الحديث: «إياكم والقعود على الصعدات». اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)}.
علّم عباده كيف يحمدونه على إفاضة نعمه عليهم، ووصفه بالموصول يشعر بعليّة ما في حيز الصلة لما قبله ووجه كون إنزال الكتاب، وهو القرآن نعمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه اطلع بواسطته على أسرار التوحيد، وأحوال الملائكة والأنبياء، وعلى كيفية الأحكام الشرعية التي تعبده الله وتعبد أمته بها، وكذلك العباد كان إنزال الكتاب على نبيهم نعمة لهم لمثل ما ذكرناه في النبيّ: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} أي: شيئًا من العوج بنوع من أنواع الاختلال في اللفظ والمعنى، والعوج بالكسر في المعاني، وبالفتح في الأعيان كذا قيل، ويرد عليه قوله سبحانه: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه: 107]، يعني: الجبال، وهي من الأعيان.
قال الزجاج: المعنى في الآية: لم يجعل فيها اختلافًا كما قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} [النساء: 82].
والقيم: المستقيم الذي لا ميل فيه، أو القيم بمصالح العباد الدينية والدنيوية، أو القيم على ما قبله من الكتب السماوية مهيمنًا عليها، وعلى الأوّل يكون تأكيدًا لما دل عليه نفي العوج، فربّ مستقيم في الظاهر لا يخلو عن أدنى عوج في الحقيقة، وانتصاب {قيمًا} بمضمر، أي جعله قيمًا، ومنع صاحب الكشاف أن يكون حالًا من الكتاب، لأن قوله: {ولم يجعل} معطوف على {أنزل} فهو داخل في حيز الصلة، فجاعله حالًا من الكتاب فاصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة.
وقال الأصفهاني: هما حالان متواليان إلا أن الأوّل جملة والثاني مفرد، وهذا صواب لأن قوله: {وَلَمْ يَجْعَل} لم يكن معطوفًا على ما قبله بل الواو للحال، فلا فصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة، وقيل: إن {قيمًا} حال من ضمير {لم يجعل له}.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: أنزل على عبده الكتاب قيمًا ولم يجعل له عوجًا، ثم أراد سبحانه أن يفصل ما أجمله في قوله قيمًا فقال: {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} وحذف المنذر للعلم به مع قصد التعميم، والمعنى: لينذر الكافرين، والبأس: العذاب، ومعنى {مِن لَّدُنْهُ}: صادرًا من لدنه نازلًا من عنده.
روى أبو بكر، عن عاصم: أنه قرأ: {من لدنه} بإشمام الدال الضمة، وبكسر النون والهاء، وهي لغة الكلابيين.
وروى أبو زيد عن جميع القراء فتح اللام وضم الدال وسكون النون {وَيُبَشّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات}، قرئ: {يبشر} بالتشديد والتخفيف، وأجرى الموصول على موصوفه المذكور، لأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} وهو الجنة حال كونهم {مَّاكِثِينَ فِيهِ} أي: في ذلك الأجر {أَبَدًا} أي: مكثًا دائمًا لا انقطاع له، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار.