فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فليأتكم برزق مِنْه} فيه وجهان:
أحدهما: بما ترزقون أكله.
الثاني: بما يحل لكم أكله.
{وليتلطف} يحتمل وجهين:
أحدهما: وليسترخص.
الثاني: وليتلطف في إخفاء أمركم. وهذا يدل على جواز اشتراك الجماعة في طعامهم وإن كان بعضهم أكثر أكلًا وهي المناهدة، وكانت مستقبحة في الجاهلية فجاء الشرع بإباحتها.
قوله عز وجل: {إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: يرجموكم بأيديهم استنكارًا لكم، قاله الحسن.
الثاني: بألسنتهم غيبة لكم وشتمًا، قاله ابن جريج.
الثالث: يقتلوكم. والرجم القتل لأنه أحد أسبابه. {أو يعيدوكم في ملتهم} يعني في كفرهم.
{ولن تفلحوا إذًا أبدًا} إن أعادوكم في ملتهم.
قوله عز وجل: {وكذلك أعثرنا عليهم}.
فيه وجهان:
أحدهما: أظهرنا أهل بلدهم عليهم.
الثاني: أطلعنا برحمتنا إليهم.
{وليعلموا أن وعْدَ اللهِ حقٌّ} يحتمل وجهين:
أحدهما: ليعلم أهل بلدهم أن وعد الله حق في قيام الساعة وإعادة الخلق أحياء، لأن من أنامهم كالموتى هذه المدة الخارجة عن العادة ثم أيقظهم أحياء قادر على إحياء من أماته وأقبره.
الثاني: معناه ليرى أهل الكهف بعد علمهم أن وعد الله حق في إعادتهم. {إذ يتنازعون بينهم أمرهم} ذلك أنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها وطعام، استنكروا شخصه واستنكرت ورقه لبعد العهد فحمل إلى الملك وكان صالحًا قد آمن ومن معه، فلما نظر إليه قال: لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك فقد كنت أدعو الله أن يريناهم، وسأل الفتى فأخبره فانطلق والناس معه إليهم، فلما دنوا من أهل الكهف وسمع الفتية كلامهم خافوهم ووصى بعضهم بعضًا بدينهم فلما دخلوا عليهم أماتهم الله ميتة الحق، فحينئذ كان التنازع الذي ذكره الله تعالى فيهم.
وفي تنازعهم قولان:
أحدهما: أنهم تنازعوا هل هم أحياء أم موتى؛
الثاني: أنهم تنازعوا بعد العلم بموتهم هل يبنون عليهم بنيانًا يعرفون به أم يتخذون عليهم مسجدًا.
وقيل: إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب، فأتاه آت منهم في المنام فقال: أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود فدعْنا. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}.
الإشارة بذلك إلى الأمر الذي ذكر الله في جهتهم، والعبرة التي فعلها فيهم، والبعث التحريك عن سكون، واللام في قوله: {ليتساءلوا} لام الصيرورة، لأن بعثهم لم يكن لنفس تساؤلهم، وقول القائل {كم} لبثتم يقتضي أنه هجس في خاطره طول نومهم، واستشعر أن أمرهم خرج عن العادة بعض الخروج، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حال من الوقت والهواء الزمني، لا تباين التي ناموا فيها، وأما أن يجدد الأمر جدًا فبعيد، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم {بورِقكم} بكسر الراء وقرأ أبو عمرو وحده وأبو بكر عن عاصم {بورْقكم} بسكون الراء وهما لغتان، وحكى الزجاج قراءة {بوِرْقكم} بكسر الواو وسكون الراء دون إدغام، وروي عن أبي عمرو الإدغام، وإنما هو إخفاء، لأن الإدغام مع سكون الراء متعذر، وأدغم ابن محيصن