فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الظرف متعلق ب {أعثرنا}، أي أعثرنا عليهم حين تنازعوا أمرهم.
وصيغ ذلك بصيغة الظرفية للدلالة على اتصال التنازع في أمر أهل الكهف بالعثور عليهم بحيث تبادروا إلى الخوض في كرامة يجعلونها لهم.
وهذا إدماج لذكر نزاع جرى بين الذين اعتدوا عليهم في أمور شتى جمعها قوله تعالى: {أمرهم} فضمير {يتنازعون} و{بينهم} عائدان إلى ما عاد الله ضمير {ليعلموا}.
وضمير {أمرهم} يجوز أن يعود إلى أصحاب الكهف.
والأمر هنا بمعنى الشأن.
والتنازع: الجدال القوي، أي يتنازع أهل المدينة بينهم شأن أهل الكهف، مثل: أكانوا نيامًا أم أمواتًا، وأيبقون أحياء أم يموتون، وأيبقون في ذلك الكهف أم يرجعون إلى سكنى المدينة، وفي مدة مكثهم.
ويجوز أن يكون ضمير {أمرهم} عائدًا إلى ما عاد عليه ضمير {يتنازعون}، أي شأنهم فيما يفعلونه بهم.
والإتيان بالمضارع لاستحضار حالة التنازع.
طوي هنا وصف العثور عليهم، وذكر عودهم إلى الكهف لعدم تعلق الغرض بذكره، إذ ليس موضع عبرة لأن المصير إلى مرقدهم وطرو الموت عليهم شأن معتاد لكل حي.
وتفريع {فقالوا} على {يتنازعون}.
وإنما ارتأوا أن يبنوا عليهم بنيانًا لأنهم خشوا عليهم من تردد الزائرين غير المتأدبين، فلعلهم أن يؤذوا أجسادهم وثيابهم باللمس والتقليب، فأرادوا أن يبنوا عليهم بناءً يمكن غلق بابه وحراسته.
وجملة {ربهم أعلم بهم} يجوز أن تكون من حكاية كلام الذين قالوا، ابنوا عليهم بنيانًا.
والمعنى: ربهم أعلم بشؤونهم التي تنزعنا فيها، فهذا تنهية للتنازع في أمرهم.
ويجوز أن تكون معترضة من كلام الله تعالى في أثناء حكاية تنازع الذين أعثروا عليهم، أي رب أهل الكهف أو رب المتنازعين في أمرهم أعلم منهم بواقع ما تنازعوا فيه.
والذين غلبوا على أمرهم ولاة الأمور بالمدينة، فضمير {أمرهم} يعود إلى ما عاد إليه ضمير {فقالوا}، أي الذين غلبوا على أمر القائلين: ابنوا عليهم بنيانًا.
وإنما رأوا أن يكون البناء مسجدًا ليكون إكرامًا لهم ويدوم تعهد الناس كهفهم.
وقد كان اتخاذ المساجد على قبور الصالحين من سنة النصارى، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله عنها: «ولولا ذلك لأبرز قبرُه»، أي لأبرز في المسجد النبوي ولم يجعل وراء جدار الحجرة.
واتخاذ المساجد على القبور، والصلاة فيها منهي عنه، لأن ذلك ذريعة إلى عبادة صاحب القبر أو شبيهٌ بفعل من يعبدون صالحي ملتهم.
وإنما كانت الذريعة مخصوصة بالأموات لأن ما يعرض لأصحابهم من الأسف على فقدانهم يبعثهم على الإفراط فيما يحسبون أنه إكرام لهم بعد موتهم، ثم يتناسى الأمر ويظن الناس أن ذلك لخاصية في ذلك الميّت.
وكان بناء المساجد على القبور سنة لأهل النصرانية، فإن كان شرعًا لهم فقد نسخه الإسلام، وإن كان بدعة منهم في دينهم فأجدر. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه بعث أصحاب الكهف من نومتهم الطويلة ليتساءلوا بينهم، أي ليسأل بعضهم بعضًا عن مدة لبثهم في الكهف في تلك النومة، وأن بعضهم قال إنهم لبثوا يومًا أو بعض يوم، وبعضهم رد علم ذلك إلى الله جل وعلا.
ولم يبين هنا قدر المدة التي تساءلوا عنها في نفس الأمر، ولكنه بين في موضع آخر أنها ثلاثمائة سنة بحساب السنة الشمسية، وثلاثمائة سنة وتسع سنين بحساب السنة القمرية، وذلك في قوله تعالى: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا} [الكهف: 25] كما تقدم.
