فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ}.
الحسبان بمعنى الظن. والإيقاظ: جمع يقظ- بكسر القاف وضمها-، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
فلما رأت من قد تنبه منهم ** وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر

والرقود: جمع راقد وهو النائم، أي تظنهم أيها المخاطب لو رأيتهم أيقاظًا والحال أنهم رقود. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى في نظيره: {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} [الكهف: 18] الآية. وقال بعض العلماء: سبب ظن الرائي أنهم أيقاظ هو أنهم نيام وعيونهم مفتحة، وقيل: لكثرة تقلبهم. وهذا القول يشير له قوله تعالى بعده: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال} [الكهف: 18]. وكلام المفسرين هنا في عدد تقلبهم من كثرة وقلة لا دليل عليه. ولذا أعرضنا عن ذكر الأقوال فيه.
وقوله في هذه الآية: {وتحسبهم} قرأه بفتح السين على القياس ابن عامر وعاصم وحمزة. وقرأه بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي، وهما قراءتان سبعيتان، ولغتان مشهورتان، والفتح أقيس والكسر أفصح.
قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد}.
اختلفت عبارات المفسرين في المراد بالوصيد فقيل: هو فناء البيت. ويروى عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقيل الوصيد: الباب، وهو مروي عن ابن عباس أيضًا. وقيل: الوصيد العتبة. وقيل الصعيد. والذي يشهد له القرآن أن الوصيد هو الباب. ويقال له أصيد أيضًا. لأن الله يقول: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8] أي مغلقة مطبقة. وذلك بإغلاق كل وصيد أو أصيد، وهو الباب من أبوابها. ونظير الآية من كلام العرب قول الشاعر:
تحن إلى أجبال مكة ناقتي ** ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة

وقول ابن قيس الرقيات:
إن في القصر لو دخلنا غزالا ** مصفقًا مؤصدًا عليه الحجاب

فالمراد الإيصاد في جميع ذلك: الإطباق والإغلاق. لأن العادة فيه أن يكون بالوصيد وهو الباب. ويقال فيه أصيد. وعلى اللغتين القراءتان في قوله: {مؤصدة} مهموزًا من الأصيد.. وغير مهموز من الوصيد.
ومن إطلاق العرب الوصيد على الباب قول عبيد بن وهب العبسي، وقيل زهير:
بأرض فضاء لا يسد وصيدها ** علي ومعروفي بها غير منكر

أي لا يسد بابها علي، يعني ليست فيها أبواب حتى تسد علي. كقول الآخر:
ولا ترى الضب بها ينجحر