القاف في الكاف قال أبو حاتم: وذلك إنما يجوز مع تحريك الراء، وقرأ علي بن أبي طالب: {بوارقكم}، اسم جمع كالحامل والباقر، وقرأ أبو رجاء، {بورقكم} بكسر الواو والراء والإدغام، ويروى أنهم انتبهوا جياعًا، وأن المبعوث هو تلميخا، وروي أنهم صلوا كأنما ناموا ليلة واحدة، وبعثوا تلميخا في صبيحتها، وروي أن باب الكهف انهدم بناء الكفار منه بطول السنين، وروي أن راعيًا هدمه ليدخل فيه غنمه، فأخذ تلميخًا ثيابًا رثة منكرة ولبسها، وخرج من الكهف، فأنكر ذلك البناء المهدوم إذ لم يعرفه، ثم مشى فجعل ينكر الطريق والمعالم ويتحير، وهو في ذلك لا يشعر شعورًا تامًا، بل يكذب ظنه فيما تغير عنده حتى بلغ باب المدينة، فرأى على بابها أمارة الإسلام، فزادت حيرته وقال كيف هذا بلد دقيوس، وبالأمس كنا معه تحت ما كنا، فنهض إلى باب آخر فرأى نحوًا من ذلك، حتى مشى الأبواب كلها، فزادت حيرته، ولم يميز بشرًا، وسمع الناس يقسمون باسم عيسى، فاستراب بنفسه وظن أنه جن، أو انفسد عقله، فبقي حيران يدعو الله تعالى، ثم نهض إلى بائع الطعام الذي أراد شراءه فقال يا عبد الله بعني من طعامك بهذه الورق، فدفع إليه دراهم كأخفاف الربع فيما ذكر، فعجب لها البياع، ودفعها إلى آخر بعجبه، وتعاطاها الناس وقالوا له هذه دراهم عهد فلان الملك، من أين أنت، وكيف وجدت هذا الكنز؟ فجعل يبهت ويعجب، وقد كان بالبلد مشهورًا هو وبيته، فقال: ما أعرف غير أني وأصحابي خرجنا بالأمس من هذه المدينة فقال الناس هذا مجنون، اذهبوا به إلى الملك، ففزع عند ذلك فذهب به حتى جيء به الملك، فلما لم ير دقيوس الكافر تأنس، وكان ذلك الملك مؤمنًا فاضلًا يسمى ببدوسيس فقال له الملك أين وجدت هذا الكنز؟ فقال له إنما خرجت أنا وأصحابي أمس من هذه المدينة فأوينا إلى الكهف الذي في جبل الجلوس، فلما سمع الملك ذلك قال في بعض ما روي، لعل الله قد بعث لكم أيها الناس آية فلنسر إلى الكهف معه حتى نرى أصحابه، فسار وروي أنه أو بعض جلسائه قال: هؤلاء هم الفتية الذين أرخ أمرهم على عهد دقيوس الملك، وكتب على لوح النحاس بباب المدينة، فسار الملك إليهم، وسار الناس معه، فلما انتهوا إلى الكهف قال تمليخا: أدخل عليهم لئلا يرعبوا، فدخل عليهم، فأعلمهم بالأمر، وأن الأمة أمة إسلام، فروي أنهم سُرُّوا وخرجوا إلى الملك، وعظموه وعظمهم، ثم رجعوا إلى كهفهم، وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حيث حدثهم تمليخا، فانتظرهم الناس فلما أبطأ خروجهم، دخل الناس إليهم فرعب كل من دخل، ثم أقدموا فوجدوهم موتى، فتنازعوا بحسب ما يأتي في تفسير الآية التي بعد هذه، وفي هذا القصص من اختلاف الروايات والألفاظ ما تضيق به الصحف، فاختصرته، وذكرت المهم الذي به تتفسر ألفاظ هذه الآية، واعتمدت الأصح، والله المعين برحمته، وفي هذه البعثة بالورق الوكالة وصحتها، وقد وكل علي بن أبي طالب أخاه عقيلًا عند عثمان رضي الله عنهم، وقرأ الجمهور: {فلْينظر} بسكون لام الأمر، وقرأ الحسن: {فلِينظر} بكسرها، و{أزكى} معناه أكثر فيما ذكر عكرمة، وقال قتادة معناه خير، وقال مقاتل: المراد أطيب، وقال ابن جبير: المراد أحل.