قوله تعالى: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ} الآية.
في قوله هذه الآية {أزكى} قولان للعلماء.
أحدهما- أن المراد بكونه {أزكى} أطيب لكونه حلالًا ليس مما فيه حرام ولا شبهة.
والثاني- أن المراد بكونه أزكى أنه أكثر، كقولهم: زكا الزرع إذا كثر، وكقول الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة ** وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب

أي أكثر من ثلاثة.
والقول الأول هو الذي يدل له القرآن، لأن أكل الحلال والعمل الصالح أمر الله به المؤمنين كما أمر المرسلين قال: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] الآية، وقال: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]. ويكثر في القرآن إطلاق مادة الزكاة على الطهارة كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} [الأعلى: 14] الآية، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] الآية، وقوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21]، وقوله: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 81] وقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
فالزكاة في هذه الآيات ونحوها: يراد الطهارة من أدناس الذنوب والمعاصي، فاللائق بحال هؤلاء الفتية الأخيار المتقين أن يكون مطلبهم في مأكلهم- الحلبة والطهارة، لا الكثرة. وقد قال بعض العلماء: إن عهدهم بالمدينة فيها مؤمنون يخفون إيمانهم، وكافرون. وأنهم يريدون الشراء من طعام المؤمنين دون الكافرين. وإن ذلك مرادهم بالزكاة في قوله: {أزكى طعامًا} وقيل: كان فيها أهل كتاب ومجوس. والعلم عند الله تعالى.
والورق في قوله تعالى: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} الفضة، وأخذ علماء المالكية وغيرهم من هذه الآية الكريمة مسائل من مسائل الفقه.
المسألة الأولى:
- جواز الوكالة وصحتها، لأن قولهم {فابعثوا أحدكم بورقكم} الآية تدل على توكيلهم لهذا المبعوث لشراء الطعام. وقال بعض العلماء: لا تدل الآية على جواز التوكيل مطلقًا بل مع التقية والخوف، لأنهم لو خرجوا كلهم لشراء حاجاتهم لعلم به أعداؤهم في ظنهم فهم معذورون، فالآية تدل على توكيل المعذور دون غيره.
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. وهو قول سحنون من أصحاب مالك في التوكيل على الخصام.
قال ابن العربي: وكأن سحنون تلقه من أسد بن الفرات، فحكم به أيام قضائه، ولعله كان يفعل ذلك لأهل الظلم والجبروت إنصافًا منهم وإذلالًا لهم. وهو الحق، فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل. اهـ.
وقال القرطبي: كلام ابن العربي هذا حسن. فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء، والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح- ما أخرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال: «كان لرجل على الَّببي صلى الله عليه وسلم سنّ من الإبل، فجاء يتقاضاه فقال: أعطوه. فطلبوا سنّه فلم يجدوا إلا سنًا فوقها. فقال أعطوه. فقال: أوفيتني أوفى الله لك. وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: إن خيركم أحسنكم قضاء» لفظ البخاري.
فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر صحيح البدن، فإن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أمر لأصحابه أن يعطوا عنه السن التي عليه وذلك توكيل منه لهم على ذلك، ولم يكن النَّبي صلى الله عليه وسلم مريضاُ ولا مسافرًا. وهو ذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما: أنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح إلا برضا خصمه وهذا الحديث خلاف قولهما اهـ. كلام القرطبيز ولا يخفى ما فيه، لأن أبا حنيفة وسحنونًا إنما خالفا في الوكالة على المخاصمة بغير إذن الخصم فقط، ولم يخالفا في الوكالة في دفع الحق.
وبهذه المناسبة سنذكر إن شاء الله الأدلة من الكتاب والسنة على صحة الوكالة وجوازها، وبعض المسائل المحتاج إليها من ذلك، تنبيهًا بها على غيرها.
اعلم أولًا وصحتها في الجملة. فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى هنا: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} هذه الآية، وقوله تعالى: {} [التوبة: 60] الآية، فإن عملهم عليها توكيل لهم على أخذها.
واستدل لذلك بعض العلماء أيضًا بقوله: {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي} [يوسف: 93] الآية، فإنه توكيل لهم من يوسف على إلقائهم قميصه على وجه أبيه ليرتد بصيرًا.
واستدل بعضهم لذلك ايضًا بقوله تعالى عن يوسف: {قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض} [يوسف: 55] الاية، فإن توكيل على ما في خزائن الأرض.
