فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} شروع في تمام بسط قصتهم وتفصيلها. والحق الأمر المطابق للواقع: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} أي: بوحدانيته إيمانا يقينيا علميًا على طريق الاستدلال، مع اتفاق قومهم على الشرك: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} أي: بترجيح جانب الله على جانب أنفسهم. قال ابن كثير: الفتية- وهم الشباب- أقبل للحق وأهدى للسبيل، من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل. ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا. وأما عامة شيوخ قريش فاستمروا على ضلالهم ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا. وقد يروى عن هؤلاء الفتية روايات مضطربة. أوثقها أن هؤلاء، كان قدم إلى مدينتهم من يدعو إلى الإيمان بالله تعالى، وبما جاء به عيسى عليه السلام. ممن كان على قدم الحواريين. فاستجاب لذلك الفتية المنوه بهم. وخلعوا الوثنية التي عليها قومهم وفرّوا بدينهم خشية أن يفتنهم ملكهم عن دينهم أو يقتلهم. فاستخفوا عنه في الكهف. واعتزلوا فيه يعبدون الله تعالى وحده. ثم روي أن الملك طلبهم. فقيل: دخلوا هذا الكهف. فقال قومهم: لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشد من أن نردم عليهم هذا الكهف. فبنوه عليهم ثم ردموه. ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى. فرفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم. فقال بعضهم لبعض: كم لبثتم؟ فقالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم حتى بلغ: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} وكان ورق ذلك الزمان لدولة أهله. فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام. فلما ذهب ليخرج رأى على باب الكهف شيئا أنكره فأراد أن يرجع. ثم مضى حتى دخل المدينة. فأنكر ما رأى. ثم أخرج درهما فنظروا إليه فأنكروه وأنكروا الدرهم. وقالوا: من أين لك هذا؟ هذا من ورق غير هذا الزمان.
واجتمعوا عليه يسألونه. فلم يزالوا به حتى انطلقوا به إلى ملكهم. فأخبره بأمره. فاستبشروا به وبأصحابه. وقيل له: انطلق فأرنا أصحابك. فانطلق وانطلقوا معه ليريهم. فدخل قبل القوم فضرب على آذانهم فـ: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} هذا ما أورده ابن جرير أولا، وفيه كفاية عن غيره. وسنذكر في آخر نبئهم ما عند أهل الكتاب النصارى من شأنهم.
وقد قيل إنهم كانوا في مدينة يقال لها طرسوس من أعمال طرابلس الشام. وفيها من الآثار القديمة العهد، في جبل بها، ما يزعم أهلها زعمًا متوارثًا، أنه لأصحاب الكهف. والله أعلم. ثم بين تعالى صبرهم على مخالفة قومهم، ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد، بقوله سبحانه: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي: قويناها بالصبر على المجاهدة. وشجعناهم على محاربة الشيطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران. ومخالفة النفس وهجر المألوفات الجسمانية واللذات والقيام بكلمة التوحيد. وقيل جسّرناهم على القيام بكلمة التوحيد، وإظهار الدين القويم، والدعوة إلى الحق عند ملكهم الجبار. لقوله تعالى: {إِذْ قَامُوا} أي: بين يديه غير مبالين به. وإذ ظرف لربطنا. قال الشهاب: الربط على القلب مجاز عن الربط بمعنى الشد المعروف. أي: استعارة منه. كما يقال، رابط الجأش. لأن القلق والخوف ينزعج به القلب من محله، كما قال تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]، فشبه القلب المطمئن لأمرٍ، بالحيوان المربوط في محلٍّ. وعدِّى ربط بعلى وهو متعد بنفسه، لتنزيله منزلة اللازم: {فَقَالُوا رَبُّنَا} الذي نعبده: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بحيث يدخل تحت ربوبيته كل معبود سواه: {لَنْ نَدْعُوَا} أي: نعبد: {مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} أي: ذا بعد عن الحق، مفرط في الظلم.
{هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةٍ} عملوا أو نحتوا لهم آلهة، فيفيد أنهم عبدوها. وفي الإشارة تحقير لهم: {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ} أي: على عبادتهم أو آلهيتهم أو تأثيرهم: {بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أي: حجة بينة وبرهان ظاهر. فإن الدين لا يؤخذ إلا به. قال القاشاني: دليل على فساد التقليد، وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله، وتأثيره ووجوده، محال. كما قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23]، أي: أسماء بلا مسميات، لكونها ليست بشيء: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي: لا مساوي له في الظلم والكفر. إشارة إلى أنهم لا يأتون ببرهان. فهم ظالمون في حق الله، لافترائهم عليه بأن في رتبته العليا شركاء يساوونه فيها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)}.
لما اقتضى قوله: {لنعلم أي الحزبين أحصى} [الكهف: 12] أن في نبأ أهل الكهف تخرصات ورجمًا بالغيب أثار ذلك في النفس تطلعا إلى معرفة الصدق في أمرهم، من أصل وجود القصة إلى تفاصيلها من مخبر لا يُشك في صدق خبره كانت جملة نحن نقص عليك نبأهم بالحق استئنافًا بيانيًا لجملة لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدًا [الكهف: 12].