فإن قيل: كيف يكون الوصيد هو الباب في الآية، والكهف غار في جبل لا باب له؟
فالجواب: أن الباب يطلق على المدخل الذي يدخل للشيء منه. فلا مانع من تسمية المدخل إلى الكهف بابًا. ومن قال: الوصيد الفناء لا يخالف ما ذكرنا. لأن فناء الكهف هو بابه، وقد قدمنا مرارًا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك: أن يقول بعض العلماء في الآية قولًا وتكون في الآية قرينة تدل على خلافه.
وقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية الكريمة: إن المراد بالكلب في هذه الآية- رجل منهم لا كلب حقيقي. واستدلوا لذلك ببعض القراءات الشاذة، كقراءة {وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد} وقراءة {وكالئهم باسط ذراعيه}. وقوله جل وعلا: {باسط ذراعيه} قرينة على بطلان ذلك القول. لأن بسط الذراعين معروف من صفات الكلب الحقيقي، ومنه حديث أنس المتفق عليه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» وهذا المعنى مشهور في كلام العرب، فهو قرينة على أنه كلب حقيقي. وقراءة {وكالئهم} بالهمزة لا تنافي كونه كلبًا، لأن الكلب يحفظ أهله ويحرسهم. والكلاءة: الحفظ.
فإن قيل: ما وجه عمل اسم الفاعل الذي هو {باسط} في مفعوله الذي هو {ذراعيه} والمقرر في النحو أن اسم الفاعل إذا لم يطن صلة ال لا يعمل إلا إذا كان واقعًا في الحال أو المستقبل؟
فالجواب- أن الآية هنا حكاية حال ماضية، ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقوله تعالى: {والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72].
واعلم أن ذكره جل وعلا في كتابه هذا الكلب، وكونه باسطًا ذراعيه بوصيد كهفهم في معرض التنويه بشأنهم- يدل على أن صحبة الأخيار عظيمة الفائدة. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: وشملت كلهم بركتهم، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن اهـ.
ويد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال إني أحب الله ورسوله: «أنت مع من أحببت» متفق عليه من حديث أنس.
ويفهم من ذلك أن صحبة الأشرار فيها ضرر عظيم. كما بينه الله تعالى في سورة الصافات في قوله: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات: 51] إلى قوله- {تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين} [الصافات: 56-57].
وما يذكره المفسرون من الأقوال في اسم كلبهم، فيقول بعضهم: اسمه قطمير. ويقول بعضه اسمه حمران، إلى غير ذلك- لك نطل به الكلام لعدم فائدته.
ففي القرآن العظيم أشياء كثيرة لم يبينها الله لنا ولا رسوله، ولم يثبت في بيانها شيء، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه.
وكثير من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى، ونحن نعرض عن مثل ذلك دائمًا. كلون كلب اصحاب الكهف، واسمه، والبعض الذي ضرب به القتيل من بقرة بني إسرائيل، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر، وأنكر عليه موسى قتله، وكخشب سفينة نوح من أي شجر هو، وكم طول السفينة وعرضها، وكم فيها من الطبقات، إلى غير ذلك مما لا فائدة في البحث عنه، ولا دليل على التحقيق فيه.
وقد قدمنا في سورة: الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية- حكم أكل لحم الكلب وبيعه، وأخذ قيمته إن قتل، وما يجوز اقتناؤه منها وما لا يجوز. وأوضحنا الأدلة في ذلك وأقوال العلماء فيه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} أي: لو أتيح لك النظر إليهم لخُيّل إليك أنهم أيقاظٌ غير نائمين ذلك لأن ربهم سبحانه حفظهم على حال اليقظة وعلى هيئتها، ثم أظهر فيهم آية أخرى من الإعجاز بأنْ يُقلِّبهم في نومهم مرة ناحية اليمين، وأخرى ناحية الشمال، لتظلّ أجسامهم على حالها، ولا تأكلها الأرض.
ومعلوم أن الإنسان إذا قُدِّر له أنْ ينام فترة طويلة على سرير المرض يُصَاب بمرض آخر يُسمُّونه قرحة الفراش، نتيجة لنومه المستمر على جانب واحد عافانا الله وإياكم وقد جعل لهم هذا التقليب ذات اليمين وذات الشمال على هيئة الإيقاظ.
وقوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} [الكهف: 18] ويبدو أنهم كانوا من الرعاة، فتبعهم كلبهم وجلس مَادًّا ذراعيْه بفناء الكهف أو على بابه {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18] فقد ألقى الله مهابتهم والخوف منهم في نفوس الناس، فإذا ما اطلع عليهم إنسان خاف ووَلّى هاربًا يملؤه الرعب؛ لأن هيئتهم تُوحي بذلك، حيث يتقلّبُون يمينًا وشمالًا، ومع ذلك لا يصحُو منهم أحد، ولا يقوم منهم أحد طوال هذه المدة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ}.
قوله تعالى: {أَيْقَاظًا}: جمعٌ يَقُظ بضم القاف، ويُجمع على يِقاظ. ويَقْظ وأيقاظ كعَضُد وأَعْضاد، ويَقُظ ويِقاظ كرَجُل ورِجال. وظاهر كلام الزمخشري أنه يقال: يَقِظ بالكسر، لأنه قال: وأيقاظ جمع يَقِظ كأَنْكادِ في نَكِد. واليَقَظَةُ: الانتباهُ ضدُّ النوم.
والرُّقود: جمع راقِد كقاعِد وقُعود، ولا حاجةَ إلى إضمارِ شيءٍ كما قال بعضهم: إنَّ التقديرَ: لو رَأَيْتَهم لَحَسِبْتَهُم أيقاظًا.
قوله: {ونُقِلَّبهم} قرأ العامَّةُ {نُقَلِّبهم} مضارعًا مسندًا للمعظِّمِ نفسَه. وقرئ كذلك بالياء مِنْ تحتُ، أي: الله أو المَلَك. وقرأ الحسن: {يُقَلِبُهم} بالياءِ من تحتُ ساكنَ القافِ مخففَ اللامِ، وفاعلُه كما تقدَّم: إمَّا اللهُ أو المَلَكُ. وقرأ أيضًا {وتَقَلُّبَهم} بفتح التاءِ وضمِّ اللامِ مشددةً مصدرَ تَقَلَّبَ، كقولِه: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} [الشعراء: 219] ونصبِ الباء. وخرَّجه أبو الفتحِ على إضمارِ فعلٍ، أي: ونَرَى تقَلُّبَهم أو نشاهِدُ. ورُوِيَ عنه أيضًا رفعُ الباءِ على الابتداءِ، والخبرُ الظرفُ بعدَه. ويجوز أن يكونَ محذوفًا، أي: آيةٌ عظيمة. وقرأ عكرمةُ {وتَقْلِبُهم} بتاءِ التأنيثِ مضارعَ قَلَب مخففًا، وفاعلُه ضميرُ الملائكةِ المدلولِ عليهم بالسِّياقِ.
قوله: {وكَلْبُهم} العامَّةُ على ذلك. وقرأ جعفر الصادق {كالِبُهم}، أي: صاحبُ كلبِهم، كلابِن وتامِر. ونقل أبو عمر الزاهدُ غلامُ ثعلب {وكالِئُهم} بهمزةٍ مضمومةٍ اسمَ فاعلٍ مِنْ كَلأَ يكلأُ: أي: حَفِظَ يَحْفَظُ.
و{باسِط} اسمُ فاعلٍ ماضٍ، وإنما عَمِلَ على حكاية الحال. والكسائيُّ يُعْمِله ويَسْتشهد بالاية.
والوَصْيدُ: الباب. وقيل: العَتَبة. وقيل: الصَّعيد والتراب. وقيل: الفِناء. وأنشد:
3138- بأرضِ فضاءٍ لا يُسَدُّ وَصِيْدُها ** عليَّ ومعروفي بها غيرُ مُنكَرِ