قال أبو القاضي أبو محمد: وهو من جهة ذبائح الكفرة وغير ذلك فروي أنه أراد شراء زبيب، وقيل بل شراء تمر، وقوله: {وليتلطف} أي في اختفائه وتحيله، وقرأ الحسن: {ولِيتلطف} بكسر اللام، والضمير في {إنهم} عائد على الكفار، آل دقيوس، و{يظهروا عليكم} معناه يثقفوكم بعلوهم وغلبتهم، وقولهم {يرجموكم} قال الزجاج معناه بالحجارة.
قال القاضي أبو محمد: وهو الأصح، لأنه كان عازمًا على قتلهم لو ظفر بهم، والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قتلة مخالف دين الناس، إذ هي أشفى لحملة ذلك الدين، ولهم فيها مشاركة، وقال حجاج، {يرجموكم} معناه بالقول، وباقي الآية بين.
{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا}.
الإشارة بذلك في قوله: {وكذلك} إلى {بعثناهم ليتساءلوا} [الكهف: 19] أي كما بعثناهم {أعثرنا عليهم}، وأعثر تعدية بالهمزة، وأصل العثار في القدم، فلما كان العاثر في الشيء منتبهًا له شبه به من تنبه لعلم شيء عن له وثار بعد خفائه، والضمير في قوله: {ليعلموا} يحتمل أن يعود على الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم، وإلى هذا ذهب الطبري، وذلك أنهم، فيما روي، دخلتهم حينئذ فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه، وقالوا إنما تحشر الأرواح، فشق على ملكهم ذلك وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد، وتضرع إلى الله في حجة وبيان، فأعثر الله على أهل الكهف، فلما بعثهم الله، وتبين الناس أمرهم، سر الملك ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين به، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله: {إذ يتنازعون بينهم أمرهم} على هذا التأويل، ويحتمل أن يعمل في {أن} على هذا التأويل، {أعثرنا}، ويحتمل أن يعمل فيه {ليعلموا}، والضمير في قوله: {ليعلموا} يحتمل أن يعود على أصحاب الكهف، أي جعل الله أمرهم آية لهم دالة على بعث الأجساد من القبور، وقوله: {إذ يتنازعون} على هذا التأويل ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم، والعامل في {إذ}، فعل مضمر تقديره واذكر، ويحتمل أن يعمل فيه {فقالوا} {إذ يتنازعون} {ابنوا عليهم}. والتنازع على هذا التأويل، إنما هو في أمر البناء أو المسجد، لا في أمر القيامة، والريب: الشك، والمعنى أن الساعة في نفسها وحقيقتها لا شك فيها، وإن كان الشك قد وقع لناس، فذلك لا يلحقها منه شيء، وقيل إن التنازع إنما هو في أن اطلعوا عليهم فقال بعض هم أموات، وبعض هم أحياء، وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم، وتركهم فيه مغيبين، فقالت الطائفة الغالبة على الأمر: لنتخذن عليهم مسجدًا، فاتخذوه، وقال قتادة {الذين غلبوا} هم الولاة، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي: {غُلِبوا} بضم الغين وكسر اللام، والمعنى أن الطائفة التي أرادت المسجد كانت أولًا تريد أن لا يبنى عليهم شيء، وأن لا يعرض لموضعهم، فروي أن طائفة أخرى مؤمنة أرادت ولابد طمس الكهف، فلما غلبت الأولى على أن يكون بنيان لابد، قالت يكون مسجدًا، فكان، وروي أن الطائفة التي دعت إلى البنيان، إنما كانت كافرة، أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم، فمانعهم المؤمنون، وقالوا {لنتخذن عليهم مسجدًا}، وروي عن عبيد بن عمير أن الله عمى على الناس حينئذ أثرهم، وحجبهم عنهم، فلذلك دعا إلى بناء البنيان ليكون معلمًا لهم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وكذلك بعثناهم} أي: وكما فعلنا بهم ما ذكرنا، بعثناهم من تلك النومة {ليتساءلوا} أي: ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم، فيفيد تساؤلهم اعتبار المعتبِرين بحالهم.