وهذا شروع في مجمل القصة والاهتمام بمواضع العبرة منها.
وقدم منها ما فيه وصف ثباتهم على الإيمان ومنابذتهم قومهم الكفرة ودخولهم الكهف.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة {نحن نقص عليك} يفيد الاختصاص، أي نحن لا غيرُنا يقص قصصهم بالحق.
والحق: هنا الصدق.
والصدق من أنواع الحق، ومنه قوله تعالى: {حقيق عليّ أن لا أقول على الله إلا الحق} في سورة الأعراف (105).
والباء للملابسة، أي القصص المصاحب للصدق لا للتخرصات.
والقصص: سَرد خبر طويل فالإخبارُ بمخاطبة مفرقة ليس بقصص، وتقدم في طالع سورة يوسف.
والنبأ: الخبر الذي فيه أهمية وله شأن.
وجملة {إنهم فتية} مبينة للقصص والنبأ.
وافتتاح الجملة بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام لا لرد الإنكار.
وزيادة الهدى يجوز أن يكون تقوية هُدى الإيمان المعلوم من قوله: {آمنوا بربهم} بفتح بصايرهم للتفكير في وسائل النجاة بإيمانهم وألهمهم التوفيق والثبات، فكل ذلك هدى زائد على هدى الإيمان.
ويجوز أن تكون تقوية فضل الإيمان بفضل التقوى كما في قوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17].
والزيادة: وفرةُ مقدار شيء مخصوص، مثل وفرة عدد المعدود، ووزن الموزون، ووفرة سكان المدينة.
وفعل زاد يكون قاصرًا مثل قوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 147]، ويكون متعديًا كقوله: {فزادهم الله مرضًا} [البقرة: 10].
وتستعار الزيادة لقوة الوصف كما هنا.
والربط على القلب مستعار إلى تثبيت الإيمان وعدم التردد فيه، فلما شاع إطلاق القلب على الاعتقاد استعير الربط عليه للتثبيت على عقده.
كما قال تعالى: {لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين} [القصص: 10].
ومنه قولهم: هو رابط الجأش.
وفي ضده يقال: اضطرب قلبه، وقال تعالى: {وبلغت القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10].
استعير الاضطراب ونحوه للتردد والشك في حصول شيء.
وتعدية فعل {ربطنا} بحرف الاستعلاء للمبالغة في الشد لأن حرف الاستعلاء مستعار لمعنى التمكن من الفعل.
و{إذ قاموا} ظرف للربط، أي كان الربط في وقت في قيامهم، أي كان ذلك الخاطر الذي قاموا به مقارنًا لربط الله على قلوبهم، أي لولا ذلك لما أقدموا على مثل ذلك العمل وذلك القول.
والقيام يحتمل أن يكون حقيقيًا، بأن وقفوا بين يدي ملك الروم المشرك، أو وقفوا في مجامع قومهم خطباء معلنين فساد عقيدة الشرك.
ويحتمل أن يكون القيام مستعارًا للإقدام والجَسْر على عمل عظيم، وللاهتمام بالعمل أو القول، تشبيهًا للاهتمام بقيام الشخص من قعود للإقبال على عمل ما، كقول النابغة:
بأن حِصْنًا وحيًا من بني أسد ** قَاموا فقالوا حِمانا غيرُ مقروب

فليس في ذلك قيام بعد قعود بل قد يكونون قالوه وهم قعود.
وعرفوا الله بطريق الإضافة إلى ضميرهم: إما لأنهم عُرفوا من قبل بأنهم عبدوا الله المنزه عن الجسم وخصائص المحدثات، وإما لأن الله لم يكن معروفًا باسم عَلَم عند أولئك المشركين الذين يزعمون أن رب الأرباب هو جوبتير الممثل في كوكب المشتري، فلم يكن طريق لتعريفهم الإله الحق إلا طريق الإضافة.
وقريب منه ما حكاه الله عن قول موسى لفرعون بقوله تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} [الشعراء: 23-24].
هذا إن كان القول مَسوقًا إلى قومهم المشركين قصدوا به إعلان إيمانهم بين قومهم وإظهارَ عدم الاكتراث بتهديد الملك وقومه، فيكون موقفهم هذا كموقف بني إسرائيل حين قالوا لفرعون {لا ضيْر إنا إلى ربنا منقلبون} [الشعراء: 50]، أو قصدوا به موعظة قومهم بدون مواجهةِ خطابهم استنزالًا لطائرهم على طريقة التعريض من باب إيّاككِ أعني فاسمعي يا جارة، واستقصاءً لتبليغ الحق إليهم.