والعامَّةُ على كسرِ الواوِ مِنْ {لَوِ اطلعت} على أصلِ التقاءِ الساكنين. وقرأها مضمومةً أبو جعفر وشيبةُ ونافعٌ وابنُ وثاب والأعمش تشبيهًا بواوِ الضمير، وتقدَّم تحقيقُه.
قوله: {فِرارا} يجوز أَنْ يكونَ منصوبًا على المصدرِ مِنْ معنى الفعل قبلَه، لأنَّ التوليَّ والفِرار مِنْ وادٍ واحدٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدرًا في موضعِ الحال، أي: فارًَّا، وتكونُ حالًا مؤكدة، ويجوز أن يكونَ مفعولًا له.
قوله: {رُعْبًا} مفعولٌ ثانٍ. وقيل: تمييز. وقرأ ابنُ كثير ونافعٌ {لَمُلِئْتَ} بالتشديد على التكثيرِ. وأبو جعفر وشيبةُ كذلك إلا أنه بإبدال الهمزةِ ياءً. والزُّهْري بتخفيف اللام والإِبدال، وهو إبدالٌ قياسيٌّ. وتقدَّم الخلافُ الرعب في آل عمران. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}.
هم مسلوبون عنهم، مُخْتَطَفُون منهم، مُستَهلَكون فيما كوشِفوا به من وجود الحق؛ فظاهرهم- في رأي الخَلْق- أنهم بأنفسهم، وفي التحقيق: القائمُ عنهم غيرُهم. وهم محوٌ فيما كوشفوا به من الحقائق.
ثم قال: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}: وهذا إخبارٌ عن حُسْنِ إيوائه لهم؛ فلا كشفقةِ الأمهات بل أتم، ولا كرحمة الآباء بل أعزُّ.. وبالله التوفيق.
ويقال إن أهلَ التوحيد صفتهم ما قال الحقُّ- سبحانه- في صفة أصحاب الكهف: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} فَهُمْ بشواهد الفَرْقِ في ظاهرهم، لكنهم بعين الجمع بما كُوشِفوا به في سرائرهم، يُجْرِي عليهم أحوالِهم وهم غير متكلِّفين، بل هم يثبتون- وهم خمودٌ عما هم به- أن تصرفاتِهم القائمُ بها عنهم سواهم، وكذلك في نطقهم.
قوله جلّ ذكره: {وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}.
كما ذَكَرَهُم ذَكَر كلبَهم، ومَنْ صَدَقَ في محبة أحدٍ أحبَّ مَنْ انتسب إليه وما يُنْسَبُ إليه.
ويقال كلبٌ خَطَا مع أحبائه خطواتٍ فإلى القيامة يقول الصبيان- بل الحق يقول بقوله العزيز-: {وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ} فهل ترى أنَّ مُسْلِمًا يصحب أولياءَه من وقت شبابه إلى وقت مشيبه يردُّه يوم القيامة خائبًا؟ إنه لا يفعل ذلك.