{قال قائل منهم كم لبثتم} أي: كم مَرَّ علينا منذ دخلنا هذا الكهف؟ {قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم} وذلك أنهم دخلوا غُدوةً، وبعثهم الله في آخر النهار، فلذلك قالوا: {يومًا}، فلما رأوا الشمس قالوا: {أو بعض يوم} {قالوا ربُّكم أعلم بما لبثتم} قال ابن عباس: القائل لهذا يمليخا رئيسهم، ردَّ عِلْم ذلك إِلى الله تعالى.
وقال في رواية أخرى: إِنما قاله مكسلمينا، وهو أكبرهم.
قال أبو سليمان: وهذا يوجب أن تكون نفوسهم قد حدَّثتْهم أنهم قد لبثوا أكثر مما ذكروا.
وقيل: إِنما قالوا ذلك، لأنهم رأوا أظفارهم وأشعارهم قد طالت جدًا.
قوله تعالى: {فابعثوا أحدكم} قال ابن الأنباري: إِنما قال: {أحدَكم}، ولم يقل: واحدَكم، لئلا يلتبس البعض بالممدوح المعظَّم، فإن العرب تقول: رأيت أحد القوم، ولا يقولون: رأيت واحد القوم، إِلا إِذا أرادوا المعظَّم، فأراد بأحدهم: بعضَهم، ولم يُرِد شريفهم.
قوله تعالى: {بِوَرِقِكُمْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: {بِوَرِقِكُم} الراء مكسورة خفيفة.
وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم ساكنة الراء.
وعن أبي عمرو: {بورقكم} مدغمة يُشِمُّها شيئًا من التثقيل؛ قال الزجاج: تصير كافًا خالصة.
قال الفراء: الوَرِق لغة أهل الحجاز، وتميم يقولون: الوَرْق، وبعض العرب يكسرون الواو، فيقولون: الوِرْق.
قال ابن قتيبة.
الوَرِق: الفضة، دراهم كانت أو غير دراهم، يدلك على ذلك حديث عَرْفَجَة أنه اتخذ أنفًا من وَرِق.
قوله تعالى: {إِلى المدينة} يعنون التي خرجوا منها، واسمها دقسوس، ويقال: هي اليوم طرسوس.
قوله تعالى: {فليَنْظُر أيُّها} قال الزجاج: المعنى: أيُّ أهلها {أزكى طعامًا} وللمفسرين في معناه ستة أقوال.
أحدها: أَحَلُّ ذبيحة؛ قاله ابن عباس، وعطاء، وذلك أن عامة أهل بلدهم كانوا كفارًا، فكانوا يذبحون للطواغيت، وكان فيهم قوم يُخفون إِيمانهم.
والثاني: أَحَلُّ طعامًا، قاله سعيد بن جبير؛ قال الضحاك: وكانت أكثر أموالهم غصوبًا.
وقال مجاهد: قالوا لصاحبهم لا تبتعْ طعامًا فيه ظلم ولا غصب.
والثالث: أكثر، قاله عكرمة.
والرابع: خير، أي: أجود، قاله قتادة.
والخامس: أطيب، قاله ابن السائب، ومقاتل.
والسادس: أرخص، قاله يمان بن رياب.
قال ابن قتيبة: وأصل الزكاء: النماء والزيادة.
قوله تعالى: {فليأتكم برزق منه} أي: بما تأكلونه.
{ولْيتلطف} أي: ليدقِّق النظر فيه، وليحتلْ لئلا يُطَّلَع عليه.
{ولا يُشْعِرَنَّ بِكُم} أي: ولا يُخْبِرَنَّ أحدًا بمكانكم.
{إِنهم إِن يظهروا} أي: يطَّلعوا ويُشرفوا عليكم، {يرجموكم} وفيه ثلاثة أقوال.