وهذا هو الأظهر لحمل القيام على حقيقته، ولأن القول نُسب إلى ضمير جمعهم دون بعضهم، بخلاف الإسناد في قوله: {قال قائل منهم كم لبثتم} [الكهف: 19] تقتضي أن يكون المقول له ذلك فريقًا آخر، ولظهور قصد الاحتجاج من مقالهم، ويكون قوله: {رب السماوات والأرض} خبر المبتدأ إعلامًا لقومهم بهذه الحقيقة وتكون جملة {لن ندعوا} استئنافًا.
وإن كان هذا القول قد جرى بينهم في خاصتهم تمهيدًا لقوله: {وإذ اعتزلتموهم} [الكهف: 16] إلخ.
فالتعريف بالإضافة لأنها أخطر طريق بينهم، ولأنها تتضمن تشريفًا لأنفسهم، ويكون قوله: {رب السماوات والأرض} صفةً كاشفة، وجملة {لن ندعوا من دونه إلهًا} خبرَ المبتدأ.
وذكرو الدعاء دون العبادة لأن الدعاء يشمل الأقوال كلها من إجراء وصف الإلهية على غير الله ومن نداء غير الله عند السؤال.
وجملة {لقد قلنا إذًا شططًا} استئناف بياني لما أفاده توكيد النفي بـ: لن.
وإن وجود حرف الجواب في خِلال الجملة ينادي على كونها متفرعة على التي قبلها.
واللام للقسم.
والشطط: الإفراط في مخالفة الحق والصواب.
وهو مشتق من الشط، وهو البعد عن الموطن لما في البعد عنه من كراهية النفوس، فاستعير للإفراط في شيء مكروه، أي لقد قلنا قولًا شططًا، وهو نسبة الإلهية إلى من دون الله.
{هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)}.
استئناف بياني لما اقتضته جملة {لقد قلنا إذا شططًا} [الكهف: 14] إذ يثور في نفس السامع أن يتساءل عمن يقول هذا الشطط إن كان في السامعين من لا يعلم ذلك أو بتنزيل غير السائل منزلة السائل.
وهذه الجملة من بقية كلام الفتية كما اقتضاه ضمير قوله: {دونه} العائد إلى {ربنا} [الكهف: 14].
والإشارة إلى قومهم ب {هؤلاء} لقصد تمييزهم بما سيخبر به عنهم.
وفي هذه الإشارة تعريض بالتعجب من حالهم وتفضيح صنعهم، وهو من لوازم قصد التمييز.
وجملة {اتخذوا} خبر عن اسم الإشارة، وهو خبر مستعمل في الإنكار عليهم دون الإخبار إذ اتخاذهم آلهة من دون الله معلوم بين المتخاطبين، فليس الإخبار به بمفيد فائدة الخبر.
ومعنى {من دونه} من غيره، و{من} ابتدائية، أي آلهة ناشئة من غير الله، وكان قومهم يومئذٍ يعبدون الأصنام على عقيدة الروم ولا يؤمنون بالله.
وجملة {لولا يأتون عليهم بسلطان بين} مؤكدة للجملة التي قبلها باعتبار أنها مستعملة في الإنكار، لأن مضمون هذه الجملة يقوي الإنكار عليهم.
و{لولا} حرف تحْضيض.
حقيقتهُ: الحثّ على تحصيل مدخولها.
ولما كان الإتيان بسلطان على ثبوت الإلهية للأصنام التي اتخذوها آلهة متعذرًا بقرينة أنهم أنكروه عليهم انصرف التحضيض إلى التبكيت والتغليط، أي اتخذوا آلهة من دون الله لا برهان على إلهيتهم.
ومعنى {عليهم} على آلهتهم، بقرينة قوله: {اتخذوا من دونه آلهة}.
والسلطان: الحجة والبرهان.
والبين: الواضح الدلالة.
ومعنى الكلام: إذ لم يأتوا بسلطان على ذلك فقد أقاموا اعتقادهم على الكذب والخطأ، ولذلك فرع عليه جملة {فمن أظلم ممن أفترى على الله كذبًا}.
ومَن استفهامية، وهو إنكار، أي لا أظلمُ ممن افترى.
والمعنى: أنه أظلم من غيره.
وليس المراد المساواة بينه وبين غيره، كما تقدم في قوله تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} [البقرة: 114].
والمعنى: أن هؤلاء افتروا على الله كذبًا، وذلك أنهم أشركوا معه غيره في الإلهية فقد كذبوا عليه في ذلك إذ أثبتوا له صفة مخالفة للواقع.
وافتراء الكذب تقدم في قوله تعالى: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة المائدة (103).
ثم إن كان الكلام من مبدئه خطابًا لقومهم أعلنوا به إيمانهم بينهم كما تقدم كانت الإشارة في قولهم: {هؤلاء قومنا} على ظاهرها، وكان ارتقاء في التعريض لهم بالموعظة؛ وإن كان الكلام من مبدئه دائرًا بينهم في خاصتهم كانت الإشارة إلى حاضر في الذهن كقوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء} [الأنعام: 89] أي مشركو مكة. اهـ.