فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقيل: هما فريقان من أهل الكهف أنفسهم على أنه المشار إليه بقوله تعالى: {قال قائل منهم كم لبثتم} [الكهف: 19].
وفي هذا بعد من لفظ حزب إذ كان القائل واحدًا والآخرون شاكين، وبعيد أيضًا من فعل {أحصى} لأن أهل الكهف ما قصدوا الإحصاء لمدة لبثهم عند إفاقتهم بل خالوها زمنًا قليلًا.
فالوجه: أن المراد بالحزبين حزبان من الناس أهل بلدهم اختلفت أقوالهم في مدة لبثهم بعد أن علموا انبعاثهم من نومتهم، أحد الفريقين مصيب والآخر مخطئ، والله يعلم المصيب منهم والمخطئ، فهما فريقان في جانبي صواب وخطأ كما دل عليه قوله: {أحصى}.
ولا ينبغي تفسير الحزبين بأنهما حزبان من أهل الكهف الذين قال الله فيهم: {قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم} الآية [الكهف: 19].
وجُعل حصول علم الله بحال الحزبين علةً لبعثِهِ إياهم كناية عن حصول الاختلاف في تقدير مدتهم فإنهم إذا اختلفوا علم الله اختلافهم عِلْمَ الواقعات، وهو تعلق للعلم يصح أن يطلق عليه تنجيزي وإن لم يقع ذلك عند علماء الكلام.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {لنبلوهم أيهم أحسن عملًا} في أول السورة الكهف (7).
و{أحصى} يحتمل أن يكون فعلًا ماضيًا، أن يكون اسم تفضيل مصوغًا من الرباعي على خلاف القياس.
واختار الزمخشري في الكشاف تبعًا لأبي علي الفارسي الأول تجنبًا لصوغ اسم التفضيل على غير قياس لقلته.
واختارَ الزجاج الثاني.
ومع كون صوغ اسم التفضيل من غير الثلاثي ليس قياسًا فهو كثير في الكلام الفصيح وفي القرآن.
فالوجه، أن {أحصى} اسم تفضيل، والتفضيل منصرف إلى ما في معنى الإحصاء من الضبط والإصابة.
والمعنى: لنعلم أي الحزبين أتقن إحصاءً، أي عدا بأن يكون هو الموافق للواقع ونفس الأمر ويكون ما عداه تقريبًا ورجمًا بالغيب.
وذلك هو ما فصله قوله تعالى: {سيقولون ثلاثة} [الكهف: 22] الآية.
فـ: {أي} اسم استفهام مبتدأ وهو معلق لفعل {لنعلم} عن العمل، {وأحصى} خبر عن {أي} و{أمدًا} تمييز لاسم التفصيل تمييزَ نسبة، أي نسبة التفضيل إلى موصوفه كما في قوله: {أنا أكثر منك مالًا} [الكهف: 34].
ولا يريبك أنه لا يتضح أن يكون هذا التمييز محولًا عن الفاعل لأنه لا يستقيم أن تقول: أفضل أمده، إذ التحويل أمر تقديري يقصد منه التقريب.
والمعنى: ليظهرَ اضطراب الناس في ضبط تواريخ الحوادث واختلال خرصهم وتخمينهم إذا تصدوا لها، ويعلم تفريط كثير من الناس في تحديد الحوادث وتاريخها، وكلا الحالين يمت إلى الآخر بصلة. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)}.
{أَمْ} في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة عن التحقيق، ومعناها عند الجمهور: بل والهمزة وعند بعض العلماء بمعنى بل فقط، فعلى القول الأول فالمعنى: بل أحسبت، وعلى الثاني- فالمعنى: بل حسبت، فهي على القول الأول جامعة بين الإضراب والإنكار. وعلى الثاني- فهي للإضراب الانتقالي فقط.
وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة: أن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إن قصة أصحاب الككهف وإن استعظمها الناس وعجبوا منها، فليست شيئًا عجبًا بلنسبة إلى قدرتنا وعظيم صنعنا فإن خلقنا السموات الأرض وجعلنا ما على الأرض زينة لها، وحعلنا إياها بعد ذلك صعيدًا جرزًا- أعظم وأعجب مما فعلنا بأصحاب الكهف، ومن كوننا أنمناهم هذا الزمن الطويل، قم بعثناهمن ويدل لهذا الذي ذكرنا آيات كثيرة:
منها- أنه قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهًَا} [الكهف: 7] إلى قوله- {صَعِيدًا جُرُزا} [الكهف: 8]، ثم اتبع ذلك بقوله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف} الآية، فدل ذلك على أن المراد أن قصتهم لا هجب فيها بالنسبة غلى ما خلقنا مما هو أعظم منها.
ومنها- أنه يكثر في القرآن العظيم تنبيه الناس على أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الناس، ومنخلق الأعظم فهو قادر على الأصغر بلا شك، كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] الآية، وكقوله: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السماء بَنَاهَا} [النازعات: 27] إلى قوله: {مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 33] كما قدمناه مستوفى في سورة: البقرة والنحل.
ومن خلق هذه المخلوقات العظام: كالسماء والأرض وما فيهما فلا عجب في إقامته أهل الكهف هذه المدة الطويلة، ثم بعثه إياهم، كما هو واضح.
والكهف: النقب المتسع في الجبل، فإن لم يك واسعًا فهو غار. وقيلك كل غار في جلب: كهف. وما يروى عن أنس من أن الكهف نفس الجبل غريب، غير معروف في اللغة.
واختلف العلماء في المراد بأ {الرقيم} في هذه الآية على أقوال كثيرة، قيل: الرقيم اسم كلبهم، وهو اعتقاد أمية بن أبي الصلت حيث يقول:
وليس بها إلا الرقيم مجاورًا ** وصيدهم والقوم في الكهف همد