وأما السنة فقد دلت أحاديث كثيرة على جواز الوكالة وصحتها، كم ذلك حديث أبي هريرة المتقدم في كلام القرطبي، الدال على التوكيل في قضاء الدين، وهو حديث متفق عليه. وأخرج الجماعة إلا البخاري من حديث أبي رافع عن النَّبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
ومنها حديث عروة بن أبي جعد البارقي: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا ليشتري به له شاة، فاشترى له به شاتين: فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا بالبركة في بيعه.
وكان لو اشترى التراب لربح فيه، رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني وفيه التوكيل على الشراء.
ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قفلت: إني أردت الخروج إلى خيبر؟ فقال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقًا، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته» أخرجه أبو داود والدارقطني. وفيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن له ولكيلًا.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» وهو صريح في التوكيل في إقامة الحدود.
ومنها حديث علي رضى الله عنه قال: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها، وألا أعطي الجازر منها شيئًا- وقال: نحن نعطيه من عندنا» متفق عليه. وفيه التوكيل على القيام على البدن والتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها. وعدم إعطاء الجازر شيئًا منها.
ومنها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنمًا يقسمها على أصحابه فبقي عتود، فذكره للنَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضح أنت به» متفق عليه أيضًا. وفيه الوكالة في تقسيم الضحايا، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة. وقد أخرج الشيخان في صحيحهما طرفًا كافيًا منها ذكرنا بعضه هنا.
وقد قال ابن حجر في فتح الباري في كتاب الوكالة ما نصه: اشتمل كتاب الوكالة- يعني من صحيح البخاري- على ستة وعشرين حديثًا، المعلق منها ستة، والبقية موصولة. المكرر منها فيه وفيما مضى اثنا عشر حديثًا، والبقية خالصة وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عبد الرحمن بن عوف في قتل أميه بن خلف، وحديث كعب بن مالك في الشاة المذبوحة، وحديث وفد هوازن من طريقيه، وحديث أبي هريرة في حفظ زكاة رمضان، وحديث عقبة بن الحرث في قصة النعيمانن وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم ستة آثار، والله أعلم. انتهى من فتح الباري. وكل تلك الأحاديث دالة على جواز الوكالة وصحتها.
وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على جواز الوكالة وصحتها في الجملة وقال ابن قدامة في المغني: وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك. فإن لا يمكن كل أحد فعل ما يحتاج إليه فدعت الحاجة إليها، انتهى منه. وهذا مما لا نزاع فيه.
فروع تتعلق بمسألة الوكالة:
الفرع الأول- لا يجوز التوكيل إلا في شيء تصح النيابة فيه. فلا تصح في فعل محرم، لأن التوكيل من التعاون، والله يقول: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} [المائدة: 42] الآية.
ولا تصح في عبادة محضة كالصلاة والصوم ونحوهما، لأن ذلك مطلوب من كل أحد بعينه، فلا ينوب فيه أحد من أحد، لأن الله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] الآية.
أما الحج عن الميت والمعضوب، والصوم عن الميت- فقد دلت أدلة أخر على النيابة في ذلك. وإن خالف كثير من العلماء في الصوم عن الميت، لأن العبرة بالدليل الصحيح من الوحي، لا بآراء العلماء إلا عند عدم النص من الوحي.
الفرع الثاني- ويجوز التوكيل في المطالبة بالحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها. سواء كان الموكل حاضرًا أو غائبًا، صحيحًا أو مريضًا. وهذا قول جمهور العلماء، منهم مالك والشافعي وأحمد وابن أبي ليلى ويوسف ومحمد وغيرهم. وقال أبو حنيفة: للخصم أن يمتنع من محاكمه الوكيل إذا كان الموكل حاضرًا غير معذور، لأن حضوره مجلس الحكم ومخاصمته حق لخصمه عليه فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضا خصمه. وقد قدمنا في كلام القرطبي: أن هذا قول سحنون أيضاَ من أصحاب مالك. واحتج الجمهور بظواهر النصوص لأن الخصومة أمر لا مانع من الاستنابة فيه.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي- والله تعالى أعلم- في مسألة التوكيل على الخصام والمحاكمة: أن الصواب فيها التفصيل. فإن الموكل ممن عرف بالظلم والجبروت والادعاء بالباطل- فلا يقبل منه التوكيل لظاهر قوله تعالى: {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]. وإن كان معروفًا بغير ذلك فلا مانع من توكيله على الخصومة. والعلم عند الله تعالى.