وعن الضحاط- أن الرقيم: بلدة بالروم، وقيل: اسم الجبل الذي فيه الكهف. وقيل: اسم للوادي الذي فيه الكهف. والأقوال فيه كثيرة.
وعن ابن عباس أنه قال: لا أدري ما الرقيم؟ أكتاب أم بنيان؟.
وأظهر الأقوال عندي بحسب اللغة العربية وبعض آيات القرآن: أن الرقيم معناه: المرقوم، فهو فعيل بمعى مفعول، من رقمت الكتاب إذا كتبته، ومنه قوله تعالى: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} [المطففين: 9] الآية. سواء قلنا: إن الرقيم كتاب كان عندهم فيه شرعهم الذي تمسكوا به، أو لوح من ذهب كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم وسبب خروجهم، أو صخرة نقشت فيها أسماؤهم.
والعلم عند الله تعالى.
والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم: طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين: أحدهما معطوف على الآخر، خلافًا لمن قال: إن أصحاب الكهف طائفة، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى وأن الله قص علة نبيه في هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف ولم يذكر له شيئًا عن أصحاب الرقيم: وخلافًا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدت عليهم باب الكهف الذي هم فيه، فدعو الله بأعمالهم الصالحة: وهم الابر بوالديه، والعفيف، والمستأجر. وقصتهم مشهورة ثابتة في الصحيح، غلا أن تفسير الآية بأنهم هو المراد- بعيد كما ترى.
واعلم أن قصة أصحاب الكهف وأسماؤهم، وفي أي محل من الأرض كانوا- كل ذلك لم يثبت فيه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم شيء زائد على ما في القرآن، وللمفسرين في ذلك أخبار كثيرة إسرائيلية أعرضنا عن ذكرها لعدم الثقة بها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {عجبًا} صفة لمحذوف، أي شيئًا عجبًا. أو آية عجبًا.
وقوله: {من آياتنا} في موضع الحال. وقد تقرر في فن النحو أن نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالًا، وأصل المعنى: كانوا عجبًا كائنًا من آياتنا، فلما قدم النعت صار حالًا.
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفة أصحاب الكهف- أنهم فتية، وا، هم أووا إلى الكهف، وأنهم دعوا ربهم هذا الدعاي العظيم الشامل لكل خير، وهو قوله عنهم {رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}.
وبي ن في غير هذا الموضع اشياء أخرى من صفاتهم وأقوالهم، كقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] إلى قوله: {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا} [الكهف: 16] و{إذ} في قوله هنا {إِذْ أَوَى الفتية} منصوبة ب {اذكر} مقدرًا. وقيل: بقوله: {عَجَبًا} [الكهف: 9] ومعنى قوله: {إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف} أي جعلوا الكهف مأوى لهم ومكان اعصام.
ومعنى قوله: {آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أي أعطنا رحمة من عندك. والرحمة هنا تشمل الرزق والهدى والحفظ مما هربوا خائفين منه من أذى قومهمن والمغفرة.
والفتية: جمع فتى جمع تكسير، وهو من جموع القلة. ويدل لفظ الفتية على قتلهم، وأنهم شباب لا شيب، خلافًا لما زعمه ابن السراج من: أن الفتية اسم جمع لا جمع تكسير. وإلى كون مثل الفتية جمع تكسير من جموع القلة- أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله:
أفعله افعل ثم فعله ** كذاك أفعال جموع قله

والتهيئة: التقريب والتيسير: أي يسر لنا وقرب لنا من أمرنا رشدًا. والرشدك الاهتداء والديمومة عليه. و{من} في قوله: {من أمرنا} فيها وجهان: أحدهما- أنها هنا للتجريد، وعليه فالمعنى: اجعل لنا أمرنا رشدًا كله. كما تقول: لقيت من زيد أسدًا. ومن عمرة بحرًا.
والثاني أنها للتبعيض. وعليه فالمعنى: واجعل لنا بعض أمرنا. أي وهو البعض الذي نحن فيه من مفارقة الكفار رشدًا حتى نكون بسببه راشدين مهتدين.
{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة- أنه ضرب على آذان أصحاب الكهف سنين عددًا. ولم يبين قدر هذا العدد هنا، لكنه بينه في موضع آخر. وهو قوله: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا} [الكهف: 25].
وضربه جل وعلا على آذانهم في هذه الآية كناية عن كونه أنامهم ومفعول {ضربنا} محذوف، أي ضربنا على آذانهم حجابًا مانعًا من السماع فلا يسمعون شيئًا يوقظهم. والمعنى: أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات.
وقوله: {سنين عددًا} على حذف مضاف. أي ذات عدد، أو مصدر بمعنى اسم المفعول، أي سنين معدودة. وقد ذكرنا الآية المبينة لقدر عددهها بالسنة القمرية والشمسية، كما يشير غلى ذلك قوله تعالى: {وازدادوا تِسْعًا}.
وقال أبو حيان في البحر في قوله: {فضربنا على آذانهم} عبر بالضرب على قوة المباشرة واللصوق واللزوم، ومنه {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} [آل عمران: 112] وضرب الجزية والضرب البعث. وقال الفرزدق:
ضرب عليك العنكبوت بنسجها ** وقضى عليك به الكتاب المنزل

وقال الأسود بن يعفر:
ومن الحوادث لا أبالك أنني ** ضربت على الأرض بالأسداد

وقال الآخر:
إن المروءة والسماحة والندى ** في قبة ضربت على ابن الحشرج

وذكر الجارحة التي هي الآذان، غذ هي يكون منها السمع، لأنه لا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع. وفي الحديث: «ذلك رجل بال الشيطان في أذنه» أس استثقل نومه حتى لا يقوم بالليل. اهـ. كلام أبي حيان.
{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)}.
ذكر جل وعلا في هذه الاية الكريمة: أن من حكم بعثه لأصحاب الكهف بعد هذه النومة الطويلة- أن يبين للناس أي الحزبين المختلفين في مدة لبثهم أحصى لذلك وأضبط له. ولم يبين هنا شيئًا عن الحزبين المذكورين.
وأكثر المفسرين على أن أحد الجزبين- هم أصحاب الكهف. والحزب الثاني- هم أهل المدينة الذي بعث الفتية على عهدعم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية. وقيل: عما حزبات من أهل المدينة المذكورة، كان منهم مؤمنون وكافرونز وقيل: هما حزبان من المؤمنين في زمن اصحاب الكهف. اختلفوا في مدة لبثهم، قاله الفراء: وعن ابن عباس: الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب، وأصحاب الكهف حزب. إلى غير ذلك من الأقوال.
والذي يدل عليه القرآن: أن الحزبين كليهما من أصحاب الكهف. وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وذلك في قوله تعالى: {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19]. وكأن الذين قالوا {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول. ولقائل أن يقول: قوله عنهم {ربكم أعلم بما لبثتم} يدل على أنهم لم يحصوا مدة لبثهم. والله تعالى أعلم.
وقد يجاب عن ذلك بأن رد العلم إلى الله لا ينافى العلم، بدليل أن الله أعلم نبيه بمدة لبثهم في قوله: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ} [الكهف: 25] الآية، ثم أمره برد العلم إليه في قوله: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف: 26] الآية.
وقوله: {بعثناهم} أي من نومتهم الطويلة. والبعث: التحريك من سكون، فيشمل بعث النائم والميت، وغير ذلك.
وقد بينا في رجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر الله جل وعلا حكمة لشيء في موضع، ويكون لذلك الشيء حكم أخر مذكورة في مواضع أخرى- فإنا نبينها. ومثلنا لذلك، وذكرنا منه أشياء متعددة في هذا الكتاب المبارك.
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى هنا في هذه الآية الكريمة بين من حكم بعثهم إظهاره للناس: أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدًا. وقد بين لذلك حكمًا أخر في غير هذا الموضع.